تعليمه صلى الله عليه وسلم بالمُحادَثةِ والموازنة العقلية ومن أساليبه صلى الله عليه وسلم في التعليم أنه كان يَسلُك في بعض الاحيان سبيلَ المحاكمةِ العقليةِ على طريقة السؤالِ والاستجواب ، لقلعِ الباطلِ من نفسِ مستحسِنه ، أو لترسيخ الحقِّ في قلب مُستبعِدِه أو مُستَغرِبهِ . فمن النوع الأولِ : 51 ـ ما رواه أحمدُ ، واللفظُ له ، والطبراني6عن أبي أُمامة الباهِلي رضي الله تعالى عنه : ((أن فتى شابّاً أَتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسولَ الله ، ائذنْ لي بالزنى ، فأقبلَ القومُ عليه فزَجَروهُ وقالوا : مَهْ مَهْ7. فقال صلى الله عليه وسلم : ادْنُهْ8، فدنا منه قريباً فجلَسَ ، فقال صلى الله عليه وسلم له : أتُحِبُّهُ لأمِّك؟ قال : لا واللهِ يا رسول الله جَعَلني الله فِداك ، قال : ولا الناسُ يُحِبّونَهُ لأمَّهاتِهم . قال : أفتُحِبُّهُ لابنتك ؟ قال : لا واللهِ يا رسول الله جَعَلني الله فِداك ، قال : ولا الناسُ يُحِبّونَهُ لبَناتِهم . قال : أفتُحِبُّهُ لأختِك؟ قال : لا واللهِ يا رسول الله جَعَلني الله فِداك ، قال : ولا الناسُ يُحِبّونَهُ لأخواتِهم . قال : أفتحبُّهُ لعمتِك؟ قال : لا واللهِ يا رسول الله جَعَلني الله فِداك ، قال : ولا الناسُ يُحِبّونَهُ لعمّاتِهم . قال : أفتحبُّهُ لخالتِك؟ قال : لا واللهِ يا رسول الله جَعَلني الله فِداك ، قال : ولا الناسُ يُحِبّونَهُ لخالاتِهم . قال : فوَضَع رسولُ الله صلى الله عليه وسلم يَدَه عليه ، وقال : اللهُمَّ اغفِرْ ذنبَهُ ، وطَهِّرْ قلبَهُ ، وحَصِّن فَرْجَهُ . قال : فلم يَكنْ الفتى بعد ذلك يَلتفتُ إلى شيءٍ)) . فانظُر كيف استأصَلَ النبي صلى الله عليه وسلم من نفس الفَتى تعلُّقَه بالزنى ، عن طريقِ المُحادثَةِ والمُحاكَمةِ النفسيّة والمُوازنةِ العقلية ، دون أن يَذكُر له الآياتِ الواردة في تحريم الزنى والوعيدِ للزاني والزانيةِ ، نظراً منه أن هذا أقلَعُ للباطل ـ في ذلك الوقت ـ من قلبِ الشابِّ بحَسَب تصوُّرِه وإدراكِهِ . وفي هذا إرشادٌ للدعاةِ أن يَلجَؤوا إلى العقلِ في بعضِ الأحيان وبعضِ الناس إذا كانت الحالُ تَستدْعي ذلك ، كحالِ هذا الشابِّ الذي طَهَّرَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم قلبَه من الزنى بتلك المُحاكَمةِ العقليةِ الهادية . ومن النوع الثاني من المُحادَثةِ والمُوازَنةِ العقلية : 52 ـ ما رواه البخاري ومسلم1، والفظ للبخاري ، عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال : ((خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في أضحى أو فِطر إلى المصلّى2، فقال : يا معشر النساء تَصدَّقْنَ ، فإني أُرِيتُكُنَّ أكثرَ أهل النار3، فقُلْنَ : وبِمَ يا رسول الله؟ قال : تُكْثِرنَ اللَّعْن ، وتَكْفُرن العَشير4، ما رأيتُ من ناقصاتِ عقلٍ ودينٍ أذهَبَ لِلُبِّ الرجلِ الحازمِ من إحداكُنّ . قلن : وما نقصانُ دينِنا وعقلِنا يا رسول الله؟ قال : أليس شهادةُ المرأةِ مثلَ نصفِ شهادة الرجل؟ قلن : بلى ، فقال : فذلِكِ5من نقصانِ عقلها ، أليس إذا حاضَتْ لم تُصَلِّ ولم تَصُم؟ قلن : بلى ، قال : فذلِكِ من نقصانِ دينها)) . ---------------------------------- 6 ـ ((مسند أحمد)) 5 :256 ، ورواه الطبراني في ((المعجم الكبير)) كما في ((مجمع الزوائد)) للهيثمي 1 :129 ، قال الهيثمي : ((رجالُ إسناد هذا الحديث رجالُ الصحيح)) . وقال الحافظ العراقي في ((تخريج أحاديث الإحياء)) في كتاب الأمر بالمعروف ، في باب آداب المحتسِب ، : ((روى هذا الحديثَأحمد بإسنادٍ جيِّدٍ رجالُه رجالُ الصحيح)) . 7 ـ لفظ (مَهْ) اسمُ فعلِ أمر ، معناه : اكفُفْ . 8 ـ هو فعلُ أمرٍ من الدنو ، وهو القربُ ، والهاءُ فيه للسَّكتِ جيءَ بها لبيان الحَرَكةِ ، كما في ((النهاية)) لابن الأثير 2 :33 . 1 ـ البخاري 1 :345 في كتاب الحيض (باب ترك الحائض الصومَ) ، ومسلم 2:67 في كتاب الإيمان (باب بيان نقصان الإيمان بنقصان الطاعات) . 2 ـ أي مصلّى العيد . 3 ـ إن الله تعالى أراهن له كذلك في ليلةِ الإسراء . 4 ـ أي الزوج . تكفرن نعمته وتجحدنها لأدنى خصومة أو خلاف . 5 ـ قال الحافظ ابن حجر : ((بكسر الكاف خطاباً للواحدة التي تولت الخطاب . ويجوز فتحها على أنه للخطاب العام)) .