ثمن الجنة : [*]قال ابن القيم رحمه الله تعالى في كتابه حادي الأرواح : عرض الرب تعالى سلعته الجنة على عباده وثمنها الذي طلبه منهم وعقد التبايع الذي وقع بين المؤمنين وبين ربهم : قال تعالى: (إِنّ اللّهَ اشْتَرَىَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنّ لَهُمُ الّجَنّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقّاً فِي التّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَىَ بِعَهْدِهِ مِنَ اللّهِ فَاسْتَبْشِرُواْ بِبَيْعِكُمُ الّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) [التوبة : 111] « فجعل سبحانه ها هنا الجنة ثمنا لنفوس المؤمنين وأموالهم » بحيث إذا بذلوها فيه استحقوا الثمن وعقد معهم هذا العقد وأكده بأنواع من التأكيد : أحدها : إخبارهم سبحانه وتعالى بصيغة الخبر المؤكد بأداة إن . الثاني : الأخبار بذلك بصيغة الماضي الذي قد وقع وثبت واستقر . الثالث : إضافة هذا العقد إلى نفسه سبحانه وأنه هو الذي اشترى هذا المبيع . الرابع : أنه أخبر بأنه وعد بتسليم هذا الثمن وعدا لا يخلفه ولا يتركه . الخامس : أنه أتى بصيغة على التي للوجوب إعلاما لعباده بأن ذلك حق عليه أحقه هو على نفسه . السادس : أنه أكد ذلك بكونه حقا عليه . السابع : أنه أخبر عن محل هذا الوعد وأنه في أفضل كتبه المنزلة من السماء وهي التوراة والإنجيل والقرآن . الثامن : إعلامه لعباده بصيغة استفهام الإنكار «وَمَنْ أَوْفَىَ بِعَهْدِهِ مِنَ اللّهِ» وأنه لا أحد أوفى بعهده منه سبحانه . التاسع : أنه سبحانه وتعالى أمرهم أن يستبشروا بهذا العقد ويبشر به بعضهم بعضا بشارة مَنْ قد تم له العقد ولزم بحيث لا يثبتُ فيه خيار ولا يعرض له ما يفسخه . العاشر : أنه أخبرهم إخبارا مؤكدا بأن ذلك البيع الذي بايعوه به هو الفوز العظيم والبيع ههنا بمعنى المبيع الذي أخذوه بهذا الثمن وهو الجنة وقوله بايعتم به أي عاوضتم و ثامنتم به ثم ذكر سبحانه أنه هذا العقد الذي وقع العقد وتم لهم دون غيرهم وهم التائبون مما يكره العابدون له بما يحب الحامدون له على ما يحبون وما يكرهون السائحون وفسرت السياحة بالصيام وفسرت بالسفر في طلب العلم وفسرت بالجهاد وفسرت بدوام الطاعة والتحقيق فيها أنها سياحة القلب في ذكر الله ومحبته والإنابة إليه والشوق إلى لقائه ويترتب عليها كل ما ذكر من الأفعال ولذلك وصف الله سبحانه نساء النبي اللاتي لو طلق أزواجه بدله بهن بأنهن سائحات وليست سياحتهن جهادا ولا سفرا في طلب علم ولا إدامة صيام وإنما هي سياحة قلوبهن في محبة الله تعالى وخشيته والإنابة إليه ذكره . أهـ وأفهمت الآية خطر النفس الإنسانية وشرفها وعظم مقدارها فإن السلعة إذا خفي عليك قدرها فانظر إلى المشتري لها من هو ، وانظر إلى الثمن المبذول فيها ما هو ، وانظر إلى ما جرى على يده عقد التبايع ، فالسلعة النفس والله سبحانه المشتري لها والثمن لها جنات النعيم ، والسفير في هذا العقد خير خلقه من الملائكة وأكرمهم عليه وخيرهم من البشر وأكرمهم عليه . وتأمل في الحديث الآتي بعين البصيرة وأمْعِنِ النظر فيه واجعل له من سمعك مسمعا وفي قلبك موقِعاً عسى الله أن ينفعك بما فيه من غرر الفوائد ، ودرر الفرائد . ( حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيح الترمذي ) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : «مَنْ خَافَ أَدْلَجَ وَمَنْ أَدْلَجَ بَلَغَ المَنْزِلَ أَلاَ إِنّ سِلْعَةَ الله غَالِيَةٌ أَلاَ إِنّ سِلْعَةَ الله الْجَنّةُ». [*] قال العلامة المباركفوري في "تحفة الأحوذي بشرح جامع الترمذي: ( مَنْ خَافَ ) أَيِ الْبَيَاتَ وَالْإِغَارَةَ مِنَ الْعَدُوِّ وَقْتَ السَّحَرِ . ( أَدْلَجَ ) بِالتَّخْفِيفِ مِنْ سَارَ أَوَّلَ اللَّيْلِ وَبِالتَّشْدِيدِ مِنْ آخِرِهِ . ( وَمَنْ أَدْلَجَ بَلَغَ الْمَنْزِلَ ) أَيْ وَصَلَ إِلَى الْمَطْلَبِ. قَالَ الجزء السابع الطِّيبِيُّ -رَحِمَهُ اللَّهُ-: هَذَا مَثَلٌ ضَرَبَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لِسَالِكِ الْآخِرَةِ فَإِنَّ الشَّيْطَانَ عَلَى طَرِيقِهِ وَالنَّفْسَ وَأَمَانِيَّهُ الْكَاذِبَةَ أَعْوَانُهُ، فَإِنْ تَيَقَّظَ فِي مَسِيرِهِ وَأَخْلَصَ النِّيَّةَ فِي عَمَلِهِ أَمِنَ مِنَ الشَّيْطَانِ وَكَيْدِهِ، وَمِنْ قَطْعِ الطَّرِيقِ بِأَعْوَانِهِ ثُمَّ أَرْشَدَ إِلَى أَنَّ سُلُوكَ طَرِيقِ الْآخِرَةِ صَعْبٌ، وَتَحْصِيلَ الْآخِرَةِ مُتَعَسِّرٌ لَا يَحْصُلُ بِأَدْنَى سَعْيٍ فَقَالَ . ( أَلَا ) بِالتَّخْفِيفِ لِلتَّنْبِيهِ . ( إِنَّ سِلْعَةَ اللَّهِ ) أَيْ مِنْ مَتَاعِهِ مِنْ نَعِيمِ الْجَنَّةِ ( غَالِيَةٌ ) بِالْغَيْنِ الْمُعْجَمَةِ أَيْ رَفِيعَةُ الْقَدْرِ ( أَلَا إِنَّ سِلْعَةَ اللَّهِ الْجَنَّةُ ) يَعْنِي؛ ثَمَنُهَا الْأَعْمَالُ الْبَاقِيَةُ الْمُشَارُ إِلَيْهَا بِقَوْلِهِ تعالى: (التّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السّائِحُونَ الرّاكِعُونَ السّاجِدونَ الاَمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنّاهُونَ عَنِ الْمُنكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللّهِ وَبَشّرِ الْمُؤْمِنِينَ) [التوبة: 112] تنبيه :هنا أمر يجب التنبيه عليه وهو أن الجنة إنما تدخل برحمة الله تعالى وليس عمل العبد مستقلا بدخولها وإن كان سببا ولهذا أثبت الله تعالى دخولها بالأعمال في قوله تعالى: (وَتِلْكَ الْجَنّةُ الّتِيَ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ) [الزخرف: 72] ونفى رسول الله دخولها بالأعمال كما في الحديث الآتي : ( حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في الصحيحين ) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :(لن يُدخِل أحداً عملُه الجنة). قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: (لا، ولا أنا، إلا أن يتغمَّدني الله بفضلٍ ورحمة، فسدِّدوا وقاربوا، ولا يتمنينَّ أحدكم الموت: إما محسناً فلعله أن يزداد خيراً، وإما مسيئاً فلعله أن يستعتب . ولا تنافي بين الأمرين لوجهين : أحدهما : ما ذكره سفيان وغيره قال كانوا يقولون «النجاة من النار بعفو الله ودخول الجنة برحمته واقتسام المنازل والدرجات بالأعمال» . والثاني : أن الباء التي نفت الدخول هي باء المعاوضة التي يكون فيها أحد العوضين مقابلا للآخر والباء التي أثبتت الدخول هي باء السببية التي تقتضي سببية ما دخلت عليه لغيرة وأن لم يكن مستقلا بحصوله وقد جمع النبي بين الأمرين بقوله :(لن يُدخِل أحداً عملُه الجنة). قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: (لا، ولا أنا، إلا أن يتغمَّدني الله بفضلٍ ورحمة، فسدِّدوا وقاربوا. ومن عرف الله تعالى وشهد مشهد حقه عليه ومشهد تقصيره وذنوبه وأبصر هذين المشهدين بقلبه عرف ذلك وجزم به والله سبحانه وتعالى المستعان .