حُفَّت الجنة بالمكاره : ( حديث أنس رضي الله عنه الثابت في صحيح مسلم ) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « حُفَّتِ الْجَنَّةُ بِالْمَكَارِهِ وَحُفَّتِ النَّارُ بِالشَّهَوَاتِ ». مسألة : ما معنى حُفَّتِ الْجَنَّةُ بِالْمَكَارِهِ ؟ ِالْمَكَارِهِ : هي الأمور التي تكرهها النفس لمشقتها ، فلا يصل إلى الجنة أحدٌ إلا إذا تجرَّع من غصص هذه المكـاره التي تحيط بها ، فالطريق إليها ليس سهلاً, بل هو طريق وعـرٌ محفـوف بالمتاعب والآلام والدموع والعرق والدم والتضحيات, وبذل كل ما في الوسع, ليس طريقًا مليئًا بالمتع والشهوات والنزوات, فمن أراد الجنة ونعيمها فليوطِّن نفسه لتحمل هذه المكاره التي حُفت بها الجنة والتي ينبغي على من يريد الجنة أن يؤديها ويقـوم بها خير قيام كالصبر على المحن والبلايا والمصائب, والصبر على الطاعـات التي تشق على النفس كالجهاد في سبيل الله وغير ذلك. (حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيحي أبي داود والترمذي) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : قال لما خلق الله الجنة والنار أرسل جبريل إلى الجنة فقال انظر إليها وإلى ما أعددت لأهلها فيها قال فجاءها ونظر إليها وإلى ما أعد الله لأهلها فيها قال فرجع إليه قال فوعزتك لا يسمع بها أحد إلا دخلها فأمر بها فحفت بالمكاره فقال ارجع إليها فانظر إلى ما أعددت لأهلها فيها قال فرجع إليها فإذا هي قد حفت بالمكاره فرجع إليه فقال وعزتك لقد خفت أن لا يدخلها أحد قال اذهب إلى النار فانظر إليها وإلى ما أعددت لأهلها فيها فإذا هي يركب بعضها بعضا فرجع إليه فقال وعزتك لا يسمع بها أحد فيدخلها فأمر بها فحفت بالشهوات فقال ارجع إليها فرجع إليها فقال وعزتك لقد خشيت أن لا ينجو منها أحد إلا دخلها . ولعلّ هذا هو السبب الذي جعل جبريل عليه السلام عندما رأى ما أعده الله تعالى من النعيم المقيم لعباده في الجنة,ظنّ أن كل من يسمع بالجنة ونعيمها سيعمل من أجل أن يدخلها, لذا قال" فوعزتك لا يسمع بها أحدٌ إلا دخلها". بعد أن قال جبريل عليه السلام ذلك, أمر الله تعالى بالجنة فحفّت بالمكاره, ثمّ قال لجبريل:ارجع إليها فانظر إلى ما أعددت لأهلها فيها, فرجع إليها,فإذا هي قد حفّت بالمكاره .فعلم بذلك أنّه لم يعد الطريق إليها سهلاً, بل هو طريق وعـرٌ محفـوف بالمتاعب والآلام والدموع والعرق والدم والتضحيات, وبذل كل ما في الوسع, ليس طريقًا مليئًا بالمتع والشهوات والنزوات, فمن أراد الجنة ونعيمها فليوطِّن نفسه لتحمل هذه المكاره التي حُفت بها الجنة ـ وهي الأمور التي تكرهها النفس لمشقتها ـ فلا يصل إلى الجنة أحدٌ إلا إذا تجرَّع من غصص هذه المكـاره التي تحيط بها, ففي الحديث الشريف قد شبه حال التكاليف الشاقة على النفس ـ التي حُفت بها الجنة ـ والتي ينبغي على من يريد الجنة أن يؤديها ويقـوم بها خير قيام كالصبر على المحن والبلايا والمصائب, والصبر على الطاعـات التي تشق على النفس كالجهاد في سبيل الله وغير ذلك, شبّه كل ذلك بحـال أسوار ٍكثيفـةٍ من الأشواك التي يكمن فيها كل حيوان ضارٍّ من الوحوش والحيات والعقارب, وهذه الأسوار الكثيفـة الكريهـة محيطـة ببستان ٍعظيم ٍتلتف به من كل مكان بحيـث لا يستطيع أن يصل أحدٌ إلى هذا البستان ولا يحظى بالتنعم بما فيه إلا بعد أن يتخطى هذه الأسوار البغيضة, ويتجشم المشاق التي تلحقه حين سلوكه فيها,ولا شك أن ذلك يحتاج إلى جهادٍ طويل شاق,وصبر ٍدائم, كذلك الجنة لا ينالها ويحظى بنعيمها الدائم إلا من تخطى شدائد دنيــاه, مجاهدًا نفسه,صابرًا على ما يصيبه, راضيًا بقضاء الله تعالى,قائمًا بتكاليف الإسلام خير قيام,مضحيًا بالنفس والمال في سبيل نيل مطلوبه,فالجنة هي الثمن الذي اشترى الله به نفوس المؤمنين وأموالهم, قال تعالى: ( إنّ اللهَ اشترى من المؤمنين أنفُسَهمْ وأموالَهمْ بأنَّ لهمُ الجنّة َيُقاتِلون في سبيل ِاللهِ فيَـقتُـلونَ ويُـقتَـلونَ وعْـدًا عليهِ حقًا في التوراةِ والإنجيل ِوالقرآن ِومَنْ أَوْفـَى بعهدِهِ مِنَ اللهِ فاسْتَبشِرُوا بِبَيْعكمُ الذي بايَعْتُمْ به وذلك هو الفوزُ العظيـمُ) {التوبة:111} قال شمر بن عطية:ما من مسلم ٍإلا لله عزّ وجلّ في عنقه بيعة, وفَّّى بها أو مات عليها ثمّ تلا الآية السابقة . بل أكدَّ الله تعالى الوعد الذي ذكره في هــذه الآية وأخبر بأنّه قد كتبه على نفسه الكريمة وأنزله على رسله في كتبه العظيمة : التوراة والإنجيــل والقرآن, ثمّ بشَّر من قام بمقتضى هذا العقد, ووفَّـَّى بهذا العهد بالفوز العظيم والنعيم المقيم. ومن هنا يتضح معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم أَلاَ إِنّ سِلْعَةَ الله غَالِيَةٌ كما في الحديث الآتي : ( حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيح الترمذي ) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : «مَنْ خَافَ أَدْلَجَ وَمَنْ أَدْلَجَ بَلَغَ المَنْزِلَ أَلاَ إِنّ سِلْعَةَ الله غَالِيَةٌ أَلاَ إِنّ سِلْعَةَ الله الْجَنّةُ». ولله درُ من قال : يا سلعةَ الرحمن ِلست رخيصــةبـل أنتِ غالية ٌعلى الكســلان يا سلعة الرحمـن ليس ينــالُهافي الألـفِ إلا واحـدٌ لا اثنــان يا سلعة الرحمن أين المشــتريفلقـد عُرِضتِ بأيسـر الأثمـان يا سلعة الرحمن هل من خـاطبفالمهرُ قبل المـــوتِ ذو إمكان يا سلعة الرحمن لـولا أنَّهـــاحُجِـبَتْ بكلِّ مكـاره ِالإنســان ِما كان قــــــطُّ من متخلفٍوتَعَــلتْ دارُ الجـــزاءِ الثاني لكنَّها حُجِـبَتْ بكلِّ كـريهـــةٍليُصـدَّ عنها المبطلُ المتــواني وتنالهـا الهـممُ التي تَسْـــمُوإلى ربِّ العلا بمشيئةِ الرحمــن فاتْعَـبْ ليــــوْم ِمعادِك الأدنىتَجِدْ راحاتهِ يومَ المعــادِ الثاني ولنذكرـ الآن ـ طرفًا من بعض التكاليف التي قد حُفَّت بها الجنة مع مشقتها على النفس : (1) الجهاد في سبيل الله : وهو فرض كفاية على المسلمين ليكفُّوا شرَّ الأعداء عن حوزة الإسلام, ولنشر تعاليم الدين السمحة, وفضله عظيم،وهاك غيضاً من فيض ونقطةً من بحر مما ورد في فضل الجهاد في سبيل الله : (1) َفَضّلَ اللّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْراً عَظِيماً بنص القرآن الكريم : قال تعالى: (لاّ يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُوْلِي الضّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضّلَ اللّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُـلاّ وَعَدَ اللّهُ الْحُسْنَىَ وَفَضّلَ اللّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْراً عَظِيماً) [سورة: النساء - الآية: 95] (2) وعد الله تعالى لمن قتل في سبيله أن يدخله الجنة وليس هناك فوزيعدل الجنة كما هو معلوم شرعاً وعقلاً وبداهةً . (حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في الصحيحين ) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (انتدب الله عز وجل لمن خرج في سبيله، لا يخرجه إلا إيمان بي وتصديق برسلي، أن أرجعه بما نال من أجر أو غنيمة، أو أدخله الجنة، ولولا أن أشق على أمتي ما قعدت خلف سرية، ولوددت أني أقتل في سبيل الله ثم أحيا، ثم أقتل ثم أحيا، ثم أقتل). ( حديث أبي سعيد رضي الله عنه الثابت في الصحيحين ) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : أن رجلا كان قبلكم، رغسه الله مالا، فقال لبنيه لما حضر: أي أب كنت لكم؟ قالوا: خير أب، قال: فإني لم أعمل خيرا قط، فإذا مت فأحرقوني، ثم اسحقوني، ثم ذروني في يوم عاصف، ففعلوا، فجمعه الله عز وجل فقال: ما حملك؟ قال: مخافتك، فتلقاه برحمته . ( حديث عبد الرحمن بن جبرالثابت في صحيح البخاري ) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (ما أُغبرت قدما عبد في سبيل الله فتمسه النار). ( حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيح الترمذي ) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :لا يلج النار رجل بكي من خشية الله حتى يعود اللبن في الضرع ولا يجتمع غبار في سبيل الله ودخان جهنم . ( حديث ابن عباس رضي الله عنهما الثابت في صحيح الترمذي ) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : عينان لا تمسهما النار عين بكت من خشية الله وعين باتت تحرس في سبيل الله . (3) ليس هناك عملٌ يعدل الجهاد في سبيل الله تعالى بنص السنة الصحيحة : (حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في الصحيحين ) قال : جاء رجل إلى رسول الله فقال: دلني على عمل يعدل الجهاد، قال: (لا أجده). قال: (هل تستطيع إذا خرج المجاهد أن تدخل مسجدك، فتقوم ولا تفتر، وتصوم ولا تفطر). قال: ومن يستطيع ذلك. قال أبو هريرة: إن فرس المجاهد ليَسْتَنُ في طِوَلِه، فيكتب له حسنات. (حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في الصحيحين ) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :كل كَلْمٍ يُكْلَمْهُ المسلم في سبيل الله تعالى يكون يوم القيامة كهيئتها إذا طُعِنت تُفَجَّرُ َدما و اللون لون الدم و العَرْفُ عَرْفُ مسك . ‌ ( حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيح البخاري ) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (من احتبس فرسا في سبيل الله، إيمانا بالله، وتصديقا بوعده، فإن شِبْعَهُ وَرِيهَ ورَوَثَه وبَوله في ميزانه يوم القيامة). (4) بين النبي صلى الله عليه وسلم أن الغدوة في سبيل الله أو روحة خير من الدنيا و ما فيها : (حديث أنس الثابت في الصحيحين ) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :لغدوة في سبيل الله أو روحة خير من الدنيا و ما فيها . (5) بين النبي صلى الله عليه وسلم أن الدعاء عند البأس والقتال مستجاب . ( حديث سهل بن سعد الثابت في صحيح أبي داوود ) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :ثنتان لا تردان : الدعاء عند النداء وعند البأس حين يلحم بعضهم بعضا . ‌ (6) بين النبي صلى الله عليه وسلم أن ترك الجهاد يكون سبباً في حصول الذل والعياذ بالله . ( حديث ابن عمر رضي الله عنهما الثابت في صحيح أبي داوود ) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : إذا تبايعتم بالعينة و أخذتم أذناب البقر و رضيتم بالزرع و تركتم الجهاد سلط الله عليكم ذلا لا ينزعه حتى ترجعوا إلى دينكم . ‌ ( حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيح مسلم ) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « مَنْ مَاتَ وَلَمْ يَغْزُ وَلَمْ يُحَدِّثْ بِهِ نَفْسَهُ مَاتَ عَلَى شُعْبَةٍ مِنْ نِفَاقٍ ». منزلة الجهاد في الإسلام : (حديث معاذ الثابت في صحيحي الترمذي وابن ماجة ) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :ألاَ أُخْبِرُكَ بِرَأْسِ الأَمْرِ كُلّهِ وَعَمُودِهِ وَذِرْوَةِ سَنَامِهِ: قُلْتُ: بَلَى يَا رَسُولَ الله قَالَ: رَأْسُ الأَمْرِ الاْسْلاَمُ، وَعُمودُهُ الصّلاَةُ، وَذِرْوَةُ سَنَامِهِ الجِهَادُ في سبيل الله. تنبيه :والجهاد مع فرضيته وفضيلته إلا أنه مكروه على النفس, وذلك لأنَّ فيه مشقة وشدة, فإنَه إما أن يُقتل الإنسان أو يجرح, مع مشقة السفر ومجالدة الأعداء, ومع أن النفس تكرهه إلا أنه خيرٌ لها, لذا قال تعالى: ( كُتِبَ عليكم القتـــالُ وهـو كُرْهٌ لَّكُم وعَسى أنْ تَكرهوا شَيْئًا وهو خَيرٌ لَّكم وعسى أنْ تُحبُّوا شيئًا وهـو شرٌّ لكم والله يعلمُ وأنتم لا تعلمـون) {البقرة:216}. كَمَا أَمَرَ اللهُ تَعَالَى بِالإِنْفَاقِ عَلَى اليَتَامَى وَالمَسَاكِينِ لِحِمَايَةِ المُجْتَمَعِ مِنْ دَاخِلِهِ ، كَذلِكَ فَرَضَ اللهُ الجِهَادَ عَلَى المُسْلِمِينَ ، وَمُحَارَبَةِ أَعْدَاءِ الدِّينِ ، لِيَكُفُّوا عَنْ الجَمَاعَةِ المُسْلِمَةِ شَرَّ أَعْدَائِها . وَالجِهَادُ فَرْضُ كِفَايَة إِذَا قَامَ بِهِ بَعْضُ الأُمَّةِ سَقَطَ عَنِ البَاقِينَ ، وَالجِهَادُ وَاجِبٌ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ غَزا أَوْ قَعَدَ ، فَالقَاعِدُ عَلَيهِ أَنْ يُعينَ إِذا اسْتَعَانَ بِهِ النَّاسُ ، وَأَنْ يُغيثَ إِذَا اسْتَغَاثُوا بِهِ ، وَأَنْ يَنْفِرَ إِذا اسُتُنْفِرَ . وَيَذْكُرُ اللهُ تَعَالَى : أَنَّ الجِهَادَ فِيهِ كُرْهٌ وَمَشَقَّةٌ عَلَى الأَنْفُسِ ، مِنْ تَحَمُّلِ مَشَقَّةِ السَّفَرِ ، إِلَى مَخَاطِرِ الحُرُوبِ وَمَا فِيهَا مِنَ جَرْحٍ وَقَتْلٍ وَأَسْرٍ ، وَتَرْكٍ لِلْعِيَالِ ، وَتَرْكٍ لِلتِّجَارَةِ وَالصَّنْعَةِ وَالعَمَلِ . . إلخ ، وَلكِنْ قَدْ يَكُونُ فِيهِ الخَيْرُ لأَنَّهُ قَدْ يَعْقُبُهُ النَّصْرُ وَالظَّفَرُ بِالأَعْدَاءِ ، وَالاستِيلاءُ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَبِلاَدِهِمْ . وَقَدْ يُحِبُّ المَرْءُ شَيئاً وَهُوَ شَرٌّ لَهُ ، وَمِنْهُ القُعُودُ عَنِ الجِهَادِ ، فَقَدْ يَعْقُبُهُ استِيلاءُ الأَعْدَاءِ عَلَى البِلادِ وَالحُكْمِ ، وَاللهُ يَعْلَمُ عَوَاقِبَ الأُمُورِ أَكْثَرَ مِمَّا يَعْلَمُها العِبَادُ .