أدلة السنة النبوية على انتقاض إيمان وأمان الساب لرسول الله صلى الله عليه وسلم ووجوب قتله: إن ما تقدم من الأدلة القرآنية شافٍ كافٍ في تقرير مسألتنا، غير أن السنة النبوية المطهرة جاءت شارحةً للقرآن مبينةً لمبهمه، ومفصلةً لمجمله، ومخصصة لعمومه، ومقيدةً لمطلَقِه، ومؤكدةً لأحكامه، ومُشرِّعةً لأحكام مستقلةٍ، ولما كان هذا شأن السنة فمن المهم النظر في أدلتها المتعلقة بمسألتنا كي تستبين لنا الضوابط الشارحة لتطبيق ما تقدم تقريره بالأدلة القرآنية، حتى لا تبقى شائبة أو شبهة في ذهن المكلف، ولينظر كيف كان تطبيق رسول الله صلى الله عليه وسلم لهذه الأدلة القرآنية. وكما قدمت آنفاً فإني لن أفصل في عرض هذه الأدلة بين ما يتعلق بالمسلم والمعاهد والمحارب بل نسرد الأدلة ونذكر وجوه الدلالة منها على المطلوب في موضعها مع الإشارة إلى خصوصيات كل دليل حسب الحاجة إن شاء الله. 1.عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :"إن الله قال: مَن عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب"، قال الحافظ ابن حجر رحمه الله :"قال الفاكهاني: في هذا تهديدٌ شديد لأن من حاربه اللهُ أهلكه، وهو من المجاز البليغ لأن مَن كَرِهَ مَن أحب الله خالف الله، ومن خالف الله عانده، ومن عانده أهلكه". وقال ابن تيمية رحمه الله :"فإذا كان من عادى واحذاً من الأولياء قد بارز اللهَ بالمحاربة، فكيف بمن عادى صفوة الله من أوليائه، فإنه يكون أشد مبارزةً له بالمحاربة، وإذا كان محارباً لله لأجل عداوته للرسول، فهو محارب للرسول بطريق الأولى، فثبت أن الساب للرسول محاربٌ لله ورسوله"، قلت: فإذا ثبت هذا تبين أن الساب لرسول الله صلى الله عليه وسلم منتقض الإيمان منتقض الأمان مستحق للقتل، وهو المطلوب. 2.عن أنس رضي الله عنه قال:" كان رجلٌ نصرانياً فأسلم وقرأ البقرة وآل عمران، فكان يكتب للنبي صلى الله عليه وسلم، فعاد نصرانياً فكان يقول: ما يدري محمد إلا ما كتبتُ له، فأماته الله فدفنوه فأصبحَ وقد لفظته الأرض. فقالوا: هذا فِعل محمد وأصحابه، لما هرب منهم نبشوا عن صاحبنا، فألقوه فحفروا له فأعمقوا، فأصبح وقد لفظته الأرض، فقالوا: هذا فعل محمد وأصحابه نبشوا عن صاحبنا لما هرب منهم، فألقوه فحفروا له وأعمقوا له في الأرض ما استطاعوا، فأصبح قد لفظته الأرض، فعلموا أنه ليس من الناس فألقوه"، قال العيني رحمه الله :"وفي رواية ثابت: فما لبث أن قصم الله عنقه فيهم"، قلت: أي في قومه من النصارى الكفار لأنه لحق بهم بعد أن ارتد، وكان يطعن في نبوة النبي صلى الله عليه وسلم ويزعم أن ما كان يأتي به صلوات الله وسلامه عليه من الوحي إنما علَّمه إياه هو، وواضحٌ ما في هذا من نسبة الكذب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم على سبيل الطعن والتنقص والإزراء به صلوات الله وسلامه عليه، ورواه مسلم في صحيحه أيضاً عن أنس بن مالك قال:"كان منا رجلٌ من بني النجار قد قرأ البقرة وآل عمران، وكان يكتب لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فانطلق هارباً حتى لحق بأهل الكتاب، قال: فرفعوه؛ قالوا هذا قد كان يكتب لمحمد، فأُعجبوا به، فما لبث أن قصم الله عنقه فيهم، فحفروا له فواروه فأصبحت الأرض قد نبذته على وجهها، ثم عادوا فحفروا له فواروه فأصبحت الأرض قد نبذته على وجهها، ثم عادوا فحفروا له فواروه فأصبحت الأرض قد نبذته على وجهها، فتركوه منبوذاً"، قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله:"فهذا الملعون الذي افترى على النبي صلى الله عليه وسلم أنه ما كان يدري إلا ما كتب له قصمه الله وفضحه، بأن أخرجه من القبر بعد أن دُفن مراراً، وهذا أمرٌ خارج عن العادة يدل كل أحد على أن هذا عقوبة لما قاله وأنه كان كاذباً، إذ كان عامة الموتى لا يصيبهم مثل هذا، وأن هذا الجرم أعظم من مجرد الارتداد إذ كان عامة المرتدين يموتون ولا يصيبهم مثل هذا، وأن الله منتقمٌ لرسوله ممن طعن عليه وسبَّه ومظهرٌ لدينه ولكذب الكاذب إذا لم يُمكن الناس أن يقيموا عليه الحد. ونظير هذا ما حدثناه أعداد من المسلمين العدول أهل الفقه والخبرة عما جربوه مراتٍ متعددة في حصار الحصون والمدائن التي بالسواحل الشامية لما حصر المسلمون فيها بني الأصفر في زماننا قالوا: كنا نحن نحصر الحصن أو المدينة الشهر أو أكثر من الشهر وهو ممتنعٌ علينا، حتى نكاد نيأس منه، حتى إذا تعرض أهله لسب رسول الله صلى الله عليه وسلم والوقيعة في عرضه تعجلنا فتحه وتيَّسر، ولم يكد يتأخر إلا يوماً أو يومين أو نحو ذلك، ثم يُفتح المكان عنوة ويكون فيهم ملحمة عظيمة، قالوا: حتى إن كنا لنتباشر بتعجيل الفتح إذا سمعناهم يقعون فيه مع امتلاء القلوب غيظاً عليهم بما قالوا فيه. وهكذا حدثني بعض أصحابنا الثقات أن المسلمين من أهل المغرب حالهم مع النصارى كذلك، ومن سنة الله أن يعذب أعداءه تارة بعذاب من عنده، وتارة بأيدي عباده المؤمنين"، قلت: ولا بد من الحذر من الركون إلى مثل هذه البشارات مع ترك تعاطي أسباب نصرة النبي صلى الله عليه وسلم، فتأمل كيف أن أهل الثغور كانوا يستبشرون بنصرة الله لرسوله صلى الله عليه وسلم بتعجيل هذه الحصون التي يحاصرونها لا أن أحدهم يقعد في بيته مع الخوالف ينتظر نصر الله من السماء دون أن يتعاطى أسبابه في الأرض من إعداد عدة وصدق عزيمة وإخلاص نية الخروج في سبيل الله تعالى. والشاهد هنا أن الله تعالى لا يفضح ولا يخزي عبداً بمثل هذا الخزي والفضيحة بحيث تلفظه الأرض ولا تقبل نتنه إلا وقد احتوى قلبه من النتن والحقد الكثير الكثير حتى ضاق به صدره فظهر على جوارحه ولسانه فأخذ يتجرأ على مقام النبوة بشتى أنواع السباب والشتم، فهذا قد انتقض إيمانه وأمنه وهو بين عذابين؛ عذاب القتل بأيدينا أو عذاب الله تعالى وما يعلم جنود ربك إلا هو. 3.عن أنس بن مالك رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل عام الفتح وعلى رأسه المغفر، فلما نزعه جاء رجل فقال: إن ابن خطل متعلقٌ بأستار الكعبة، فقال: اقتلوه"، قلت: وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أهدر دمه واستثناه ونفراً آخرين من الأمان الذي أعطاه لأهل مكة عام الفتح، قال الحافظ ابن حجر رحمه الله:"واستدل به- أي بالحديث - على جواز قتل الذمي إذا سب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفيه نظر كما قاله ابن عبد البر، لأن ابن خطل كان حربياً ولم يدخله رسول الله صلى الله عليه وسلم في أمانه لأهل مكة، بل استثناه مع من استثنى وخرج أمره بقتله مع أمانه لغيره مخرجاً واحداً، فلا دلالة فيه لما ذكره، انتهى. ويمكن أن يُتمسك به في جواز قتل من فعل ذلك بغير استتابة من غير تقييدٍ بكونه ذمياً، لكن ابن خطل عمل بموجبات القتل فلم يتحتم أن سبب قتله السب"، قلت: هذا الذي ذكره ابن حجر جيد أعني عدم التقييد بالساب الذمي لأن ابن خطل كان مرتداً ولمن يكن من أهل الذمة، ولكن يبقى الدليل قوياً من الحديث على قتل ساب الرسول صلى الله عليه وسلم وهو إن كان في المسلم المرتد بالسب مؤكداً ففي الذمي الناقض للعهد بالسب من باب أولى، وأما قوله رحمه الله إن ابن خطل قارف موجبات القتل الأخرى فلقد حرر ذلك شيخ الإسلام تحريراً نفيساً بحيث بيَّن أن الموجب الذي بسببه أباح النبي صلى الله عليه وسلم دمه إنما هو السب لا غير، حيث قال رحمه الله:"وقد تقدم عن أهل المغازي أن جرمه – أي جريمة ابن خطل - أن النبي صلى الله عليه وسلم استعمله على الصدقة وأصحبه رجلاً يخدمه، فغضب على رفيقه لكونه لم يصنع له طعاماً أمره بصنعه فقتله، فخاف ثَمَّ أن يُقتل فارتد واستاق إبل الصدقة، وأنه كان يقول الشعر يهجو به رسول الله صلى الله عليه وسلم ويأمر جاريتيه أن تغنِيّا به، فهذا له ثلاث جرائم مبيحة للدم؛ قتل النفس والردة والهجاء. فمن احتج بقصته يقول: لم يُقتل لقتل النفس لأن أكثر ما يجب على من قتل ثم ارتد أن يُقتل قَوَداً، والمقتول من قبيلة خزاعة له أولياء فكان حكمه لو قُتل قَوَداً أن يُسلَّم إلى أولياء المقتول، فإما أن يقتلوا أو يعفوا أو يأخذوا الدية، وهذا ما لم يفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم فدل على أنه لم يُقتل قوداً، وكذلك لم يُقتل لمجرد الردة لأن المرتد يُستتاب واذا استنظر أُنظر، وهذا ابن خطل قد فرَّ إلى البيت عائذاً به طالباً للأمان تاركاً للقتال ملقياً للسلاح حتى يُنظر في أمره، وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم بعد علمه بذلك كله أن يُقتل، وليس هذا سنة من يُقتل لمجرد الردة، فثبت أن هذا التغليظ في قتله إنما كان لأجل السب والهجاء، وأن الساب وإن ارتد فليس بمنزلة المرتد المحض بل يُقتل قبل الاستتابة، ولا يُؤخر قتله، وذلك دليل على جواز قتله بعد التوبة"، قلت: وهذا تحريرٌ نفيس للمسألة وقد تبين منه أن موجب إهدار دمه كان السب دون غيره من موجبات القتل، وهو المطلوب. 4.حديث ابن عباس رضي الله عنهما :"أن أعمى كانت له أم ولد تشتم النبي صلى الله عليه وسلم وتقع فيه، فينهاها فلا تنتهي، ويزجرها فلا تنزجر، قال: فلما كانت ذات ليلة جعلت تقع في النبي صلى الله عليه وسلم وتشتمه، فأخذ المغول فوضعه في بطنها واتكأ عليها فقتلها، فوقع بين رجليها طفل فلطخت ما هناك بالدم، فلما أصبح ذُكر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فجمع الناس فقال: أنشد الله رجلاً فعل ما فعل لي عليه حق إلا قام. فقام الأعمى يتخطى الناس وهو يتزلزل، حتى قعد بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، أنا صاحبها كانت تشتمك وتقع فيك، فأنهاها فلا تنتهي وأزجرها فلا تنزجر، ولي منها ابنان مثل اللؤلؤتين، وكانت بي رفيقة، فلما كانت البارحة جَعَلَت تشتمك وتقع فيك، فأخذت المغول فوضعته في بطنها واتكأت عليها حتى قتلتها. فقال النبي صلى الله عليه وسلم :"ألا اشهدوا أن دمها هدر"، قال الشيخ العظيم آبادي :"وفيه دليل على أن الذمي إذا لم يكف لسانه عن الله ورسوله فلا ذمة له فيحل قتله، قاله السندي". وقال ابن تيمية رحمه الله:"وهذه المرأة إما أن تكون كانت زوجة لهذا الرجل أو مملوكةً له، وعلى التقديرين فلو لم يكن قتلها جائزاً لبيَّن النبي صلى الله عليه وسلم له أن قتلها كان محرماً، وأن دمها كان معصوماً، ولأوجب عليه الكفارة بقتل المعصوم والدية إن لم تكن مملوكةً له. فلما قال: اشهدوا أن دمها هدر، والهدر الذي لا يُضمن بقَوَد ولا دية ولا كفارة، عُلم أنه – أي قتلها - كان مباحاً مع كونها كانت ذمية، فعُلم أن السبَّ أباح دمها لا سيما والنبي صلى الله عليه وسلم إنما أهدر دمها عقب إخباره بأنها قُتلت لأجل السب، فعُلم أنه الموجب لذلك والقصة ظاهرة الدلالة في ذلك". قلت: نعم، القصة ظاهرة الدلالة على ذلك لمن أراد أن يصدر عن سنة المعصوم صلى الله عليه وسلم، أما من أراد أن يصدر عن داعية هواه ويسير وراء عقله المزعوم ومبتغاه، يداهن ويماري ويختلق الشبه والأعذار فما تغن النذر والآيات عن هؤلاء شيئاً والله المستعان. 5.حديث الشعبي عن علي رضي الله عنه:" أن يهودية كانت تشتم النبي صلى الله عليه وسلم وتقع فيه، فخنقها رجلٌ حتى ماتت، فأبطل رسول الله صلى الله عليه وسلم دمها"، أي أهدره، قال الإمام الشوكاني رحمه الله :"وفي حديث ابن عباس – وهو المتقدم معنا - وحديث الشعبي دليلٌ على أنه يُقتل مَن شتم النبي صلى الله عليه وسلم، وقد نقل ابن المنذر الاتفاق على أن من سب النبي صلى الله عليه وسلم صريحاً وجب قتله". وسواء أكانت القصة في هذين الحديثين نفسها أم لا فالدلالة منهما واضحة على إهدار دم شاتم رسول الله صلى الله عليه وسلم. 6.أمر النبي صلى الله عليه وسلم في فتح مكة بقتل أفراد بعينهم مع كفه عمن سواهم، كما روى البيهقي في الحديث وفيه :"وأمرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يكفوا أيديهم فلا يقاتلوا أحداً إلا مَن قاتلهم، وأمر بقتل أربعة نفر منهم: عبد الله بن سعد بن أبي سرح، والحارث بن نقيذ، وابن خطل ومقيس بن صبابة، وأمر بقتل قينتين لابن خطل كانتا تغنيان بهجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم"، ثم قُتلت إحدى القينتين واستخفت الأخرى حتى استؤمن لها، قال ابن تيمية رحمه الله:"فوجه الدلالة أن تعمُّدَ قتل المرأة لمجرد الكفر الأصلي لا يجوز بالإجماع، وقد استفاضت بذلك السنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم" ، ثم قال :"إذا تقرر هذا فنقول: هؤلاء النسوة كن معصومات بالأنوثة، ثم إن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بقتلهن لمجرد أنهن كنَّ يهجينه وهنَّ في دار حرب، فعُلم أن مَن هجاه وسبَّه جاز قتلُه بكل حال"، قلت: هذا الدليل من الأهمية بمكان لانطباق كافة أوصاف المعيَّن فيه على كثير ممن يشتمون النبي صلى الله عليه وسلم اليوم ممن هم في بلاد الكفر كأوروبا وأمريكا الشمالية وغيرها من الدول الصليبية، فأهل هذه الدول كفار محاربون في دار الحرب تماماً كما كان حال هاتين القينتين، ثم إن مَن كان من الشاتمين اليوم من الكفار المحاربين امرأة فدخولها في الحديث واضح لا إشكال فيه حيث انطبقت كل الصفات، ومَن كان رجلاً فمن باب أَولى لأن الذكورة ليست عاضمة لدم الكافر الحربي، فاستقام انطباق هذا الدليل على طائفة كبيرة من أكابر مجرمي هذه الدول الصليبية الكافرة التي يتطاول بعض أفرادها بسب النبي صلى الله عليه وسلم ويسكت الآخرون إما سكوت تقرير أو سكوت تبرير، فيما تستمر استجداءات بعض البيانات الإعلامية الهزيلة لبعض المسلمين يحسبون أنهم ينتصرون بذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، وما بيننا وبين الانتصار له حقيقةً إلا استنهاض الهمة تحريضاً على الظفر بهؤلاء المجرمين، كما أمر النبي صلى الله عليه وسلم بتتبع هاتين المجرمتين ولو كنَّ في حرم مكة شرفها الله، ثم إنزال حكم الله تعالى فيهن بعد الظفر بهن، وكذلك يجب السعي للظفر بكل مجرم دنيء يتطاول على رسول الله صلى الله عليه وسلم ليُقام فيه حد الله تعالى أعني القتل لا غيره، والله الموفق وله الحمد على ما هدانا، وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله. 7.حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما يقول:" قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: مَن لكعب بن الأشرف فإنه قد آذى الله ورسوله؟ فقام محمد بن مسلمة فقال: يا رسول الله، أتحب أن أقتله؟ قال: نعم. قال: فائذن لي أن أقول شيئاً. قال: قل. فأتاه محمد بن مسلمة فقال: إن هذا الرجل قد سألنا صدقة، وإنه قد عنانا وإني قد أتيتك أستسلفك. قال: وأيضاً، والله لتملُنَّه. قال: إنا قد اتبعناه فلا نحب أن ندعه حتى ننظر إلى أي شيء يصير شأنه، وقد أردنا أن تسلفنا وسقاً أو وسقين. - وحدثنا عمرو غير مرة فلم يذكر وسقاً أو وسقين فقلت له: فيه وسقاً أو وسقين؟ فقال: أرى فيه وسقاً أو وسقين- فقال: نعم ارهنوني. قالوا: أي شيء تريد؟ قال: ارهنوني نساءكم. قالوا: كيف نرهنك نساءنا وأنت أجمل العرب؟ قال: فارهنوني أبناءكم. قالوا: كيف نرهنك أبناءنا فيُسبُّ أحدهم فيقال رُهن بوسق أو وسقين هذا عارٌ علينا، ولكنا نرهنك اللأمة - قال سفيان: يعني السلاح - فواعده أن يأتيه، فجاءه ليلاً ومعه أبو نائلة - وهو أخو كعب من الرضاعة- فدعاهم إلى الحصن فنزل إليهم، فقالت له امرأته: أين تخرج هذه الساعة؟ فقال: إنما هو محمد بن مسلمة وأخي أبو نائلة - وقال غير عمرو: قالت: أسمع صوتاً كأنه يقطر منه الدم. قال: إنما هو أخي محمد بن مسلمة ورضيعي أبو نائلة- إن الكريم لو دُعي إلى طعنةٍ بليلٍ لأجاب. قال: ويدخل محمد بن مسلمة معه رجلين - قيل لسفيان: سماهم عمرو؟ قال: سمى بعضهم. قال عمرو: جاء معه برجلين وقال غير عمرو أبو عبس بن جبر والحارث بن أوس وعباد بن بشر - قال عمرو: جاء معه برجلين فقال: إذا ما جاء فإني قائلٌ بشعره فأشمه، فإذا رأيتموني استمكنت من رأسه فدونكم فاضربوه، - وقال مرة ثم أشمكم- فنزل إليهم متوشحاً وهو ينفح منه ريح الطيب، فقال: ما رأيت كاليوم ريحاً أي أطيب - وقال غير عمرو قال: عندي أعطر نساء العرب وأكمل العرب - قال عمرو: فقال: أتأذن لي أن أشم رأسك؟ قال: نعم، فشمه ثم أشم أصحابه، ثم قال: أتأذن لي؟ قال: نعم. فلما استمكن منه قال: دونكم، فقتلوه ، ثم أتوا النبي صلى الله عليه وسلم فأخبروه"، قال الحافظ ابن حجر رحمه الله:"وروى أبو داود والترمذي من طريق الزهري عن عبد الرحمن بن عبد الله بن كعب بن مالك عن أبيه أن كعب بن الأشرف كان شاعراً وكان يهجو رسول الله صلى الله عليه وسلم ويحرض عليه كفار قريش"، قلت: فهذا صريح في أنه كان يسب ويهجو رسول الله صلى الله عليه وسلم، ووجه الدلالة من هذا الحديث من وجوه، (أولها) أن النبي صلى الله عليه وسلم ندب إلى قتل من يؤذيه والأذى كما بينت باقي الروايات وكما هو معروف مستفيض في قصة كعب بن الأشرف كان بالسب والشتم والهجاء، و(منها) أن كعب بن الأشرف كان معاهداً ذمياً ومع ذلك ندب النبي صلى الله عليه وسلم إلى قتله دون أن ينبذ إليه عهده، فدل على أن مجرد السب والشتم والهجاء ناقض للأمان، و(منها) أن الصحابة احتالوا عليه لقتله وأوهموه الأمان حتى استمكنوا منه، فدل على أن قتله ليس لمجرد الكفر لأن الكفار لا بد من أن يُعرض عليهم الإسلام قبل القتال والقتل، قال ابن تيمية رحمه الله:"الوجه الثاني من الاستدلال به أن النفر الخمسة الذين قتلوه من المسلمين؛ محمد بن مسلمة، وأبا نائله وعباد بن بشر والحارث بن أوس وأبا عبس بن جبر قد أذن لهم النبي صلى الله عليه وسلم أن يغتالوه ويخدعوه بكلامٍ يُظهرون به أنهم قد أمنوه ووافقوه ثم يقتلوه، ومن المعلوم أن من أظهر لكافرٍ أماناً لم يجز قتله بعد ذلك لأجل الكفر، بل لو اعتقد الكافر الحربي أن المسلم أمَّنه وكلمه على ذلك صار مستأمناً"، ثم قال رحمه الله:"وإنما قتلوه لأجل هجائه وأذاه لله ورسوله، ومَن حَلَّ قتلُه بهذا الوجه لم يُعصم دمُه بأمان ولا بعهد، كما لو أمَّن المسلمُ مَن وجب قتله لأجل قطع الطريق ومحاربة الله ورسوله والسعي في الأرض بالفساد الموجب للقتل، أو أمَّن مَن وجب قتله لأجل زِناه أو أمَّن مَن وجب قتله لأجل الردة أو لأجل ترك أركان الاسلام ونحو ذلك، ولا يجوز أن يُعقد له عقد عهدٍ سواء كان عقد أمان أو عقد هدنة أو عقد ذمة، لأن قتله حدٌ من الحدود وليس قتله لمجرد كونه كافراً حربياً، قلت: وهذه القصة من الوضوح بمكان وإنما عرضنا بعض هذه الوجوه لتحرير صفات المجرم الساب وليُعلم تناول الحكم من هذه صفته ممن قد يشتبه على البعض أن له عصمة أو أمان يقيه القتل، والله الموفق. 8.عن البراء بن عازب رضي الله عنه قال:"بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أبي رافع اليهودي رجالاً من الأنصار، فأمَّر عليهم عبد الله بن عتيك، وكان أبو رافع يؤذي رسول الله صلى الله عليه وسلم ويعينُ عليه، وكان في حصنٍ له بأرض الحجاز، فلما دنوا منه وقد غربت الشمس وراح الناس بسرحهم فقال عبد الله لأصحابه: اجلسوا مكانكم، فإني منطلقٌ ومتلطفٌ للبوّاب لعلّي أن أدخل. فأقبلَ حتى دنا من الباب، ثم تقنع بثوبه كأنه يقضي حاجة وقد دخل الناس، فهتف به البواب: يا عبد الله، إن كنت تريد أن تدخل فادخل فإني أريد أن أغلق الباب، فدخلتُ فكمنتُ، فلما دخل الناس أغلقَ الباب ثم علّق الأغاليق على وتد، قال: فقمت إلى الأقاليد فأخذتها ففتحت الباب، وكان أبو رافع يُسمر عنده، وكان في علالي له، فلما ذهب عنه أهل سَمَرِه صعدت إليه، فجعلت كلما فتحت باباً أغلقت عليَّ مِن داخل، قلت: إنِ القوم نُذِرُوا بي لم يخلصوا إلي حتى أقتله، فانتهيت إليه فإذا هو في بيت مظلم وسط عياله لا أدري أين هو من البيت، فقلت: يا أبا رافع! قال: مَن هذا؟ فأهويت نحو الصوت فأضربه ضربة بالسيف وأنا دهش فما أغنيت شيئاً، وصاح فخرجت من البيت، فأمكث غير بعيد ثم دخلت إليه فقلت: ما هذا الصوت يا أبا رافع؟ فقال: لأمك الويل، إن رجلاً في البيت ضربني قبل بالسيف. قال: فأضربه ضربةً أثخنته ولم أقتله، ثم وضعت ظبة السيف في بطنه حتى أخذ في ظهره فعرفت أني قتلته، فجعلت أفتح الأبواب باباً باباً حتى انتهيت إلى درجة له، فوضعت رجلي وأنا أرى أني قد انتهيت إلى الأرض، فوقعت في ليلة مقمرة، فانكسرت ساقي فعصبتها بعمامة، ثم انطلقت حتى جلست على الباب، فقلت: لا أخرج الليلة حتى أعلم أقتلته. فلما صاح الديك قام الناعي على السور فقال: أنعى أبا رافع تاجر أهل الحجاز. فانطلقت إلى أصحابي فقلت: النجاء، فقد قتل الله أبا رافع، فانتهيت إلى النبي صلى الله عليه وسلم فحدثته، فقال: ابسط رجلك، فبسطت رجلي، فمسحها فكأنها لم أشتكها قط"، وفي هذا الحديث الصحيح جملة نافعة من الفوائد جمعها الحافظ ابن حجر ولمعظمها تعلق بمسألتنا مع دخول مسألتنا في جملة هذه الفوائد حيث قال رحمه الله:"وفي هذا الحديث من الفوائد: جواز اغتيال المشرك الذي بلغته الدعوة وأصرّ، وقتلِ من أعان على رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده – يعني بمقاتلته - أو ماله – يعني بدعم من يحارب رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو لسانه – يعني بالسب والأذى والتحريض ونحوه ، وجواز التجسيس على أهل الحرب، وتطلُّب غرتهم، والأخذ بالشدة في محاربة المشركين، وجواز إبهام القول للمصلحة، وتعرُّض القليل من المسلمين للكثير من المشركين، حيث أرسل سرية من نفر يسير إلى حصن من حصون الكفار، والحكم بالدليل والعلامة حيث استدل ابن عتيك على أبي رافع بصوته، واعتمد على صوت الناعي بموته والله أعلم". قال ابن تيمية رحمه الله :" فقد تبين من هذه القصة أنما تسرى المسلمون بقتله بإذن النبي صلى الله عليه وسلم، بسبب أذاه للنبي صلى الله عليه وسلم ومعاداته له، وأنه كان نظير ابن الأشرف وقد تقدمت قصته، لكن ابن الأشرف كان معاهداً فآذى اللهَ ورسولهَ فندب المسلمين إلى قتله، وهذا لم يكن معاهداً. فهذه الأحاديث كلها تدل على أن من كان يسب النبي صلى الله عليه وسلم ويؤذيه من الكفار، فإنه كان يقصد قتلَه ويحض عليه لأجل ذلك، وكذلك أصحابه يفعلون ذلك بأمره، مع كفِّه عن غيره من الكفار ممن هو على مثل حاله في أنه كافرٌ غير معاهد، بل مع أمانه لأولئك الكفار غير السابين ولا الشاتمين أو إحسانه إليهم من غير عهدٍ بينه وبينهم"، قلت: أي أن سيرة النبي صلى الله عليه وسلم مع الكفار حتى الحربيين منهم غير المؤذين باللسان والسب والشتم والتحريض كانت سيرة معاملة بإحسان ولو لم يكن بينه وبينهم عهد، فعُلم أن معاملة القتل وإرسال السرايا وراء أمثال أبي رافع إنما كان لمعنى زائد عن الكفر وهو أذية رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو المطلوب. 9.قصة قتل أبي عفك اليهودي: روى ابن سعد رحمه الله في طبقاته :"ثم سرية سالم بن عمير العمري إلى أبي عفك اليهودي في شوال على رأس عشرين شهراً من مهاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم: وكان أبو عفك من بني عمرو بن عوف شيخاً كبيراً قد بلغ عشرين ومائة سنة، وكان يهودياً وكان يحرِّض على رسول الله صلى الله عليه وسلم ويقول الشعر. فقال سالم بن عمير - وهو أحد البكائين وقد شهد بدراً – : عليَّ نذرٌ أن أقتل أبا عفك أو أموت دونه، فأمهل يطلب له غرة، حتى كانت ليلة صائفة، فنام أبو عفك بالفناء وعلم به سالم بن عمير، فأقبل فوضع السيف على كبده ثم اعتمد عليه حتى خش في الفراش، وصاح عدو الله فثاب إليه ناس ممن هم على قوله، فأدخلوه منزله وقبروه"، فهذا آخرٌ ممن كان يؤذي رسول الله صلى الله عليه وسلم بالشعر والهجاء ويحرض عليه، قد نذر أحد الصحابة قتله وفعل ذلك من غير نكير من الله سبحانه وتعالى ولا من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فدل على أن شاتم رسول الله صلى الله عليه وسلم لا إيمان له ولا أمان وإنما له السيف يقتل مهدور الدم كما تقتل البهائم، بل إن البهائم فيها ضمان القيمة على من أتلفها وليس على قاتل مثل هذا المجرم شيء، فتأمل. 10.عن أنسٍ أن رجلاً كان يُتهم بأم ولد رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعلي:" اذهب فاضرب عنقه. فأتاه علي فإذا هو في ركي يتبرد فيها، فقال له علي: اخرج، فناوله يده فأخرجه فإذا هو مجبوبٌ ليس له ذَكَر، فكفَّ علي عنه، ثم أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، إنه لمجبوبٌ ما له ذَكَر"، قال أبو محمد ابن حزم الظاهري رحمه الله:" هذا خبرٌ صحيح، وفيه أن من آذى النبي صلى الله عليه وسلم وجبَ قتلُه، وإن كان لو فعل ذلك برجلٍ من المسلمين لم يجب بذلك قتله". وقد كان الصحابة رضوان الله عليهم يعملون بهذا التحريم، كما قال ابن تيمية رحمه الله:"ويدل على ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم تزوج قيلة بنت قيس بن معدي كرب أخت الأشعث ومات قبل أن يدخل بها وقبل أن تقدم عليه، وقيل أنه خيرها بين أن يضرب عليها الحجاب وتحرم على المؤمنين، وبين أن يطلقها فتنكح من شاءت فاختارت النكاح، قالوا: فلما مات النبي صلى الله عليه وسلم تزوجها عكرمة بن أبي جهل بحضرموت، فبلغ أبا بكر فقال: لقد هممت أن أحرق عليهما بيتهما. فقال عمر : ما هي من أمهات المؤمنين ولا دخل بها ولا ضرب عليها الحجاب، وقيل إنها ارتدت فاحتج عمر على أبي بكر أنها ليست من أزواج النبي صلى الله عليه وسلم بارتدادها. فوجه الدلالة أن الصدِّيق رضى الله عنه عزم على تحريقها وتحريق من تزوجها لما رأى أنها من أزواج النبي صلى الله عليه وسلم حتى ناظره عمر أنها ليست من أزواجه فكف عنهما لذلك، فعُلم أنهم – أي الصحابة - كانوا يرون قتل من استحل حرمة رسول الله صلى الله عليه وسلم". قلت: فإذا كانوا يرون هذا فيمن نكح أحد أزواجه صلى الله عليه وسلم وهذا مما يجوز معاملة المسلمين بعضهم بعضاً به لكن حرمه الله تعالى عليهم مع أزواج النبي صلى الله عليه وسلم حرمة له كما تقدم، فكيف بمن سبه وآذاه وشتمه وتنقصه وطعن في عرضه ونسبه إلى الكذب أو الشر أو الفحش حاشاه بأبي وأمي هو صلوات الله وسلامه عليه، أليس القتل والتحريق لهؤلاء المجرمين بالجزاء المناسب لهم في الدنيا، ونكلهم إلى عذاب الله في الآخرة. فهذه عشرة أحاديث وآثار ما بين صحيح وحسن يدل كل منها منفرداً على حكم ساب رسول الله صلى الله عليه وسلم فكيف بها مجتمعة، وكيف بها منضمة إلى ما تقدم من آياتٍ قرآنية لاتدع مجالاً لريبة أو شك إلا عند من تمكنت الريبة والشك من قلبه فهو أشبه بمريض أعضل مرضه فبات مستعصياً على الدواء، لا لعلةٍ في الدواء وإنما لفسادٍ في نفسه وخبثٍ في سريرته نسأل الله السلامة والعافية من ذلك كله. هذا مع العلم بأن السنة لا تزال طافحة بعشرات الأمثلة من جنس ما قدمنا، غير أني اقتصرت على المذكور بغية الاكتفاء بما لا مقال في ثبوته من جهة السند ولا غموض في دلالته من جهة المتن، واجتناباً للتطويل حيث وضعنا هذا الكتاب على الاختصار كما بينا. وأشير إلى أن من أراد تفصيلاً زائداً عما قدمنا بالنسبة للأحاديث أو أوجه الدلالة منها أو رد شبهات مثارة عليها فليعد إلى كتاب الصارم المسلول فإنه لم يترك شاردة ولا واردة مما ذكرنا، وهو أليق بطالب العلم الذي يهتم بوجوه الاستدلال والاستنباط ونحوها، فليرجع إليه من احتاج، والله الموفق.