1. المقالات
  2. حقوق الرسول على أمته - أبو يوسف محمد زايد
  3. تعظيم أمره ووجوب توقيره وبره

تعظيم أمره ووجوب توقيره وبره

 ما ورد في ذلك من النصوص
*قال الله تعالى : (إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً * لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً * ) ( الفتح- 8-9 )
-وقال:(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ)(الحجرات 1 )
وقال :( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَن تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنتُمْ لَا تَشْعُرُونَ * إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِندَ رَسُولِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ * ) ( الحجرات 2- 3)
-وقال تعالى : (لَا تَجْعَلُوا دُعَاء الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاء بَعْضِكُم بَعْضاً ) (النور : 63 )
فأوجب الله تعالى تعزيزه وتوقيره ، وألزم إكرامه وتعظيمه .
-قال ابن عباس : تعزروه : تجلوه .وقال المبرد : تعزروه : تبالغوا في تعظيمه.وقال الأخفش: تنصرونه . وقال الطبري :تعينونه . وقرىء : تعززوه ـ بزايين ـ من العز . ونهي عن التقدم بين يديه بالقول ،     و سوءالأدب بسبقه بالكلام ، على قول ابن عباس وغيره ، وهو اختيار ثعلب .
-قال سهل بن عبد الله : لا تقولوا قبل أن يقول ، وإذا قال فاستمعوا له وأنصتوا .
ونهوا عن التقدم والتعجل بقضاء أمر قبل قضائه فيه ، وأن يفتاتوا يشيء في ذلك من قتال أو غيره من أمر دينهم ، ولا يسبقوه به .
وإلى هذا يرجع قول الحسين ، ومجاهد ، والضحاك ، والسدي ، والثوري .
ثم وعظهم وحذرهم مخالفة ذلك ، فقال : (وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ)(الحجرات 1 ).
-قال الماوردي : اتَّقُوا ـ يعني في التقدم .
-وقال السلمي : اتقوا الله في إهمال حقه وتضييع حرمته ، إنه سميع لقولكم ، عليم بفعلكم .
-ثم نهاهم عن رفع الصوت فوق صوته ،والجهر له بالقول كما يجهر بعضهم لبعض ويرفع صوته .
وقيل : كما ينادي بعضهم بعضاً باسمه .
-قال أبو محمد مكي : أي لا تسابقوه بالكلام ، وتغلظوا له بالخطاب ، ولا تنادوه باسمه نداء بعضكم بعضاً ولكن عظموه ونادوه بأشرف ما يحب أن ينادي به : يا رسول الله، يا نبي الله .
وهذا كقوله في الآية الأخرى : (لَا تَجْعَلُوا دُعَاء الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاء بَعْضِكُم ) (النور : 63 ) على أحد التأويلين .
-وقال غيره لا تخاطبوه إلا مستفهمين .
-ثم خوفهم الله تعالى بحبط أعمالهم إن هم فعلوا ذلك ، وحذرهم منه .
-وقيل : نزلت الآية في وفد بني تميم ـ وقيل : في غيرهم ، أتوافنادوه : يا محمد ، يا محمد ، اخرج إلينا . فذمهم الله تعالى بالجهل ، ووصفهم بأن أكثرهم لا يعقلون .
-وقيل : نزلت الآية في محاورة كانت بين أبي بكر وعمر بين يدي النبي  ، واختلاف جرى بينهما ، حتى ارتفعت أصواتها .
-وقيل : نزلت في ثابت بن قيس بن شماس خطيب النبي   في مفاخرة بني تميم ، وكان في أذنيه صمم فكان يرفع صوته ، فلما نزلت هذه الآية أقام في منزله ، وخشي أن يكون حبط عمله ، ثم أتى النبي   فقال : يا نبي الله ، لقد خشيت أن أكون هلكت ، نهانا الله أن نجهر بالقول ، وأنا امرؤ جهير الصوت .
فقال النبي   : أما ترضى أن تعيش حميداً ، وتقتل شهيداً ، وتدخل الجنة ! فقتل يوم اليمامة .
-وروي أن أبا بكر لما نزلت هذه الآية قال : والله يا رسول الله ، لا أكلمك بعدها إلا كأخي السرار .
-وأن عمر كان إذا حدثه كأخي السرار ،ما كان يسمع رسول الله بعد هذه الآية حتى يستفهمه ، فأنزل الله تعالى فيهم : إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِندَ رَسُولِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ * ) ( الحجرات 3)
-وقيل : نزلت : (إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِن وَرَاء الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ) (الحجرات : 4 ) ـ في غير بني تميم ، نادوه باسمه .
-وروى صفوان بن عسال : بينا النبي في سفر إذا ناداه أعرابي بصوت له جهوري : أيا محمد . أيا محمد ، قلنا له : اغضض من صوتك ، فإنك قد نهيت عن رفع الصوت .
-وقال الله تعالى : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقُولُواْ رَاعِنَا وَقُولُواْ انظُرْنَا وَاسْمَعُوا ْوَلِلكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ) (البقرة : 104 ).
-قال بعض المفسرين : هي لغة كانت في الأنصار ، نهوا عن قولها تعظيماً للنبي ، وتبجيلا له ، لأن معناها : ارعنا نرعك ، فنهوا عن قولها ، إذ مقتضاها كأنهم لا يرعونه إلا برعايته لهم ، بل حقه أن يرعى على كل حال .
-وقيل : كانت اليهود تعرض بها للنبي بالرعونة ، فنهى المسلمون عن قولها ، قطعاً للذريعة ،       ومنعاً للتشبيه بهم في قولها ، لمشاركة اللفظة . وقيل غير هذا .
               وقفة مع الإمام القرطبي في تفسير  الآيات من 1 على 5 من سورة الحجرات
]يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ( 1 ) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَن تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنتُمْ لَا تَشْعُرُونَ ( 2 ) إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِندَ رَسُولِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ ( 3 ) إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِن وَرَاء الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ ( 4 ) وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ( 5     [ 
 
الآية: 1 {يا أيها الذين آمنوا لا تقدموا بين يدي الله ورسوله واتقوا الله إن الله سميع عليم}
قوله تعالى: "يا أيها الذين آمنوا لا تقدموا بين يدي الله ورسوله" قال العلماء: كان في العربي جفاء وسوء أدب في خطاب النبي  وتلقيب الناس. فالسورة في الأمر بمكارم الأخلاق ورعاية الآداب. وقرأ الضحاك ويعقوب الحضرمي: "لا تَقَدَّموا" بفتح التاء والدال من التقدم. الباقون "تُقدِموا" بضم التاء وكسر الدال من التقديم. ومعناهما ظاهر، أي لا تقدموا قولا ولا فعلا بين يدي الله وقول رسوله وفعله فيما سبيله أن تأخذوه عنه من أمر الدين والدنيا. ومن قدم قوله أو فعله على الرسول   فقد قدمه على الله تعالى، لأن الرسول  إنما يأمر عن أمر الله عز وجل.
واختلف في سبب نزولها على أقوال ستة:
 الأول: ما ذكره الواحدي من حديث ابن جريج قال: حدثني ابن أبي مليكة أن عبدالله بن الزبير أخبره أنه قدم ركب من بني تميم على رسول الله  ، فقال أبو بكر: أمر القعقاع بن معبد. وقال عمر: أمر الأقرع بن حابس. فقال أبو بكر: ما أردت إلا خلافي. وقال عمر: ما أردت خلافك. فتماديا حتى ارتفعت أصواتهما، فنزل في ذلك: "يا أيها الذين آمنوا لا تقدموا بين يدي الله ورسوله - إلى قوله - ولو أنهم صبروا حتى تخرج إليهم". رواه البخاري عن الحسن بن محمد بن الصباح، ذكره المهدوي أيضا.
الثاني: ما روي أن النبي  أراد أن يستخلف على المدينة رجلا إذا مضى إلى خيبر، فأشار عليه عمر برجل آخر، فنزل: "يا أيها الذين آمنوا لا تقدموا بين يدي الله ورسوله". ذكره المهدوي أيضا.
الثالث: ما ذكره الماوردي عن الضحاك عن ابن عباس رضي الله عنهما: أن النبي  أنفذ أربعة وعشرين رجلا من أصحابه إلى بني عامر فقتلوهم، إلا ثلاثة تأخروا عنهم فسلموا وانكفؤوا إلى المدينة، فلقوا رجلين من بني سليم فسألوهما عن نسبهما فقالا: من بني عامر، لأنهم أعز من بني سليم فقتلوهما، فجاء نفر من بني سليم إلى رسول الله   فقالوا: ان بيننا وبينك عهدا، وقد قتل منا رجلان، فوداهما النبي  بمائة بعير، ونزلت عليه هذه الآية في قتلهم الرجلين.
الرابع: وقال قتادة: إن ناسا كانوا يقولون لو أنزل في كذا، لو أنزل فيّ كذا؟ فنزلت هذه الآية.5وعن ابن عباس: نهوا أن يتكلموا بين يدي كلامه.
 الخامس :وقال مجاهد: لا تفتاتوا على الله ورسوله حتى يقضي الله على لسان رسوله، ذكره البخاري أيضا.
السادس :وقال الحسن: نزلت في قوم ذبحوا قبل أن يصلي رسول الله  ، فأمرهم أن يعيدوا الذبح...  وعن ابن جريج: لا تقدموا أعمال الطاعات قبل وقتها الذي أمر الله تعالى به ورسوله  .
قلت: هذه الأقوال الخمسة المتأخرة ذكرها القاضي أبو بكر بن العربي، وسردها قبله الماوردي. قال القاضي: وهي كلها صحيحة تدخل تحت العموم، فالله أعلم ما كان السبب المثير للآية منها، ولعلها نزلت دون سبب، والله أعلم.
 قال القاضي: إذا قلنا إنها نزلت في تقديم الطاعات على أوقاتها فهو صحيح، لأن كل عبادة مؤقتة بميقات لا يجوز تقديمها عليه كالصلاة والصوم والحج، وذلك بين. إلا أن العلماء اختلفوا في الزكاة، لما كانت عبادة مالية وكانت مطلوبة لمعنى مفهوم، وهو سد خلة الفقير، ولأن النبي  استعجل من العباس صدقة عامين، ولما جاء من جمع صدقة الفطر قبل يوم الفطر حتى تعطى لمستحقيها يوم الوجوب وهو يوم الفطر، فاقتضى ذلك كله جواز تقديمها العام والاثنين. فإن جاء رأس العام والنصاب بحاله وقعت موقعها. وإن جاء رأس العام وقد تغير النصاب تبين أنها صدقة تطوع. وقال أشهب: لا يجوز تقديمها على الحول لحظة كالصلاة، وكأنه طرد الأصل في العبادات فرأى أنها إحدى دعائم الإسلام فوفاها حقها في النظام وحسن الترتيب. ورأى سائر علمائنا أن التقديم اليسير فيها جائز، لأنه معفو عنه في الشرع بخلاف الكثير. وما قاله أشهب أصح، فإن مفارقة اليسير الكثير في أصول الشريعة صحيح، ولكنه لمعان تختص باليسير دون الكثير. فأما في مسألتنا فاليوم فيه كالشهر، والشهر كالسنة. فإما تقديم كلي كما قال أبو حنيفة والشافعي، وإما حفظ العبادة على ميقاتها كما قال أشهب.
 قوله تعالى: "لا تقدموا بين يدي الله" أصل في ترك التعرض لأقوال النبي  ، وإيجاب اتباعه والاقتداء به، وكذلك قال النبي في مرضه: [مروا أبا بكر فليصل بالناس]. فقالت عائشة لحفصة رضي الله عنهما: قولي له إن أبا بكر رجل أسيف وإنه متى يقم مقامك لا يُسْمع الناس من البكاء، فَمُرْ عمر فليصل بالناس. فقال  : [إنكن لأنتن صواحب يوسف. مروا أبا بكر فليصل بالناس]. فمعنى قول [صواحب يوسف] الفتنة بالرد عن الجائز إلى غير الجائز. وربما احتج بُغَاةُ القياس بهذه الآية. وهو باطل منهم، فإن ما قامت دلالته فليس في فعله تقديم بين يديه. وقد قامت دلالة الكتاب والسنة على وجوب القول بالقياس في فروع الشرع، فليس إذاً تقدمٌ بين يديه. "واتقوا الله" يعني في التقدم المنهي عنه. "إن الله سميع" لقولكم "عليم" بفعلكم.
 الآية: 2 {يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي ولا تجهروا له بالقول كجهر بعضكم لبعض أن تحبط أعمالكم وأنتم لا تشعرون}
قوله تعالى: "يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي" روى البخاري والترمذي عن ابن أبي مليكة قال: حدثني عبدالله بن الزبير أن الأقرع بن حابس قدم على النبي  ، فقال أبو بكر: يا رسول الله استعمله على قومه، فقال عمر: لا تستعمله يا رسول الله، فتكلما عند النبي  حتى ارتفعت أصواتهما، فقال أبو بكر لعمر: ما أردت إلا خلافي. فقال عمر: ما أردت خلافك، قال: فنزلت هذه الآية: "يا أيها لذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي" قال: فكان عمر بعد ذلك إذا تكلم عند النبي  لم يسمع كلامه حتى يستفهمه. قال: وما ذكر ابن الزبير جده يعني أبا بكر. قال: هذا حديث غريب حسن. وقد رواه بعضهم عن ابن أبي مليكة مرسلا، لم يذكر فيه عن عبدالله بن الزبير.
قلت: هو البخاري، قال: عن ابن أبي مليكة كاد الخيران أن يهلكا أبو بكر وعمر، رفعا أصواتهما عند النبي  حين قدم عليه ركب بني تميم، فأشار أحدهما بالأقرع بن حابس أخي بني مجاشع، وأشار الآخر برجل آخر، فقال نافع: لا أحفظ اسمه، فقال أبو بكر لعمر: ما أردت إلا خلافي. فقال: ما أردت خلافك. فارتفعت أصواتهما في ذلك، فأنزل الله عز وجل: "يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي" الآية. فقال ابن الزبير: فما كان عمر يسمع رسول الله  بعد هذه الآية حتى يستفهمه. ولم يذكر ذلك عن أبيه، يعني أبا بكر الصديق. وذكر المهدوي عن علي رضي الله عنه: نزل قوله: "لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي" فينا لما ارتفعت أصواتنا أنا وجعفر وزيد بن حارثة، نتنازع ابنة حمزة لما جاء بها زيد من مكة، فقضى بها رسول الله  لجعفر، لأن خالتها عنده...
وفي الصحيحين عن أنس بن مالك أن النبي  افتقد ثابت بن قيس فقال رجل: يا رسول الله، أنا أعلم لك علمه، فأتاه فوجده جالسا في بيته منكسا رأسه، فقال له: ما شأنك؟ فقال: شر كان يرفع صوته فوق صوت النبي  فقد حبط عمله وهو من أهل النار. فأتى الرجل النبي  فأخبره أنه قال كذا وكذا. فقال موسى: فرجع إليه المرة الآخرة ببشارة عظيمة، فقال: (اذهب إليه فقل له إنك لست من أهل النار ولكنك من أهل الجنة) (لفظ البخاري) وثابت هذا هو ثابت بن قيس بن شماس الخزرجي يكنى أبا محمد بابنه محمد. وقيل: أبا عبدالرحمن. قتل له يوم الحرة ثلاثة من الولد: محمد، ويحيى، وعبدالله. وكان خطيبا بليغا معروفا بذلك، كان يقال له خطيب رسول الله  ، كما يقال لحسان شاعر رسول الله  . ولما قدم وفد تميم على رسول الله وطلبوا المفاخرة قام خطيبهم فافتخر، ثم قام ثابت بن قيس فخطب خطبة بليغة جزلة فغلبهم، وقام شاعرهم وهوالأقرع بن حابس فأنشد:
                   أتيناك كيما يعرف الناس فضلنا       إذا خلفونا عند  ذكر المكــارم
                   وإنا رؤوس الناس من كل معشر      وأن ليس في أرض  الحجاز كدارم
                   وإن لنا المرباع في كــل غارة       تكون بنجد أو بأرض التـهـائم
فقام حسان فقال:
                   بني دارم لا تفخروا إن فخركم         يعود وبالا عند ذكر المكارم
                   هبلتم علينا تفخرون وأنتم لنـا         خول من بين ظئر وخـادم
في أبيات لهما.
فقالوا: خطيبهم أخطب من خطيبنا، وشاعرهم أشعر من شاعرنا، فارتفعت أصواتهم فأنزل الله تعالى: "لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي ولا تجهروا له بالقول". وقال عطاء الخراساني: حدثتني ابنة ثابت بن قيس قالت: لما نزلت: "يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي" الآية، دخل أبوها بيته وأغلق عليه بابه، ففقده النبي صلى الله عليه وسلم فأرسل إليه يسأله ما خبره، فقال: أنا رجل شديد الصوت، أخاف أن يكون حبط عملي. فقال عليه السلام: (لست منهم بل تعيش بخير وتموت بخير). قال: ثم أنزل الله: "إن الله لا يحب كل مختال فخور" [لقمان: 18] فأغلق بابه وطفق يبكي، ففقده النبي فأرسل إليه فأخبره، فقال: يا رسول الله، إني أحب الجمال وأحب أن أسود قومي. فقال: [لست منهم بل تعيش حميدا وتقتل شهيدا وتدخل الجنة]. قالت: فلما كان يوم اليمامة خرج مع خالد بن الوليد إلى مسيلمة فلما التقوا انكشفوا، فقال ثابت وسالم مولى أبي حذيقة: ما هكذا كنا نقاتل مع رسول الله  ، ثم حفر كل واحد منهما له حفرة فثبتا وقاتلا حتى قتلا، وعلى ثابت يومئذ درع له نفيسة، فمر به رجل من المسلمين فأخذها، فبينا رجل من المسلمين نائم أتاه ثابت في منامه فقال له : أوصيك بوصية، فإياك أن تقول هذا حلم فتضيعه، إني لما قتلت أمس مر بي رجل من المسلمين فأخذ درعي ومنزله في أقصى الناس، وعند خبائه فرس يستن في طوله، وقد كفأ على الدرع برمة، وفوق البرمة رحل، فأت خالدا فمره أن يبعث إلى درعي فيأخذها، وإذا قدمت المدينة على خليفة رسول الله  - يعني أبا بكر - فقل له: إن علي من الدين كذا وكذا، وفلان من رقيقي عتيق وفلان، فأتى الرجل خالدا فأخبره، فبعث إلى الدرع فأتى بها وحدث أبا بكر برؤياه فأجاز وصيته. قال: ولا نعلم أحدا أجيزت وصيته بعد موته غير ثابت، رحمه الله، ذكره أبو عمر في الاستيعاب.
قوله تعالى: "ولا تجهروا له بالقول" أي لا تخاطبوه: يا محمد، ويا أحمد. ولكن: يا نبي الله، ويا رسول الله، توقيرا له. وقيل: كان المنافقون يرفعون أصواتهم عند النبي صلى الله عليه وسلم، ليقتدي بهم ضعفة المسلمين فنهي المسلمون عن ذلك. وقيل: "لا تجهروا له" أي لا تجهروا عليه، كما يقال: سقط لفيه، أي على فيه - "كجهر بعضكم لبعض" الكاف كاف التشبيه في محل النصب، أي لا تجهروا له جهرا مثل جهر بعضكم لبعض. وفي هذا دليل على أنهم لم ينهوا عن الجهر مطلقا حتى لا يسوغ لهم إلا أن يكلموه بالهمس والمخافتة، وإنما نهوا عن جهر مخصوص مقيد بصفة، أعني الجهر المنعوت بمماثلة ما قد اعتادوه منه فيما بينهم، وهو الخلو من مراعاة أبهة النبوة وجلالة مقدارها وانحطاط سائر الرتب وإن جلت عن رتبتها. "لبعض أن تحبط أعمالكم وأنتم لا تشعرون" أي من أجل أن تحبط، أي تبطل، هذا قول البصريين. وقال الكوفيون: أي لئلا تحبط أعمالكم.
معنى الآية الأمر بتعظيم رسول الله r وتوقيره، وخفض الصوت بحضرته وعند مخاطبته، أي إذا نطق ونطقتم فعليكم ألا تبلغوا بأصواتكم وراء الحد الذي يبلغه بصوته، وأن تغضوا منها بحيث يكون كلامه غالبا لكلامكم، وجهره باهرا لجهركم، حتى تكون مزيته عليكم لائحة، وسابقته واضحة، وامتيازه عن جمهوركم كشية الأبلق. لا أن تغمروا صوته بلغطكم، وتبهروا منطقه بصخبكم. وفي قراءة ابن مسعود "لا ترفعوا بأصواتكم". وقد كره بعض العلماء رفع الصوت عند قبره عليه السلام. وكره بعض العلماء رفع الصوت في مجالس العلماء تشريفا لهم، إذ هم ورثة الأنبياء.
قال القاضي أبو بكر بن العربي: حرمة النبي r ميتا كحرمته حيا، وكلامه المأثور بعد موته في الرفعة مثال كلامه المسموع من لفظه، فإذا قرئ كلامه، وجب على كل حاضر ألا يرفع صوته عليه، ولا يعرض عنه، كما كان يلزمه ذلك في مجلسه عند تلفظه به. وقد نبه الله سبحانه على دوام الحرمة المذكورة على مرور الأزمنة بقوله تعالى: "وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا" [الأعراف: 204]. وكلامه r من الوحي، وله من الحكمة مثل ما للقرآن، إلا معاني مستثناة، بيانها في كتب الفقه.
ليس الغرض برفع الصوت ولا الجهر ما يقصد به الاستخفاف والاستهانة، لأن ذلك كفر والمخاطبون مؤمنون. وإنما الغرض صوت هو في نفسه والمسموع من جَرْسِه غير مناسب لما يهاب به العظماء ويوقر الكبراء، فيتكلف الغض منه ورده إلى حد يميل به إلى ما يستبين فيه المأمور به من التعزير والتوقير. ولم يتناول النهي أيضا رفع الصوت الذي يتأذى به رسول الله r ، وهو ما كان منهم في حرب أو مجادلة معاند أو إرهاب عدو أو ما أشبه ذلك، ففي الحديث أنه قال عليه السلام للعباس بن عبدالمطلب لما انهزم الناس يوم حنين: (اصرخ بالناس)، وكان العباس أجهر الناس صوتا. يروى أن غارة أتتهم يوما فصاح العباس: يا صاحباه فأسقطت الحوامل لشدة صوته، وفيه يقول نابغة بني جعدة:
                              زجر أبي عروة السباع إذا       أشفق أن يختلطن بالغنم
زعمت الرواة أنه كان يزجر السباع عن الغنم فيفتق مرارة السبع في جوفه.
قال الزجاج: "أن تحبط أعمالكم" التقدير لأن تحبط، أي فتحبط أعمالكم، فاللام المقدرة لام الصيرورة وليس قوله: "أن تحبط أعمالكم وأنتم لا تشعرون" بموجب أن يكفر الإنسان وهو لا يعلم، فكما لا يكون الكافر مؤمنا إلا باختياره الإيمان على الكفر، كذلك لا يكون المؤمن كافرا من حيث لا يقصد إلى الكفر ولا يختاره بإجماع. كذلك لا يكون الكافر كافرا من حيث لا يعلم.
الآية: 3 {إن الذين يغضون أصواتهم عند رسول الله أولئك الذين امتحن الله قلوبهم للتقوى لهم مغفرة وأجر عظيم}
قوله تعالى: "إن الذين يغضون أصواتهم عند رسول الله" أي يخفضون أصواتهم عنده إذا تكلموا إجلالا له، أو كلموا غيره بين يديه إجلالا له. قال أبو هريرة: لما نزلت "لا ترفعوا أصواتكم" قال أبو بكر رضي الله عنه: والله لا أرفع صوتي إلا كأخي السرار. وذكر سنيد قال: حدثنا عباد بن العوام عن محمد بن عمرو عن أبي سلمة قال: لما نزلت: "لا تقدموا بين يدي الله ورسوله" [الحجرات: 1] قال أبو بكر: والذي بعثك بالحق لا أكلمك بعد هذا إلا كأخي السرار. وقال عبدالله بن الزبير: لما نزلت: "لا ترفعوا أصواتكم" ما حدث عمر عند النبي rبعد ذلك فسمع كلامه حتى يستفهمه مما يخفض، فنزلت: "إن الذين يغضون أصواتهم عند رسول الله أولئك الذين امتحن الله قلوبهم للتقوى". قال الفراء: أي أخلصها للتقوى. وقال الأخفش: أي اختصها للتقوى. وقال ابن عباس: "امتحن الله قلوبهم للتقوى" طهرهم من كل قبيح، وجعل في قلوبهم الخوف من الله والتقوى. وقال عمر رضي الله عنه: أذهب عن قلوبهم الشهوات. والامتحان افتعال من محنت الأديم محنا حتى أوسعته. فمعنى أمتحن الله قلوبهم للتقوى وسعها وشرحها للتقوى. وعلى الأقوال المتقدمه: امتحن قلوبهم فأخلصها، كقولك: امتحنت الفضة أي اختبرتها حتى خلصت. ففي الكلام حذف يدل عليه الكلام، وهو الإخلاص. وقال أبو عمرو: كل شيء جهدته فقد محنته. وأنشد:
                            أتت رذايا باديا كلالهــا          قد محنت واضطربت آطالها
"لهم مغفرة وأجر عظيم".
الآية: 4 {إن الذين ينادونك من وراء الحجرات أكثرهم لا يعقلون}
قوله تعالى: "إن الذين ينادونك من وراء الحجرات" قال مجاهد وغيره: نزلت في أعراب بني تميم، قدم الوفد منهم على النبي r، فدخلوا المسجد ونادوا النبي r من وراء حجرته أن اخرج إلينا، فإن مدحنا زين وذمنا شين. وكانوا سبعين رجلا قدموا الفداء ذراري لهم، وكان النبي r نام للقائلة. وروي أن الذي نادي الأقرع بن حابس، وأنه القائل: إن مدحي زين وإن ذمي شين، فقال النبي r: [ذاك الله]. ذكره الترمذي عن البراء بن عازب أيضا. وروى زيد بن أرقم فقال: أتى أناس النبي صلى الله عليه وسلم فقال بعضهم لبعض: انطلقوا بنا إلى هذا الرجل، فإن يكن نبيا فنحن أسعد الناس باتباعه، وإن يكن ملكا نعش في جنابه. فأتوا النبي صلى الله عليه وسلم فجعلوا ينادونه وهو في حجرته: يا محمد، يا محمد، فأنزل الله تعالى هذه الآية. قيل: إنهم كانوا من بني تميم. قال مقاتل كانوا تسعة عشر: قيس بن عاصم، والزبرقان بن بدر، والأقرع بن حابس، وسويد بن هاشم، وخالد بن مالك، وعطاء بن حابس، والقعقاع بن معبد، ووكيع بن وكيع، وعيينة بن حصن وهو الأحمق المطاع، وكان من الجرارين يجر عشرة آلاف قناة، أي يتبعه، وكان اسمه حذيفة وسمي عيينة لشتركان في عينيه ذكر عبدالرزاق في عيينة هذا: أنه الذي نزل فيه "ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا" [الكهف: 28]. ... ذكره البخاري. وروي أنهم وفدوا وقت الظهيرة ورسول الله r  راقد، فجعلوا ينادونه: يا محمد يا محمد، أخرج إلينا، فاستيقظ وخرج، ونزلت. وسئل رسول الله r فقال: [هم جفاة بني تميم لولا أنهم من أشد الناس قتالا للأعور الدجال لدعوت الله عليهم أن يهلكهم]. والحجرات جمع الحجرة، كالغرفات جمع غرفة، والظلمات جمع ظلمة. وقيل: الحجرات جمع الحجر، والحجر جمع حجرة، فهو جمع الجمع. وفيه لغتان: ضم الجيم وفتحها. قال:
ولما رأونا باديا ركباتنا على موطن لا نخلط الجد بالهزل
والحجرة: الرقعة من الأرض المحجورة بحائط يحوط عليها. وحظيرة الإبل تسمى الحجرة، وهي فعلة بمعنى مفعولة. وقرأ أبو جعفر بن القعقاع "الحجرات" بفتح الجيم استثقالا للضمتين. وقرئ "الحجرات" بسكون الجيم تخفيفا. وأصل الكلمة المنع. وكل ما منعت أن يوصل إليه فقد حجرت عليه. ثم يحتمل أن يكون المنادي بعضا من الجملة فلهذا قال: "أكثرهم لا يعقلون" أي إن الذين ينادونك من جملة قوم الغالب عليهم الجهل.
 الآية: 5 {ولو أنهم صبروا حتى تخرج إليهم لكان خيرا لهم والله غفور رحيم}
أي لو انتظروا خروجك لكان أصلح في دينهم ودنياهم. وكان
r لا يحتجب عن الناس إلا في أوقات يشتغل فيهما بمهمات نفسه، فكان إزعاجه في تلك الحالة من سوء الأدب وقيل: كانوا جاؤوا شفعاء في أساري بني عنبر فأعتق رسول الله rنصفهم، وفادي على النصف. ولو صبروا لأعتق جميعهم بغير فداء. "والله غفور رحيم".  
المقال السابق المقال التالى
موقع نصرة محمد رسول اللهIt's a beautiful day