إبهامُه صلى الله عليه وسلم الشيءَ لحملِ السامِع على الاستِكشافِ عنه للترغيب فيه أو الزَّجْر عنه8 وتارةً كان صلى الله عليه وسلم يُبهِمُ الشيءَ ترغيباً فيه لحملِ السامع على الاستِكشافِ عنه فيكونَ أوقعَ في نفسِه وأحَضَّ له على إتيانِه . عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال1: ((كُنّا جُلوساً مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : يَطلُعُ الآن عليكم رجلٌ من أهل الجنةِ ، فطلَعَ رجلٌ من الأنصار2، تنطُفُ لحيتُه من وَضوئه3، قد علَّق نعلَيْهِ بيده الشِّمال4، فلما كان الغَدُ قال النبي صلى الله عليه وسلم مِثْلَ ذلك ، فطلع ذلك الرجلُ مثلَ المرةِ الأولى ، فلما كان اليوم الثالث قال النبي صلى الله عليه وسلم مِثْلَ مَقالتِه أيضاً ، فطلع ذلك الرجلُ مثلِ حالِه الأولى . فلما قام النبي صلى الله عليه وسلم تَبِعَه عبد الله بن عمرو ـ أي تبعَ ذلك الرجل ـ ، فقال : إني لاحَيتُ أبي فأقسمتُ أني لا أدخُل عليه ثلاثاً5، فإن رأيتَ أنْ تُؤوِني إليك حتى تمضي فعلتَ ، قال : نعم . قال أنسٌ فكان عبد الله يُحدِّثُ أنه باتَ معه تلك الثلاثَ اللَّيالي فلم يَرَهُ يقوم من الليل شيئاً غير أنه إذا تَعارَّ وتقلَّبَ على فِراشِهِ ذكَرَ الله عز وجل1، وكبَّرَ حتى يقومَ لصلاةِ الفجر . قال عبد الله : غير أني لم أسمعْهُ يقولُ إلاّ خيراً ، فلما مَضَتْ الثلاثُ اللّيالي ، وكِدْتُ أن أحتقِرَ عملَه قلتُ : يا عبد الله2لم يكنْ بيني وبين أبي غَضَبٌ ولا هَجْرٌ ، ولكن سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لك ثلاث مرّاتٍ : يَطلُعُ عليكم الآن رجلٌ من أهل الجنة فطَلَعتَ أنت الثلاثَ مرّات . فأردتُ أن آوي إليك ، فأنظُر ما عَمَلُك ، فأقتدي بك ، فلم أرك تعمَلُ كثيرَ عملٍ ، فما الذي بَلَغ بك ما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال : ما هو إلاّ ما رأيتَ ، فلما ولَّيتُ دَعاني ، فقال : ما هو إلاّ ما رأيتَ يا ابن أخي غيرَ أني لا أجدُ في نفسي لأحدٍ من المسلمين غِشّاً ، ولا أحسُدُ أحداً على خيرٍ أعطاه الله إياه . فقال عبدُ الله : هذه التي بَلَغَتْ بك وهي التي لا نُطيقُ))3. ------------------------------------ 8 ـ تقدّم مثال لما كان الإبهام فيه للزجر عنه في ص167 ، في الحديث 105 ، وهو قوله صلى الله عليه وسلم : ((والله لا يؤمن من لا يَأمَنُ جارُه بوائقه ...)) . 1 ـ رواه الإمام أحمد في ((المسند)) في (مسند أنس) 3 :166 ، من طريق (عبد الرزاق ، عن مَعْمَر ، عن الزهري ، عن أنس ...) . وهو كذلك في ((المصنَّف)) لعبد الرزاق 11 :287 ، و((الزهد)) لابن المبارك ص241 ، من طريق معمر ، عن الزهري ، عن أنس . واللفظُ عندهم متوافق إلاّ قليلاً . واللفظ المذكور هنا من ((المسند)) ومن ((الترغيب والترهيب)) للحافظ المنذري عنه ، في (باب الترهيب من الحسد) 5 :178 ، وقال المنذري : ((إسناده على شرط البخاري ومسلم)) . 2 ـ هو (سعد بن أبي وقّاص) رضي الله عنه ، كما جاء مصرَّحاً باسمه في ((البداية والنهاية)) للحافظ ابن كثير 8 :74 ، في ترجمة (سعد بن أبي وقاص) من طريق ابن وَهْب : ((عن انس بن مالك ، قال : بينا نحن جلوس عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : يَطلُعُ الآن عليكم رجلٌ من أهلِ الجنة ، فطلَعَ سعد بن أبي وقاص ...)) إلى آخر القصة بنحوِ اللفظ المذكور . وكما جاء مُصرَّحاً باسمه أيضاً في ((الترغيب والترهيب)) للمنذري 5 :178 ، من رواية البزّار عن أنس بن مالك ، وكذا من رواية البيهقي : ((عن سالم بن عبد الله ، عن أبيه ـ عبد الله بن عمر ـ ، قال : كنا جُلوساً عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : لَيَطْلُعَنَّ عليكم رجلٌ من هذا الباب من أهل الجنة ، فجاء سعد بن مالك فدخل منه ...)) إلى آخر الحديث المذكور هنا بنحو لفظه . و(سعد بن مالك) هو (سعد بن أبي وقاص) رضي الله عنه . وروى الإمام أحمد هذا الحديث مختَصَراً في (مسند عبد الله بن عمرو) في ((مسنده)) 2 :222 ، بسندٍ ضعيف ((عن عبد الله بن عمرو بن العاص ، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : أوَّلُ من يَدخُلُ من هذا الباب رجلٌ من أهلِ الجنة ، فدخل سعد بن أبي وقاص)) . ولم يذكر القصة التي في الحديث . وقال الحافظ الذهبي في ((تاريخ الإسلام)) 2 :282 في ترجمة (سعد بن أبي وقاص) أيضاً : ((وجاء عبد الله بن عمر ، وأنس ، وعبد الله بن عمرو من وجوهٍ ضعيفةٍ : أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : أوَّلُ من يَدخُلُ من هذا الباب عليكم رجلٌ من أهل الجنة ، فدخل سعد بن أبي وقاص)) . وذكر الحافظُ الذهبي أيضاً نحوَ هذا في ((سِيَر أعلام النبلاء)) 1 :72 ـ 73 . و(سعد بن أبي وقاص) رضي الله عنه : مكيٌّ مُهاجِريّ ، وليس من (الأنصار) قولاً واحداً ، فيكون لفظُ (من الأنصار) في رواية ((المسند)) وغيرِه : ((فطَلَعَ رجلٌ من الأنصار ...)) : مَزيداً سَهْواً من بعض الرواة فيما يبدو ، والله أعلم ، وقد خَلَتْ منه روايةُ ابن وَهْب من طريق أنس نَفْسِه ، كما ساقها الحافظ ابن كثير في ((البداية والنهاية)) 8 :74 . ويحتمل ـ على بعد ـ أن يكون المراد بقوله : (من الأنصار) المعنى الأعم ، لا المعنى الذي في مقابل (المهاجري) ، كما وُجِّهَ ما رُوي في قصة إسلام (عبد الله بن أبي السَّرْح) يوم فتح مكة : فقال رجل من الأنصار : يا رسول الله ، ألا أومأتَ إلينا بقتله؟ ... ، قال الزرقاني في ((شرح المواهب اللدنية)) 2 :371 ((الرجل : عباد بن بشر الأنصاري ، وقيل : عمر ، وتسمية (عمر) أنصارياً بالمعنى الأعم : (يا أيها الذين آمنوا كونوا أنصارَ الله) )) انتهى . هذا ، وقد قال الحافظ العراقي في ((تخريج الإحياء)) 3 :187 عند هذا الحديث ما نصُّه : ((رواه أحمد بإسنادٍ صحيحٍ على شرط الشيخين ، ورواه البزّارُ وسمّى الرجلُ المبهم في روايةٍ له سعداً ، وفيها ابنُ لهيعة)) . انتهى . وقد تصحَّف (سعد) في نسخةِ العلامة الزَّبيدي من ((تخريج الإحياء)) إلى (سفيان) كما تراه في ((إتحاف السادة المتقين) له 8 :51 ، فلم يتبيَّن له سفيان هذا من هو؟ والواقع أنه (سعد) كما في ((مسند البزار)) (3 :208 كشف) ، وكما في عِدَّةِ نُسَخٍ صحيحةٍ من ((تخريج الإحياء)) . وقول الحافظ العراقي رحمه الله تعالى : ((وفيها ابنُ لهيعة)) فيه نظر ، فليس في رواية البزار ابن لهيعة ، بل فيها (عبد الله بنُ قيس الرَّقاشي) فاعلمه . وقع في اسم الصحابي الذي بايَتَ (سعد بن أبي وقاص) تحريفٌ في كثير من الكتب ، فقد وقع في ((الترغيب والترهيب)) للمنذري 5 :178 ، عند ذكر رواية البيهقي لهذا الحديث هكذا : (فقال عبد الله بن عمر ...) . ووقع مثله تماماً في ((الزواجر)) لابن حجرٍ المكي ، في (الكبيرة الثالثة : الغَضَبُ بالباطل ، والحقدُ والحسد) . وما نقله ابن حجر في كتابه و نصُّ المنذري بحروفه في ((الترغيب)) ولكنه لم يَعْزُه إليه ، فدلَّ على أن التحريف في ((الترغيب)) قديم ، إذ الحادثةُ لا تَحتمِلُ التعدُّد . ووقع في ((مجمع الزوائد)) للحافظ الهيثمي 8 :78 هكذا : (وعن ابن عمر أن النبي قال ... وتَبِعَه عبد الله بن عمر) . انتهى . وقد جاء في هذه المواطن كلها تسمية التابعِ المُبايِتِ له بلفظ (عبد الله بن عمر) من غير واوٍ بعد الراء . وهو تحريفٌ مقطوع به . وصوابُه : (عبد الله بن عمرو) بفتح العين في أوَّله ، وبالواو بعد الراء في آخره ، فقد جاء في ((المسند)) للإمام أحمد ، و((المصنَّف)) لعبد الرزاق ، و((الزهد)) لابن المبارك التصريح باسمه : (عبد الله بن عمرو بن العاص) ، ولتصريحِ كُتُبِ ((الأطراف)) بذلك أيضاً . فقد ذكَرَ الحافظ المِزّيُّ في كتابه ((تحفة الأشراف بمعرفة الأطراف)) 1 :394 طَرَفاً من الحديث ، من طريق (مَعْمَر بن راشد عن الزُّهري عن انس) كما هي رواية ((المسند)) ، ثم عزاه إلى ((المسند)) وإلى النسائي في ((اليوم والليلة)) ، وقال : ((وفيه قِصّةُ عبد الله بن عمرو بن العاص)) . وأقرَّه عليه الحافظ ابن حجر في ((النُّكَتِ الظِّراف)) . وأفاد أن البيهقي رواه في ((الشُّعَب)) ، ورواه الخرائطي في ((مَكارم الأخلاق)) . فتبين من هذا أن الذي بايَتَ (سعداً) هو (عبد الله بن عمرو بن العاص) ، لا (عبد الله بن عمر بن الخطاب) رضي الله عنهم ، إذ الحادِثةُ لا تَحْتَمِلُ التعدُّدَ كما أسلفتُه ، والحمد لله على توفيقِه وفضلِه .. 3 ـ أي يَقطُرُ منها قطراتٌ من ماء الوضوء . والوَضوء بفتح الواو : الماءُ الذي يتوضأُ به . 4 ـ أشار بقوله (علَّق نعليه بيدشه الشِّمال) إلى أن الرجل متمثِّلٌ بالسنّة في حَمْلِ الحِذاء ، فهو يحمله باليد اليُسرى كما هي السنة . 5 ـ قوله : (لاحيت أبي) أي خاصمتُه وجادلتُه في أمرٍ . وإنما احتال عبد الله بن عمرو رضي الله تعالى عنه بهذه الطريقة ليتوصَّل بها إلى الوقوف على عَمَل ذلك الرجلِ الصالِحِ فيَقتَدي به ، وهذا من الحِيَل المشروعةِ التي لا تُناقِضُ مقاصِدَ الشرع . = = والضابطُ العام في الحِيَل المشروعة أنها ما كان المقصودُ بها إحياءَ حقٍّ ، أو دفع ظلم ، أو فعل واجبٍ ، أو تركَ محرَّمٍ ، أو إحقاقَ حق ، أو إبطال باطل ، أو جَلْبَ محبوبٍ مشروعٍ ، أو دفعَ مكروهٍ ، أو نحو ذلك مما يُحقِّقُ مصلحةً مشروعةٍ ولا يُناقِضُ مقصودَ الشارعِ الحكيم ، ولا يكون فيه تفويتُ حق للخالق أو المخلوق . وقد أوسعَ بيانَ ذلك بحثاً وتمحيصاً واستدلالاً من الكتابِ والسنةِ وآثارِ السلف الصالح ، شيخُنا العلاّمة الأستاذ محمد عبد الوهاب البُحَيري رحمه الله تعالى في كتابه ((الحِيَل في الشريعة الإسلامية)) ص303 ـ 432 ، فقِفْ عليه إذا شئت . 1 ـ يقال : تَعارَّ فلان : أَرِقَ وتقلَّب في فراشه ليلاً مع كلام وصوت . 2 ـ ناداه بأعمِّ أسمائِه ، فإن الخلقَ كلُّهم عبدُ الله ، وإلاّ فاسمُه (سعد بن أبي وقاص) كما سبق . 3 ـ في هذا الحديث : فضلُ سعد بن أبي وقاص رضي الله تعالى عنه وشهادةُ النبي صلى الله عليه وسلم له بأنه من أهل الجنة ، وهو أحدُ العشرة المشهود لهم بالجنة ، وفيه حرصُ عبد الله بن عمرو رضي الله تعالى عنه على الاقتداء بالصالحين في أعمالِهم . وفيه تعليم النبي صلى الله عليه وسلم وترغيبُه في الخير والبِرِّ بالثناء على أهلِهما بإبهامِ الأمر على المخاطَب ، ليقومَ هو بالكشفِ عنه فيكون أوقَعَ في نفسه ، وفيه فضلُ تزكيةِ القلب وطهارتِه من الغِلِّ والحَسَد وأن ذلك من الأعمال التي يَستحِقُّ المرءُ بها الجنةَ .