1. المقالات
  2. أعمال القلوب
  3. لماذا بدأت سورة البقرة بصفات المتقين

لماذا بدأت سورة البقرة بصفات المتقين

الكاتب : د. شيلان محمد علي القرداغي
تحت قسم : أعمال القلوب
2067 2017/09/13 2024/03/19

عند قراءة سورة البقرة، فإنَّ أول آية مفهومة لنا هي الآية التي أثلجتْ صدورَ المؤمنين، ولا تزال، وستبقى ما بقي القرآن، وهي آيةٌ رفَع الله فيها الريب والشك عن القرآن، فأصبح المؤمنون على بيِّنة مِن كتابهم الذي بين أيديهم، فاستفتح لهم كتابَه بطمأنة قلوبهم لما بين أيديهم بأنها الحق الذي لا يأتيه الباطلُ، لا مِن بين يديه ولا مِن خلفه، فاستحقَّت تلك الآية أن تكون أحب آية لقلوب المسلمين.

ثم أردف القرآن هذه الآية العظيمة مباشرة بصفات المتقين، ولكن لماذا هذا الاستهلال لكتابه، وفي بداية أطول سورة؟

هذه البداية هي فضلٌ مِن الله سبحانه وتعالى علينا، فهو يجعلنا نَعرِض أنفسنا وقلوبنا وأعمالنا على مقاييس القرآن؛ لنكون على بينةٍ مما نحن فيه، فقبلَ أن نَسبِرَ غَورَ الآيات الأخرى يجب أن نعلمَ مَن نحن، ومِن أي فئةٍ نستطيع أن نصنفَ أنفسنا، فصفاتُ المتقين واضحة بيِّنة مختصرة في آياتٍ قليلة، فهل يستطيع المسلم أن يصلَ إلى درجة التقوى بسهولة لِيُشمَلَ بهدي القرآن؟!

 

قال ابنُ القيم رحمه الله معرفًا التقوى: حقيقتُها العملُ بطاعة الله إيمانًا واحتسابًا، أمرًا ونهيًا، فيفعل ما أمر الله به إيمانًا بالآمر، وتصديقًا بوعدِه، ويترك ما نهى الله عنه إيمانًا بالناهي، وخوفًا مِن وعيده[1].

 

تعاريفُ التقوى كثيرة، ولكنها كلها تدور حول هذا التعريف قربًا وبُعدًا، ولكن هل التقوى بهذه السهولة؟

لا، التقوى أصعبُ مِن هذا بكثير؛ ففي الآية الثالثة من سورة البقرة يبدأ القرآن بوصف المتقين، وهو وَصْفٌ صعبٌ ثقيل إلا على مَن هداه الله ووفَّقه وخفَّف عليه طاعته وتقواه؛ يقول تعالى: ﴿ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ ﴾ [البقرة: 3].

 

ثلاثةُ أوصاف في آية واحدة، في كلِّ واحدة منها صعوبة وثقل مِن نوع خاص:

الوصف الأول: الإيمان بالغيب، وهو مِن أصعب ما يكون، ولولا شدتُه على النفس ما بدأ به القرآن، فكيف يُمكن للنفس البشرية أن تؤمن بما لم تره، وكيف يمكن لها أن تتصوَّرَ أمورًا خارج عالم الشهادة، فالمتقونُ الأوائلُ آمنوا بالله لمجرد أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال إن الله موجود، وقال بوجود غيبيات أخرى؛ كالبعث والنشور والجنة والنار والملائكة وغيرها، آمنوا بها مباشرةً، وهم مِن مجتمعٍ نشأ وتربَّى على الكفر، "فهم لا يُقارَنون بنا، نحن نشأنا منذ الصغر على الإيمان بكل ذلك، ثم كبرنا وفهمنا وزاد إيماننا بهذه اليقينيات، وساعدَتْنا أمور كثيرة، فتطوُّر العلوم يومًا بعد يوم، وانجلاء أمورٍ كانت من الغيب - لم نكن لنستطيع تخيلها - أمام أعيننا جعلَتْنا نسجد بيقين متسامٍ نحو الوصول إلى الكمال في الإيمان بالغيب، ويزيد إيماننا أن كلَّ هذا الغيب وصلنا من رسول أمي لم يكن يعلم مِن هذه العلوم شيئًا".

 

فإيمان هؤلاء القوم عظيم، آمنوا في البداية لعلمهم أنَّ الرسول صلى الله عليه وسلم لا يكذب، ثم ازداد إيمانهم بعد أنْ دخَل نور الإيمان إلى قلوبهم، وأيقنوا أن الرسول صلى الله عليه وسلم لا يَنطِق عن الهوى، وكل ما يخبر به هو الحق حتى لو لم يفهموا حقيقته ولم يعلموا كُنهه.

 

الوصف الثاني: إقامة الصلاة، وهي الأخرى صعبة على النفس، فهي التزامٌ متواصل طيلة الليل والنهار بأوقات معينة محددة يجب ألا يتقدَّم أو يتأخَّر عنها، كما أنَّ لها شروطًا أخرى عديدة غير الوقت، فأهمُّها الطهارة واستقبال القبلة وسَتْر العورة وغيرها، وكل هذا فيه تكليفٌ للنفس الإنسانية التي تميل إلى التحرُّر وعدم الانضباط.

 

الوصف الثالث: الإنفاق، وهو الآخَرُ شديد، فهل مِن السهل أن يقضي الإنسان نهاره في التكسب، ثم يتصدَّق بما جمعه مِن تعبه وعرق جبينه، ليشرك فيه مَن لم يَتعب فيه، ويُرسله إلى مَن لم يكسبه؟!

فهذه الأمور الثلاثة هي من أصعب ما يكون على النفس الإنسانية.

 

الإيمان بأمور لا يمكن للعقل البشري القاصر تخيُّلها، والانضباط الجسدي والنفسي، وضبط غريزة حب التملُّك والأنانية، فبدأ بهذه الثلاثة لنكونَ على بينة إن أردنا الوصول إلى التقوى، فهذه هي الركائز الأساس التي يستند إليها هذا الأمرُ، وعلامات التقوى الأخرى المذكورة في القرآن تدور حولها جميعًا.

 

ثم ننتقل إلى الآية الرابعة: ﴿ وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ ﴾ [البقرة: 4]، وفيها تفصيلٌ لما وَرَد قبلها من الإيمان بالغيب، فيعطينا مواصفات أخرى للمتقين؛ فهم يؤمنون بالقرآن، ويؤمنون بالكتب السابقة للقرآن، "والأهم في الأمر أنهم يؤمنون بأنها مُنزَّلة مِن الله"، ومن ثم يؤمنون بغيبٍ مِن نوع آخر وهو الإيمانُ بالجزاء العادل يوم القيامة، فالإيمانُ باليوم الآخر غيبٌ، وتوقُّع الجزاء هو الآخر غيبٌ.

فمَن اتصف بما سبق فقد شمل بالهداية الربانية، فكأنَّ الهدى ينزل عليه مِن رب العالمين، وبالنتيجة هو من المفلحين.

إن القرآن لم يكتفِ بوصف المتقين، بل أخبرَنا بالجزاء المنتظر ليكونَ حافزًا لكل مسلم ومؤمن لكي يصل إلى درجة التقوى.

 

فكأنَّ الله اختَصَر لنا صفات المؤمنين البالغين درجة التقوى بالإيمان بالغيب بأنواعه، وتهذيب النفس لطاعة الله في كل وقت وحين مِن ليلٍ أو نهارٍ بأنواع الطاعات، "ومَن تَدَرَّب على هذا الاستعداد والعمل المستمر، فإنه يسهل عليه طاعة ربه في كل حين، ولكل أمر".

 

الثاني والثالث: التخلُّص مِن شُح النفس، فمَن بدأ بالزكاة وأداها، فإن نفسه تتعوَّد العطاء، فتصبح الصدقة عليه أسهل، ومن ثَم يبذل المال والوقت والجسد في سبيل الآخرين.

 

ثم ينقلنا القرآن بعد ذلك نقلة نوعية رائعة، فيعصف بقلوبنا وعقولنا عصفةً قويةً تنقلنا من صفات قمة التقوى إلى صفات قمة الكفر الذي لا توبة بعدها، فيختصر صفات الكافرين بآية واحدة، فكأنه يقول لنا: لا تبحثوا كثيرًا؛ فالكافر لا يخفى، ويكفي أن ترى فيه هاته الصفات حتى تسميه بالكفر؛ ﴿ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ ﴾ [البقرة: 6]؛ أي: لا يؤثِّر فيهم النصح والوعظ، فإذا دعوتموهم لم يسمعوا ولم يتَّعظوا فلا يتغير حالهم.

 

فوعظهم وعدم وعظهم سواء، فهي صفة ظاهرة ولا تحتاج إلى البحث، ونتيجة عنادهم وعدم اتعاظهم هي ختم الله على حواسهم التي تستعمل للهداية من قلب وسمع وبصر؛ ﴿ خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ﴾ [البقرة: 7].

 

بيَّن سبحانه المتقين والكافرين، وهؤلاء لا لبس فيهما ويُعرَفان مباشرة، وكلُّ شخص يعرف مكانه من الاثنين، أما الحالة الثالثة فهي ما يختلط أمرها على الكثيرين وهي حال المنافقين.

 

(ولنا عودة لها إن شاء الله)

اللهم اجعلنا من المتقين الخالصين المخلصين لك يا رب العالمين

وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم



[1] الرسالة التبوكية (زاد المهاجر إلى ربه)، محمد بن أبي بكر ابن قيم الجوزية، تحقيق: محمد جميل غازي، مكتبة المدني، جدة: ص13.



المقال السابق المقال التالى

مقالات في نفس القسم

موقع نصرة محمد رسول اللهIt's a beautiful day