وأما الوجه الثالث في فضائل أقواله ، فمعتَبَرٌ بثمانِ خصال : الخَصْلةُ الأولى : ما أوتي من الحكمة البالغة ، وأُعطيَ من العلوم الجَمّة الباهرة ، وهو أُمّيٌّ من أُمّةٍ أُمِّيّة ، لم يقرأ كتاباً ، ولا درس علماً ، ولا صَحِب عالماً ولا مُعلِّماً ، فأتى صلى الله عليه وسلم بما بَهَر العقول ، وأذهَلَ الفِطَن ، من إتقانِ ما أبان ، وإحكام ما أَظهر ، فلم يَعْثُر فيه بزلَل ، في قولٍ أو عمل . وما هذه الفِطرة في الرسول صلى الله عليه وسلم ، إلاّ من صَفاءِ جوهرِه ، وخُلوصِ مَخبَرِه . والخَصْلة الثانية : حِفظُه لِما أطلعه الله تعالى عليه ، من قِصَص الانبياء مع الأمم ، وأخبار العالم في الزمن الأقدم ، حتى لم يَعزُب عنه منها صغير ولا كبير ، ولا شَذَّ عنه منها قليلٌ ولا كثير ، وهو لا يَضبطها بكتاب يَدْرسُهُ ، ولا يَحفَظُها بعينٍ تَحرُسُه ، وما ذاك إلاّ من ذِهنٍ صحيح ، وصدْر فسيح ، وقلبٍ شَريح15، وهذه الثلاثة آلةُ ما استُدِعَ من الرسالة ، وحُمِّلَ من أعباء النبوة ، فجديرٌ أن يكون بها مبعوثاً ، وعلى القيام بها مَحثوثاً . والخصلة الثالثة : إحكامُه لما شَرََع بأظهرِ دليل ، وبيانُه بأوضح تعليل ، حتى لم يَخرُجْ عنه ما يوجبُه معقول ، ولا دَخَلَ فيه ما تَدفَعُه العُقول ، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم : ((أوتيتُ جوامع الكَلِم ، واختُصِرَ لي الكلامُ اختصاراً))1. لأنه نبَّهَ بالقليل على الكثير ، فكفَّ عن الإطالة ، وكشَفض عن الجهالة ، وما تيسَّر له ذلك ، إلاّ وهو عليه مُعان ، وإليه مُقاد . والخصلة الرابعة : ما أمَرَ به من محاسن الأخلاق ، ودَعا إليه من مُستحسَن الآداب ، وحَثَّ عليه من صِلةِ الأرحام ، ونَدَبَ إليه من التعطُّفِ على الضعفاء والأيتام . ثم ما نهى عنه من التباغُض والتحاسُد ، وكفَّ عنه من التقاطع والتباعُد ، لتكونَ الفضائلُ فيهم أكثر ، ومحاسِنُ الأخلاق بينهم أنشَر ، ومُستحسَنُ الآدابِ عليهم أظهر ، ويكونوا إلى الخير أسرع ، ومن الشرِّ أمنَع . فيتحقَّقُ فيهم قولُ الله تعالى : (كنتم خَيْرَ أُمَّةٍ أُخرِجَتْ للنّاس ، تأمُرون بالمعروف ، وتَنْهَوْنَ عن المنكر)2. فلَزِموا أوامرَه ، واتَّقوا زواجِرَه ، فتكاملَ بهم صَلاحُ دينهم ودُنياهم ، حتى عَزَّ بهم الإسلامُ بعدَ ضعفِه ، وذلَّ بهم الشِّركُ بعد عِزِّه ، فصاروا أئمةً أبراراً ، وقادةً أخياراً . والخصلة الخامسة : وُضوحُ جوابِه إذا سُئل ، وظُهورُ حِجاجِه إذا جودِل3، لا يَحْصُرُه عِيّ4، ولا يَقطَعُه عَجْز ، ولا يُعارِضُه خَصْمٌ في جدال ، إلاّ كان جوابُه أوضح ، وحِجاجُه أرجح . والخصلة السادسة : أنه محفوظُ اللسان من تحريفٍ في قول ، واسترسالٍ في خبرٍ يكون إلى الكذب منسوباً ، وللصدقِ مُجانباً ، فإنه فإنه لم يَزَلْ مشهوراً بالصدق في خَبَرِه ناشِئاً وكبيراً ، حتى صار بالصِّدق مَرقوماً5، وبالأمانة مَوسوماً6. وكانت قريش بأَسْرِها تتيقَّنُ صِدقَه قبل الإسلام ، فجهروا بتكذيبه في استدعائهم إليه7، فمنهم من كذَّبه حَسَداً ، ومنهم من كذَّبه عناداً ، ومنهم من كذَّبه استبعاداً أن يكون نبياً أو رسولاً . ولو حَفِظوا عليه كِذبةً نادرةً في غير الرسالة ، لجعلوها دليلاً على تكذيبه في الرسالة . ومن لَزِمَ الصدقَ في صِغَره ، كان له في الكبر ألزَم ، ومن عُصِمَ منه في حقِّ نفسه ، كان في حُقوقِ الله تعالى أعصَم . وحَسْبُك بهذا دَفْعاً لجاحِد ، ورَدّاً لمعانِد . والخصلة السابعة : تَحريرُ كلامه في التوخّي به إبّانَ حاجتِه ، والاقتصارُ منه على قَدْرِ كفايتِه ، فلا يَسترسِلُ فيه هَذَراً8، ولا يُحْجِمُ عنه حَصَراً9، وهو فيما عدا حالتيْ الحاجة والكِفاية ، أجملُ الناسِ صَمْتاً ، وأحسنَهُم سَمْتاً10، ولذلك حُفِظَ كلامُه حتى لم يَخْتَل ، وظَهَرَ رَوْنَقُهُ حتى لم يَعْتَلّ ، واستَعذَبَتْه الأفواه ، حتى بقي محفوظاً في القلوب ، ومُدوَّناً في الكُتُب . والخصلة الثامنة : أنه أفصحُ الناس لِساناً ، وأوضَحُهم بياناً ، وأوجَزُهم كلاماً ، واجْزَلُهم ألفاظاً ، وأصحُّهم مَعانيَ ، لا يَظهَرُ فيه هُجْنَهُ التكلُّف1، ولا يَتخَلَّلُه فيْهَقَةُ التَّعسُّف2، وقد دُوِّنَ كثيرٌ من جوامع كَلِمه ومن كلامه الذي لا يُشاكَلُ في فصاحته وبلاغته3، ومع ذلك فلا يأتي عليه إحصاء ، ولا يَبلُغُه استقصاء . ولو مُزِجَ كلامُه بغيره لتميَّز بأسلوبه ، ولظَهَر فيه آثارُ التنافر، فلم يَلتبس حَقُّه من باطِله ، ولَبانَ صِدقُه من كذبِه4. هذا ، ولم يكن مُتعاطِياً للبلاغة ، ولا مُخالِطاً لأهله من خُطَباءَ أو شُعراءَ أو فُصحاء5، وإنما هو من غرائز فِطْرَتِه ، وبِدايةِ جِبِلَّتِه6، وما ذاك إلاّ لِغايةٍ تُراد ، وحادثةٍ تُشاد7. ------------------------------------------------------- 15 ـ أي قلب واسع . 1 ـ رواه أبو يعلى في ((مسنده)) عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، وإسناده حسن ، ولفظُه : ((أعطيتُ جوامع الكلِم ، واختُصِرَ لي الكلام اختصاراً)) . وهو قريبُ المعنى من حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه ، الذي رواه ابن أبي شيبة والطبراني وأبو يعلى بسند حسن : ((أُعطيتُ فواتحَ الكَلِم ، وجوامعَه ، وخواتمَه)) . و(فواتحُ الكَلِم) وفي رواية (مَفاتحُ الكلِم) : هما جمعُ مِفتاح ومِفْتَح ، وهما في الأصل : كلُّ ما يُتوصَّل به إلى استخراج المُغْلَقات التي يتعذَّر الوصول إليها . و(الكَلِمُ) جمع كَلِمة . والمراد بهما هنا : أنه صلى الله عليه وسلم أُعطِيَ البلاغة والفصاحة ، والتوصُّل إلى غوامض المعاني وبدائع الحِكَم ، ومحاسنِ العبارات والألفاظ التي أُغلِقَتْ على غيره وتعذَّرتْ ، وواسع المعاني الجليلة الشاملة ، بلفظٍ موجز لطيف جامع ، لا تعقيد فيه ولا التواء ولا غموض . و(جوامع الكلم) ـ واحدُها : كلمةٌ جامعة ـ هي الكلمات التي يُعبَّرُ بها عن المعاني الكثيرة بألفاظ قليلة . و(خواتمُ الكلم) ـ واحدها : كلمةٌ خاتمة ـ هي الكلمات الخاتمة الحاوية للمعاني الكثيرة بحيث لا يَخرُجُ عنها شيء عن طالبه ، مع عُذوبتها وجزالتها وإستيفائها ، وحسنِ الوقف ورعاية الفواصل . وقد كان صلى الله عليه وسلم أفصح الناس ، يفتتح كلامَه بأعذب لفظ وأجزله ، وأفصحِه وأوضحِه ، ويختمه بمقطع وجيز بليغ جامع ، يشوِّقُ السامع إلى الإقبل على الاستماع له والحرصِ عليه . وقولُه : (واختُصِرَ لي الكلامُ اختصاراً) يعني أوجِزَ لي الكلام ، حتى صار ما أتكلم به كثيرَ المعاني قليلَ الألفاظ . وذلك كلُّه مما اختصَّه الله به ، وفضَّله به على الرسل الكرام عليهم الصلاة والسلام . وتقدَّم تعليقاً في ص 24 ـ 25 جملةٌ من جوامع كلمه صلى الله عليه وسلم . 2 ـ من سورة آل عمران ، الآية 110 . 3 ـ الحِجاج : المُجادلة . 4 ـ أي لا يضايقه ولا يمنعه عن أداء مراده ضعف . 5 ـ أي مزيَّناً ومعرَّفاً . 6 ـ أي صارت الأمانة له وِساماً وعلامة . 7 ـ أي حين طلب منهم أن يستجيبوا لما دعاهم إليه من الدين . 8 ـ يقال : هذر الرجلُ في منطقه هَذْراً وهَذَراً : إذا تكلَّم بما لا ينبغي . وهَذِرَ كلامُه هَذَراً : كثُرَ فيه الخطأ والباطل . 9 ـ الحَصَر : العجزُ عن البيانِ والقولِ المُفهِم . 10 ـ السَّمتُ هنا : السكينةُ والوقار . 1 ـ هُجنةُ التكلُّفِ : قُبحُه وعَيْبُه . 2 ـ فيْهَقَةُ التَّعسُّف : التوسُّع والتنطُّع في النطق . 3 ـ أي لا يُشابَهُ ولا يُماثَل في فصاحته وبلاغته . وقد تقدَّم تعليقاً في ص 24 ـ 25 نماذجُ كثيرة من جوامع كَلِمه صلى الله عليه وسلم ، فعُدْ إليها إذا شئت . 4 ـ يعني : لو كُذِبَ عليه صلى الله عليه وسلم ، وقيل على لسانه كلامٌ لم يقله ، لعُرِفَ كلامُه الحقُّ من الكلام الباطل المكذوب عليه ، بأمارةِ فصاحته وتميُّزِ أسلوبه . 5 ـ أي لم يكن صلى الله عليه وسلم مخالطاً لهؤلاء على سبيل التعلُّم والتلقف منهم . 6 ـ أي خِلْقتِه . 7 ـ وهي القيام بأعباءِ النبوة وإبلاغِها للناس .