لقاء مع النبي محمد صلى الله عليه وسلم الجزء الخامس لقاء مع النبي في صلى الله عليه وسلم بيته ( قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَرًا رَسُولًا ) سورة الاسراء الاية 93 الحديث عن النبى صلى الله عليه وسلم فى بيته يجعل المرء متهيباً الكتابة فيه ؛ ويجلك تشعر بالرغبة الشديدة فى التراجع ؛ لسببين : السبب الأول : أن هناك احساس ينتابك ويعتريك بجلالة الموقف ودقته وخصوصيته . والسبب الثانى : كثرة ما كتب فيه المتخصصون . لكن حسبنا أننا نختار ومضات ولقطات من الصور تنسجم مع عرضنا لمادة هذا البحث وعنوانه .. كما قلنا انفاً .. وهذا البيت تلاقت فيه ؛ وتعاملت من خلاله زوجات النبى صلى الله عليه وسلم بالبشرية والنبوة فى آن واحد ؛ فتسير البشرية فى فيض نور السماء .. بيت النبى صلى الله عليه وسلم الحديث عن بيت النبى صلى الله عليه وسلم بمعنى البنيان هو حديث عن بيتين ؛ وليس بيتاً واحداً ؛ أولهما كان فى مكة حيث عاش النبى صلى الله عليه وسلم مع زوجته الأولى خديجة بنت خويلد ؛ وانجب منها جميع أولاده سوى ابراهيم ؛ أما البيت الآخر فكان فى المدينة حيث عاشت فيه جميع أمهات المؤمنين غير السيدة خديجة .. البيت فى مكة فى جـوار البيت الحـرام بمكـة ؛ حيث دور قريش حافـة بالبيت العتيق مسـتأثـرة دون سائر القبائل بذلك الشرف العتيق ؛ كانت الدار التى شهدت عـرس محمد صلى الله عليه وسلم بخديجة بنت خويد . وهذه الدار ترتفع عنها الطريق ؛ بحيث ينزل اليها بعدد من الدرجات ؛ توصل الى ممر ؛ قامت على يسار الممر مصطبة مرتفعة بنحو قدم ؛ طول هذه المصطبة عشرة أقدام فى عرض أربعة أقدام .. وعلى يمين الدار باب صغير ؛ يصعد لهذا الباب بدرجتين ؛ ويؤدى هذا الباب الى طرقة ضيقة عرضها نحو مترين ؛ وهذه الطرقة موجود بها ثلاثة أبواب ؛ يفتح أولها من الجانب الايسر على غرفة صغيرة مساحتها نحو ستة أمتار ؛ وهذه الغرفة كانت للنبى صلى الله عليه وسلم بمثابة مكانه المختار محراباً ومعبداً ؛ والباب الثانى فى المواجهة يؤدى الى بهو متسع طوله نحو ستة أمتار وعرضه أربعة أمتار ؛ وهذه كانت الغرفة الخاصة بالزوجين ؛ محمد صلى الله عليه وسلم وخديجة ؛ أما الباب الثالث فعلى يمين الداخل وهو يفتح على غرفة مستطيلة طولها سبعة أمتار وعرضها أربعة أمتار وهى غرفة كانت مخصصة لبنات النبى صلى الله عليه وسلم الاربع .. ومن خارج البيت ؛ وعلى طول البيت من ناحية الشمال قطعة أرض فضاء ؛ مسحتها ستة عشر متراً فى سبعة أمتار ؛ وترتفع هذه الارض عن الارض الطبيعية بمقدار متر تقريباً ؛ وكانت هذه الارض بمثابة مخزن تخزن فيه خديجة تجارتها ؛ فلما تزوجت بمحمد صلى الله عليه وسلم ؛ اعتزلت التجارة ؛ فتم تخصيص هذه الارض لاستقبال الضيوف .. هذه الدار هى التى استقبلت محمداً صلى الله عليه وسلم يوم تم الزواج ؛ فشهدت هذه الدار حياة سعيدة ؛ فى أرقى معانى السمو والتفانى والوقار ؛ وشهدت هذه الدار خمسة عشر سنة كاملة قبل البعثة ؛ ثم جاءت الرسالة ؛ فكانت خديجة أيضاً نعم السند لزوجها ؛ تقف بجواره وتعينه ليؤدى الرسالة ويبلغ قومه .. ولـم تشهـد هـذه الـدار الضــرائـر طــوال حــياة السـيدة خديجـة ؛ ولا بعـدهــا ؛ فلم يجتمـع فـى هـذا البيت مع النبى صلى الله عليه وسلم الا زوجـة واحـدة ؛ حتى بعـد وفـاة خـديجـة رضى الله عنها . وسارت الحياة بين الزوجين ؛ محمد وخديجة ؛ حياة هادئة ناعمة ؛ لم يعكر صفوها بالنسبة لخديجة سوى مقولات بعض النسوة فى ذلك المجتمع الذى كانت المرأة فيه تتزوج صغيرة السن جداً ؛ وزواج المرأة فى هذا السن الصغيرة هو الاساس والقاعدة ؛ فقام بعض النسوة يتحدثن ويلمحن عن كهولة خديجة بنت خويلد التى ترغب فى الانجاب وهى فى هذه السن المتأخرة ؛ الذى تراه هؤلاء النسوة سن متأخر جداً بالنسبة لعرف هذا المجتمع أنذاك ؛ ويلمحن بأسئلة كانت تنال من قلب خديجة .. هل ستنجب خديجة ..؟ هل سيحرم محمد من الذرية مع هذه المرأة التى تكبره بخمسة عشر عاماً ؛ وهو الذى تجاوز الخامسة والعشرون بقليل ..؟ أليس هو زينة شباب قريش ..؟ فلماذا اذن لم يتزوج من بكر من أشراف القوم والكل يرحب به ..؟ وعلى هذه الوتيره كانت تدور على ألسنة النسوة كثير من الاسئلة .. فلم تكن امرأة فى مكانة خديجة من اشراف القوم ..وسيدة أعمال شهيرة لتتركها الالسنة فى مثل هذا الموقف دون قيل وقال .. ولم يكن رجل بسمات ومكانة محمد فى هذا المجتمع ليكون بعيداً عن التعليقات .. فكانت تصل هذه الاقاويل الى خديجة .. همسات الاخريات وحكاويهم عنها .. فكانت خديجة فى انتظار رحمة السماء ؛ لتحمل من زوجها الحبيب ؛ فكانت تنتظره حتى يعود ؛ وتهيأ له جواً من الحب والعطف والود والوئام والتفانى فى خدمته لم يغيب عن ذهن النبى صلى الله عليه وسلم هذا الجو الحالم المفعم بالمشاعر الجياشة ؛ المترع حب ووئام من زوجته ؛ حتى أخر حياته ؛ ولم يزل الرسول صلى الله عليه وسلم يذكره فى غير موضع ويذكر صاحبته خديجة بنت خويلد بعد مماتها على الرغم من مرور الايام والسنين ؛ فى دروس أخرى تدرس كنماذج للازواج المخلصين الاوفياء الذين أخلصواْ لزوجاتهم أحياءاً وأمواتاً ..! وهاهى مبشرات الحمل تأتى ؛ ويهز الفرح كيان خديجة ؛ وتزف البشرى الى زوجها الحبيب بهـذا الخبر السعيد ؛ وتعمد خديجـة وتسـعى بكل الطرق لنشر الخبر ليعم أحياء قريش كلها ؛ وليكون هذا الخبر أكبر رد عملى على هؤلاء النسوة وكل من ألمح فى الايام الماضية ؛ ليسكت عنها المتطفلات ؛ وأغدقت خديجة عطاءها فرحاً ؛ فأنفقت على ذوى الحاجات ؛ وارادت الا يكون هناك جائع أو محروم بمكة ؛ سعادة وفرحاً وبشرى بحملها ؛ وأيضاً كرد عملى قاطع على همسات من يتحدث عنها من النسوة المتجرئات عليها .. واستمرت شهور الحمل ؛ وتهيم خديجة بهذا المولود ؛ وتختار لهو المراضع حتى قبل أن يولد ؛حتى آن الآوان ؛ وجاءت اللحظة المرتقبة ؛ بلهفة وشوق ؛ وانتشر الخبر فى أرجاء مكة ؛ لقد وضعت خديجة مولودها الاول لمحمد .. وتلقهاها النبى صلى الله عليه وسلم شاكراً الله .. نعم .. تلقاها وسماها ( زينب ) انها الابنة الكبرى لمحمد صلى الله عليه وسلم ؛ ولم يكن لهذا الامر عند الزوج وزوجته تأثير فى بيئة تفرق فيه بين الذكر والانثى ؛ لكنه جاء عند الزوجين كامر من السماء تلقته نفسيتين سويتين ؛ تحمد الله وتشكر فضله ؛ فهو العاطى الوهاب المنعم .. وبعد فترة .. حملت خديجة .. وجاءت رقية .. فاتصل الامل .. ومضت الايام السعيدة بالاسرة .. ثم جاءت أم كلثوم .. ثم جاءت فاطمة التى لقبت بـ ( الزهراء ) والتى سوف ترتبط برباط وثيق مع ابيها لتهتم به أكثر من امها ؛ وأكثر من البشر جميعاً ؛ لتحتل وتحجز حيزاً كبيراً فى قلبه ؛ وتكون كاتمه أسراره وموضع همساته حـتى قـبل اقرب زوجـاتـه الي قلبه ؛ حـتى ان عائشة زوجة النبى صلى الله عليه وسلم سـوف تغـيرمنها - فيما بعد - ومن شدة هذا الحب وذلك الاهتمام وتفرغها لابيها وودها له على مر الايام ؛ سيطلق عليها النبى صلى الله عليه وسلم هذا اللقب : ( أم أبيها ) وكانت سن خديجة وقت ولادة فاطمة قد اقتربت من الخمسين .. ثم جاء الحمل مرة أخرى .. وانجبت خديجة غلامها الاول ( القاسم ) .. ثم حملت خديجة وولدت غلامها الثانى ( عبد الله ) انهما وديعتان لم يشأ الله أن يعيشا طويلاً .. واسـترد الله سبحانه وتعالى الوديعتين الغاليتين ؛ احـدهما بعد الاخـر .. وعبد الله هذا هـو الذى لقب بالطيب والطاهر ؛ وقد أطلق عليه هذا اللقب لانه ولد بعد النبوة .. أما القاسم فبه كان يكنى النبى صلى الله عليه وسلم ؛ وقد بلغ القاسم سن المشى ؛ وكلاهما ؛ عبد الله ؛ والقاسم .. مات رضيعاً .. أما محمداً صلى الله عليه وسلم فكان يؤمن أن الله بالغ أمره ؛ وهو الذى يقضى ويحكم ؛ فحمد الله على قضائه ؛ واياً كانت الذرية .. بنين أم بنات .. فانها نعم الله.. وهو العاطى الوهاب الرزاق الحكيم العليم الخبير .. ثم يحدث جدب وفقر بمكة .. فاقترح النبى صلى الله عليه وسلم على عمه العباس أن يخففا العبء عن عمه ابا طالب لكثرة عياله ؛ فيأخذ العباس ولد يكفله ؛ ويأخذ النبى صلى الله عليه وسلم ولد يكفله ؛ فأخذ النبى صلى الله عليه وسلم على ابن ابى طالب يكفله ؛ وخصص له مكان فى بيته ؛ ليس هذا فحسب بل سوف يخصص له مساحة فى قلبه .. هكذا كانت تسير الامور فى هذه الدار بمكة .. واستمرت الحياة هادئة سعيدة ؛ اسرة ترتشف من عظمة الأب ؛ وتفانى الأم ؛ فكانت الثمرة جرعات من الحنان والوئام المتصل ؛ ثمرات يانعة من الجو الأسرى الحالم ؛ جو مفعم بالترابط والحب المنتشر فى أرجاء البيت .. وتمر الأيام .. وتمضى السنين .. ويقضى الله أمراً كان مفعولاً .. وتموت خديجة .. ويحتاج البيت إلى من يرعى البنات .. فالنبى صلى الله عليه وسلم مثقل كاهله من شأن الدعوة .. اضافة الى عمله وتجارته .. وبعد حين تأتى خوله لتعرض على النبى صلى الله عليه وسلم أن يتزوج ليجد من يرعى البيت وشئونه .. ويتعجب النبى صلى الله عليه وسلم من هذا الأمر الذى تحدثه فيه خوله أول الأمر .. لكنه يجد أن الأمر حقيقة واقعية ملحة .. ويتم الزواج من سودة بنت زمعة .. وكانت امرأة ممتلئة الجسـم ؛ متقدمه فى السن .. لكنها كما يقال سـيدة بيت من الطراز الفريد ؛ ممتازة الخدمة وتهيئة البيت لمعيشة مريحة للنبى صلى الله عليه وسلم وأهله ؛ حتى عندما عـرض الأمر على سـودة بنت زمعة قـالت : " والله مابى على الازواج من حـرص ؛ ولكنى أحـب أن يبعثنى الله يوم القيامة زوجاً لك " وهى أيضاً التى سوف تهب يومها لعائشة فيما بعد .. وتتفانى سودة فى طاعة النبى صلى الله عليه وسلم وأولاده ؛ وخدمته وخدمة بناته ؛ فتعطى أجود ما عندهـا ؛ وتصحـو وتنـام ولا شغـل لهـا إلا تهيئـة جـو عـائلى بهيـج عـنـوانـه الأول " الخدمة الممتازة والتفانى بلا حدود " فكانت مربية عظيمة ؛ ومساعدة للنبى صلى الله عليه وسلم للتفرغ لشئون الدعوة ؛ والعكوف على دعوته وعمله ؛ وبحنكة المرأة الخبير فى الحياة ؛ استطاعت سودة بنت زمعة اقامة خطوط ود وحب وحنان وتوقير بينها وبين أولاد النبى صلى الله عليه وسلم . وكانت خوله قد اقترحت على النبى صلى الله عليه وسلم الزواج من سودة ؛ وأيضاً التقدم لخطبة عائشة بنت أبى بكر ؛ واقترحت أن تكون خطوبة ؛ وحينما تتأهل عائشة للزواج يتم الدخول بها ؛ كما هو متبع انذاك فى هذا المجتمع ؛ حينما يشتد عود عائشة .. وقد فعل النبى صلى الله عليه وسلم .. فخطب عائشة من ابيها .. أما الزواج فسوف يكون فيما بعد فى المدينة هناك بعد عدة سنوات .. وتمضى الايام .. والنبى صلى الله عليه وسلم يؤدى رسالته .. ويبلغ رسالة ربه ؛ ويلقى ما يلقى من التعنت والشدة من قريش .. ثم يأذن الله له بالهجرة الى المدينة . وفى المدينة .. بعد عدة سنوات يتزوج النبى صلى الله عليه وسلم من عائشة بنت صديقه الحميم ؛ وثانى اثنين اذ هما فى الغار ؛ وهى اشد زوجات النبى صلى الله عليه وسلم غيرة عليه ؛ وسعياً للاسئتثار بحبه ؛ وهى البكر الوحيد التى تزوجها النبى صلى الله عليه وسلم .. البيت فى المدينة اذا أردنا أن نتوقف مع البيت فى المدينة ؛ ما وسعنا المقام ؛ لاننا سوف نجد أنفسنا حيئذ مضطرين للتوقف مع أمهات المؤمنين ؛ سودة بنت زمعة ؛ عائشة بنت أبى بكر ؛ حفصة بنت عمر ؛ زينب بنت خزيمة التى كانت تلقب بأم المساكين ؛ زينب بنت جحش ؛ جويرية بنت الحارث ؛ مارية أم ابراهيم ؛ وهو أمر يستحيل فى هذا الحيز الضيق ؛ والعرض الموجز .. لكننا سوف نتوقف مع بيت أم المؤمنين عائشة رضى الله عنها كنموج نختاره ؛ ليس لعرض شامل ؛ أو دراسة مستفيضة .. وانما ومضات موجزة نستشف منها علامات ودلائل ولقطات سريعة .. لكنها تفيد دلالات كبيرة نستخلص منها مكنونات ومعانى اسلامية كبيرة فى ظل هذا الايجاز .. بيت عائشة هل تريد حقاً أن ترى النبى صلى الله عليه وسلم ..؟ ما هو الذى تبذله من هذه الرؤية ..؟ لو تمكن الايمان من قلوبنا ؛ وكان لدى أحدنا أهله وماله ؛ لكان هذا اللقاء أحب الى قلبه من الأهل والمال ؛ انها رؤية النبى صلى الله عليه وسلم . نعم انها رؤية غالية .. فكما روى الامام مسلم فى صحيحه ؛ عن ابى هريرة رضى الله عنه ؛ قول النبى صلى الله عليه وسلم : " والذى نفس محمد بيده ليأتين على أحدكم يوماً ولا يرانى ؛ ثم لأن يرانى أحب اليه من أهله وماله معهم " رواه الامام مسلم فى صحيحه برقم (2364 ) . هاهى ألة الزمن ترجع بنا الى الخلف .. رويداً .. رويداً .. ها هى يثرب فى أعظم وأسمى أيامها .. لكن .. ما هذا الظلام الدامس ..؟ نعم .. هذا أمر طبيعى .. فلم تعرف البشرية بعد وسائل الاضاءة الحديثة . لكننا جئنا بشمعة صغيرة من الزمن البعيد .. انها شمعة تكاد تضىء .. لكن لعلها تضىء لنا الطريق لنرى بها على قدر استطاعتنا .. فهيا بنا اذن لنستغل كل لحظة قبل أن يغيب وميض هذه الشمعة التى سوف تحدد الى حد بعيد مدة مكوثنا فى هذا المكان قبل أن نعود الى زماننا فى عجالة .. اذن تعالى نمشى بخطوات متأنية على اطراف أصابع القدم حتى ندخل المدينة .. هيا نبحث عن بيت النبى صلى الله عليه وسلم حتى ندخل عليه بهدوء .. لا نزعجه .. تعال معنا لنفتح عليه باب داره .. ولكن ارجوك أخى المسلم المحب المتيم مثلى لهذا اللقاء الذى تنخلع معه قلوب المحبين ان تلتزم السكينة والوقار والهدوء .. ان جسدى لتأخذه رعشة من عظيم اشتياقى وهذا اللقاء ؛ وابغض ان ازعج حبيبى محمد صلى الله عليه وسلم .. فلنتفق اذن أن نفتح الباب بهدوء .. نعم لاتطرق الباب بقوة .. ومع شديد احترامنا لاداب الاستئذان فى القرآن والسنة .. ان عليك ان تتبع التعليمات العامة .. لكن ما هذه الرائحة الطيبة الذكية ..؟ وكأننا نقف على مصنع للعطور فى أشد نسبة تركيز للروائح الطيبة .. هل تشم هذه الرائحة مثلى ..؟ انها رائحة عرق النبى صلى الله عليه وسلم . ها هو الامام مسلم ؛ يخرج لنا هذه اللقطة بعدسته ؛ وذلك المشهد بثاً مباشراً تتلقاه قلوب المؤمنين ؛ قال أنس رضى الله عنه : " ما شممت عنبراً قط ؛ ولا مسكاً ؛ ولا شيئاً أطيب من ريح رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ ولا مسست شيئاً قط ؛ ديباجاً ؛ ولا حريراً ؛ ألين مساً من رسول الله صلى الله عليه وسلم " رواه الامام مسلم فى صحيحه برقم (1330 ) – صحيح مسلم بشرح النووى – طبعة دار التقوى – الطبعة الخامسة – الجزء الخامس عشر – صفحة 80 . انها اذن رائحة عرق النبى صلى الله عليه وسلم ولو كان بسيطاً .. هيا بنا ندخل اذن لنشم هذه الرائحة عن قرب .. وعليك ان تعلم انه لايجوز ان تلتفت يمنه ويسره ؛ فلا زال لهذا المنزل حرمته ؛ ولا زال الصوت المرتفع يحبط العمل كما أخبرنا الله تعالى فى كتابه .. ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (1) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ ) سورة الحجرات الاية 1 - 2 . واياك أن تطأ بقدمك مكان مجلسه ونومه وفراشه ؛ لكن عليك فقط أن تتبع دليلك معنا ؛ هذا الرجل الذى يتقدمنا ويحمل معه الشمعة ذات الوميض البسيط ؛ وسيشبع رغبتك .. ولا تتسرع وتذهب تتلفت ؛ فكل شىء سيأتى فى أوانه ؛ اننى أعرف أنك مثلى يكاد أن يطير قلبك فرحاً للقاء حبيبك وقرة عينك محمد صلى الله عليه وسلم .. لكن اترك هذا الذى يحمل الشمعة ليتقدم أمامنا حتى يضىء لنا الطريق .. ولتعلم قبل أن ترى النبى صلى الله عليه وسلم انه هو أيضاً أكثر تشوقاً لرؤيتك .. حتى انه ذات يوم سمعه أصحابه الكرام يقول ؛ وددت لو رأيت احبابى ؛ فقالوا : أولسنا احبابك يارسول الله ..؟ فقال لهم : بل أنتم أصحابى ؛ أما أحبابى فقوم يأتون بعد ؛ يؤمنواْ بى ولم يرونى .. فأى حب هذا الذى يتخطى الزمن ليبث الدفء والحنان ويرسلها عبر قرون لاناس لم تأتى بعد ؛ يفكر فيها النبى صلى الله عليه وسلم مع أن اصحابها لازالواْ فى علم الغيب ..؟ ألم أقل لك انه أشد اشتياقاً لك أكثر منك بكثير ..! فمن أجلك تحمل العنت والمشقة لتصل اليك الرسالة من الله من منبع صافى كما أنزلها الله عليه ؛ مبلغاً الرسالة ؛ مؤدياً الامانة .. وفى الاخرة ايضاً ؛ فى ذلك الموقف الذى تقول فيه البشرية كلها ؛ بل كل المخلوقات .. نفسى .. نفسى .. حتى يفر المرء من أخيه .. وأمه وبينيه .. وصاحبته وبنيه .. وفصيلته التى كانت تؤيه .. وتضع كل ذات حمل حملها حيث يشيب لهذا الموقف الولدان ؛ فانه يحمل هم أمته فيقول : يارب أمتى .. يارب أمتى .. نعم لانه أحب أمته حباً جماً .. هو الذى قال أيضاً ؛ ما من شوكه يشاكها مؤمن الا وجدت ألم ذلك فى قلبى .. فهل بادلته حباً كهذا الحب ..؟ اذن هو يحبك اضعاف كثيرة عما يحمل مكنون قلبك له .. اقترب اذن معنا حتى نصل الى باب بيت عائشة أو حجرة عائشة ؛ الموجود بداخله النبى صلى الله عليه وسلم الان .. أين هذا الباب .. اننا لانراه .. لا .. لا .. بل هذا هو الباب .. ان هذا الشىء هو الباب ..! الباب لعلك دار بخلدك أن بيت النبى صلى الله عليه وسلم قصراً مشيداً ؛ أو بيتاً فاخراً ؛ أو حتى مسكناً كتلك التى نسكنها اليوم .. مساكن مملؤة بكثير من النعم التى لاتحمد نفوسنا الله عليها ونظن أننا فى بؤس دائم ؛ وفقر مضجع ؛ وحرمان كبير ..! أين الباب لبيتك يارسول الله ..؟ ابحث معى ؛ بل انظر جيداً .. ها هو الرجل حامل الشمعة يقترب .. وها هى الصورة تظهر رويداً .. رويداً .. انظر جيداً .. ها هو الباب أمامك مباشرة .. لست تصدق عينيك .. أليس كذلك .. لا .. بل صدقها .. نعم هذا هو باب حبيبك المصطفى صلى الله عليه وسلم .. سيد البشر أجمعين .. وحبيب الرحمن .. هذا الباب ليس مصنوع من الحديد .. ولا حتى من الخشب الأرو الفاخر .. وليس مزركش .. وليس صرحاً منيعا .. انه باب أسود اللون .. فما باله كذلك ..؟ لسبب بسيط أن النبى صلى الله عليه وسلم إتخذه من جلد الضأن ويسمى المسوح ؛ فهو أسود اللون .. اذن ارفع معى هذا الباب .. ربما تقول : ارفعه أم افتحه ..؟ ارفعه لأعلى قليلاً .. على أحد الجوانب .. لانه مثبت من أعلى ..! أدخل معنا قليلاً ببطْء .. قف قليلاً مكانك .. حى يكتشف دليلنا حامل الشمعة أين ستكون موضع أقدامنا ..؟ تقدم الان ببطء .. قليلاً .. قليلا.. السقف الأن ..انظر إلى أعلى .. نعم الى سقف البيت .. ماذا ترى ..؟ لعلك كنت تظن انك سوف تجد سقف مسلح ..! أو سقف مصنوع من الخشب الفاخر الساقط ..! أو سقف مصنوع صناعة مميزة ..! أو به ألوان مزركشة ..! لا والله .. لن تجد هذا .. هل أصابك ما أصابنى من الدهشة ..؟ والتعجب ..! نعم لدى نفس الاحساس .. انه سقف مصنوع من جريد النخل .. نعم جريد النخل .. وليس سقفاً - كما ترى – مرتفاً أو بعيداً ؛ بل لو رفعت يدك لاصبت السقف .. هذا هو باب نبيك .. وهذا هو سقف الحجرة .. انها حجرة عائشة أو بيت عائشة .. لكن أين سرير الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم الذى ينام عليه ..؟ اننى لا أراه ..! أبحث معى .. فلعل نظرى زاغ عنه .. أو اننى لااستطيع أن اراه .. هل تراه أنت ..؟ لا أنا .. ولا أنت .. ولا من معنا .. لاأحد يستطيع أن يراه .. لماذا ..؟ لانه لايوجد سرير بالمعنى الذى نعرفه عند الرسول صلى الله عليه وسلم ..! لكن اقترب معنا خلف هذا الدليل الذى يحمل الشمعة .. دقق النظر جيداً .. انظر الى هذه الزاوية .. ان ما تراه هو سرير النبى صلى الله عليه وسلم .. نعم تلك الفرشة الممددة على الارض هى بمثابة سرير له صلى الله عليه وسلم .. أنك لو سألت أنس بن مالك عنها فلسوف يجيبك ؛ لنأت انس بن مالك أذن .. لنسأله عن هذا السرير .. ترى لو سألناه وقلنا له : سلام عليك ياخادم رسول الله صلى الله عليه وسلم .. نحن قوم من المتأخرين الذى أخبر عنا الرسول صلى الله عليه وسلم باننا من أحبابه .. نحن نريد أن نرى فرش النبى صلى الله عليه وسلم فهل قمت بالوصف التفصيلى لنا ؛ لاننا لانرى سرير فكيف كان ينام سيد الأولين والاخرين .. فبما سيجيب ..؟ يقول أنس : ان وسادة الرسول صلى الله عليه وسلم التى يضعها تحت رأسه حشوها ليف .. نعم هذا الليف الذى نعرفه .. ويضع تحت جسده الشريف فرشة .. الا تراها .. نعم انها هى التى نعرفها جيداً .. انها حصير .. حتى دخل عليه عبد الله بن مسعود ذات يوم وهو صلى الله عليه وسلم مضجع على الحصير ؛ وقد أثرت وعملت علامات فى جلد النبى صلى الله عليه وسلم ووجه .. فقام ابن مسعود يمسح عن جلده صلى الله عليه وسلم ؛ ويقول : بأبى أنت وأمى يارسول الله : ألا أذنتا فنبسط لك شيئاً يقيك منه تنام عليه ..؟ لكن ألا تسمع ما يقوله النبي صلى الله عليه وسلم لابن مسعود ..؟ انه صلى الله عليه وسلم يقول له : ما لى وللدنيا ؛ ما أنا إلا كراكب استظل بظل شجرة ؛ ثم راح وتركها . مساحة البيت ( غرفة عائشة ) : أخي الزائر معنا .. من كم من الامتار يتكون منزلك .. أو شقتك .. أو فيلاتك .. أو قصرك المشيد ..؟ هل ترضى عن هذا المسكن الذى تسكنه ..؟ أم إنك تبحث عن مسكن في مكان أخر .. أوسع .. أكثر رفاهية .. على النيل .. أو البحر .. أو ربما تريد تغيير المنطقة كلها التى تقطن بها أو المحافظة جميعها ..؟ ألم تسأل نفسك وتقول لها : أن لك مسكن أخر لابد أن تبنيه .. لكنه يختلف عن هذا المسكن الذي تسكنى فيه ..؟ انه مسكن ستسكن فيه أبد الابدين ..! أما روضة من رياض الجنة .. واما حفرة من حفر النار .. لبناته الذى تبنيه بها اذا كنت تريد الجنة ورضي الله هى الأعمال الصالحة التى تقدمها الان فى هذه الحياة الدنيا .. موزونة على كتاب الله والسنة النبوية .. اما اذا كانت الاخرى .. فاتبع نفسك هواها .. وافعل مل تشاء .. وستذهب الى هذه الدار الباقية مهما طال بك العمر .. والعمر لو تدرى قصير ..! هل أنت راض عن مسكنك الذى تسكن فيه الان ..؟ دعنا اذن من مسكنك .. أو مسكنى .. وتعال لنرى مسكن سيد الأولين والاخرين .. انه بيت أو حجرة عائشة أم المؤمنين رضى الله عنها ؛ أحب أزواج النبى صلى الله عليه وسلم الى نفسه بعد السيدة خديجة رضى الله عنهن جميعاً . ماذا دار فى خلدك ومخيلتك عن هذه الدار .. طولها .. عرضها .. انظر جيداً .. لو وقفت على بعد عدة أميال لن تسطيع أن تراها .. لانك من بعيد لن تظنها دار ..! لكن اذا اقتربت أكثر .. سوف تراها .. نعم ها هى : الا ترى هذا البناء الذى يبلغ طوله ثلاثة أمتار ؛ وعرضه مترين تقريباً ..! نعم .. هذا مسكن وبيت ودار النبى صلى الله عليه وسلم .. انها حجرة عائشة .. وحتى تتأكد من ذلك ؛ دعنا نترك السيدة عائشة بنفسها تصف لنا هذه الغرفة وصفاً تفصيليا لنراه بثاً مباشراً .. اسمح لى أن نستأذنها أولا بالصيغة التى وقرها بها سبحانه وتعالى ؛ حيث أخبرنا لأنها احدى امهاتنا .. أماه .. أماه .. اننا قوم من المتأخرين ؛ والبعـض منا يجهـل منزل رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ فهم كانوا يظنونه قصراً مشيداً ؛ أو بيتاً فاخراً ؛ أو دور وغرف متعــددة بعضها للنوم والاخرى للصالـون والاخرى للانترية ؛ وغرف للطعام ؛ وغيرها للاستقبال والضيوف .. أرجوك ياأماه أن تصفى لنا منزلكم .. حجرتك التى كان يقيم بها معك الرسول صلى الله عليه وسلم . تقول السيدة عاشة أم المؤمنين رضى الله عنها : لقد كنت انام وهو قائم يصلى ؛ فيطيل القراءة ؛ فاذا اراد السجود ؛ غمزنى فى قدمى ؛ فكفلها ليجد مكاناً ليسجد فيه .. نعم .. كانت السيدة عائشة اذا نامت .. والحبيب يصلى صلاة القيام ؛ لم يجد مكاناً ليسجد فيه .. حتى يغمزها فى قدمها ؛ فتقوم بضم قدمها الى جسدها ليجد الرسول صلى الله عليه وسلم مكاناً يتمكن من السجود فيه .. هاه .. كيف حالك الان ..؟ لعل نفسك تحدثك مثلما تحدثنى نفسى لابحث عن مكان اعداد الطعام ( المطبخ ) .. أخبرها بأنك لن تجد .. فقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم ؛ كما أخبرت السيدة عائشة رضى الله عنها ؛ كانواً يرون الهلال ؛ ثم الهلال ؛ ثم الهلال ؛ ( ثلاثة أهلة أو ثلاثة شهور ) ولا يوقد فى البيت نار ؛ وانما كان طعام اهل البيت الاسودان .. أى التمر والماء .. فقط ..! تمر وماء طوال ثلاثة شهور .. من منا يستطيع أن يفعل ذلك ..؟ كيف حال ثلاجاتنا اذن ..؟ وما شأن " الديب فريزر " .. وهذا المخزون من النعم فى بيوتنا ..؟ هل وصل بنا ذلك الى أن نحمد الله تعالى ونشكره لنرضى بما قسمه لنا ونرضى بأرزاقنا ..؟ جفف دموعك اذن .. اقبل وافتح عينيك جيداً لترى هذه الرفاهية التى كان النبى صلى الله عليه وسلم يعدها ويحسبها على نفسه ويؤدب نفسه ويقول لا : ( ثم لتسألن عن النعيم ). ألا تريد أن ترى نعله ..؟ ان نعله يشبه النعـل الذى نرتديه ويسـمى ( سحفـاة ) الان ؛ ونحـن نطلق عليه ( شبشب ) له مكان من الامام يدخل بين اصابع المرء منا ؛ وكانت العرب تطلق عليه انذاك ( شيراك ) . وارجع الى البخارى ومسلم كما تشاء .. لتجد أن حبيبك بنفسه .. كان يخسف نعله أى يصلحه بنفسه عندما يتمزق ؛ كما كانت تقول وتصف السيدة عائشة أم المؤمنين رضى الله عنها .. أما عن ثيابه فما أعطرها من ثياب تحمل عرق هو أسمى وأعظم وأجمل وأنبل من كل العطور .. لأنه عرق النبى صلى الله عليه وسلم . هذه عمامته المسماة ( السحاب ) التى أهداها له على بن أبى طالب وكانت شديدة البياض ؛ وكان النبى صلى الله عليه وسلم يلبسها تحت قلنسوة . وهذا قميصه الأبيض الذى كان يرتديه ويقول : ألبسواْ البياض فإنها أطهر وأطيب وكفنواْ فيها موتاكم . وهذا مشطه الذى كان يمتشط به ؛ ويمشط رأسه ولحيته .. وهذه ( مكحلة ) حيث كان صلى الله عليه وسلم يكتحل بالأثمد ؛ ليجلو البصر . وهذا سيفه المسمى ( ذو الفقار ) وهو السيف الذى ورثه عن أبيه عبد الله .. وكانت أول المعارك يوم بدر يخوضها النبى صلى الله عليه وسلم وهو فى يده .. ولكن .. أين الاكواب الفارهة .. والنمارق المصفوفة .. والاناء الانيق الذى يشرب فيه الرسول صلى الله عليه وسلم ..؟ لا يوجد شىء من هذه المسميات . إنك لن تجــد إلا قدحــاً مضبب بحديد ؛ هوالذى كان يشرب فيه النبى صلى الله عليه وسلم الماء ؛ أو ينقع فيه تمرات فى الماء ؛ أو الماء المذاب فيه العسل .. لقد كـان النبى صلى الله عليه وسلم يـرى فــى هـذه الاشيـاء نعــم كـــبرى ؛ وعطاء عظيم من الله له ؛ فيذكر نفسه بهذه النعم ؛ فكان صلى الله عليه وسلم يأكل الخبز بالزيت ويقول لنفسه : " ثم لتسألن يومئذ عن النعيم " نعم خبز وزيت .. هذا طعام عند النبى صلى الله عليه وسلم نعيم مقيم .. ومن ثم يذكر نفسه بأنها واقفة بين يدى خالقها يوم القيامة .. فسائلها عن هذا النعيم العظيم .. والعطاء الكبير .. فما بالنا بما نأكله نحن اليوم ..؟ الوان من الطعام والشراب ..! نعيش فى رفاهية بعيدة المدى ؛ متعددة الالوان ؛ مختلفة الاشكال ؛ متفردة الاختلاف ؛ متميزة عن جميع العصور التى سبقتنا .. ثم نزعم الفقر والمسكنة ..