عصمة إسلام الكافر الساب للنبي صلى الله عليه وسلم لدمه من القتل: إذا أسلم الكافر قُبِل إسلامه وليس النظر في هذا،وإنما النظر في استصحاب تحتم وتعيُّن قتل الكافر إذا أسلم وكان قد سب النبي صلى الله عليه وسلم، ولقد أجاد شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله وأفاد في عرض أدلة هذه المسألة حيث بيَّن بأكثر من عشرين طريقة، وبما لا يترك مجالاً للشك أن حكم الكافر الأصلي الساب للنبي صلى الله عليه وسلم هو كحكم المرتد الساب يُقتل لموجب السب مع قبول إسلامه. والدليل على ذلك مجمل الأدلة المتقدمة في المسألة الأولى بل في الكتاب كله، إذ أنها إذا كانت نافذة في المرتد مع ما له من سابقة الإسلام فلأن تنفذ في الكافر الأصلي ذمياً كان أم مستأمناً أم حربياً أحرى وأولى، ونضيف إلى ما سبق ما يلي من الأدلة: 1.قول الله تعالى :" إن شانئك هو الأبتر"، قال ابن تيمية في هذه الآية :"وكل جرمٍ استحق فاعله عقوبةً من الله، إذا أظهر ذلك الجرم عندنا وجب أن نعاقبه ونقيم عليه حد الله، فيجب أن نبتر من أظهر شنآنه وأبدى عداوته، وإذا كان ذلك واجباً وجب قتله وإن اظهر التوبة بعد القدرة، وإلا لما انبتر له شانيء بأيدينا في غالب الأمر، لأنه لا يشاء شانئ أن يظهر شنآنه ثم يظهر المتاب بعد رؤية السيف إلا فعل، فإن ذلك سهل على من يخاف السيف". قلت: وهذه الآية خبرٌ من الله تعالى بمآل مَن أبغض النبي صلى الله عليه وسلم وشانه، وهذا الخبر كما أنه مجمول على الواقع بالنسبة لأعيانٍ انتقم الله تعالى منهم لنبيه صلى الله عليه وسلم، فإنه محمولٌ أيضاً على الطلب من المؤمنين الموحدين أتباع محمد الأمين صلوات الله وسلامه عليه بأن يجدّوا في تعاطي أسباب قطع دابر كل من تسول له نفسه التطاول بالسب والشتم والأذى على النبي صلى الله عليه وسلم. 2.قصة أنس بن زنيم الديلي : قال الحافظ ابن حجر رحمه الله :"ذكر ابن إسحاق في المغازي أن عمرو بن سالم الخزاعي خرج في أربعين راكباً يستنصرون رسول الله صلى الله عليه وسلم على قريش، فأنشده: لاهم إني ناشدٌ محمداً عهدَ أبينا وأبيه الأتلدا ..الأبيات، ثم قال: يا رسول الله، إن أنس بن زنيم هجاك، فأهدر رسول الله صلى الله عليه وسلم دمه، فبلغه ذلك فقدم عليه معتذراً، وأنشده أبيات مدحه بها، وكلَّمه فيه نوفل بن معاوية الديلى فعفا عنه، وهكذا أورد الواقدي والطبري القصة لأنس بن زنيم"، ووجه الدلالة من هذا الحديث أن أنس بن زنيم الديلي الذي ذُكر عنه أنه هجا النبي صلى الله عليه وسلم ثم جاءه وأنشده قصيدةً تتضمن إسلامه وبراءته مما قيل عنه وكان معاهداً، فتوقف النبي صلى الله عليه وسلم فيه، وجعل أنس يسأل العفو عنه حتى عفا عنه، فلو لم تكن العقوبة بعد الإسلام على السب من المعاهد مستحقة لما توقف النبي صلى الله عليه وسلم في حقن دمه، ولا احتاج إلى العفو عنه، ولولا أن للرسول صلى الله عليه وسلم عليه حقاً يملك استيفاءه بعد الإسلام لما عفا عنه، كما لم يكن يحتاج أن يعفو عمن أسلم ولا تبعة عليه، وهذا الحديث لمن تأمله دليل واضح على جواز قتل من هجا النبي صلى الله عليه وسلم من المعاهدين ثم أسلم"، قلت: فلقد صح عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:" أُمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة، فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحق الإسلام وحسابهم على الله"، فهذا الحديث يدل على أن مجرد الإسلام يعصم الدم فلا يحتاج معه إلى عفو، فلما أتى أنس النبي صلى الله عليه وسلم مسلماً كان الأصل يقتضي أن يكتفي النبي صلى الله عليه وسلم منه بذلك فيحقن دمه، ولكنه جاء مسلماً ومعتذراً عن الهجاء حتى تكلم بعض الصحابة في عفو النبي صلى الله عليه وسلم، فدل هذا على أن حق النبي صلى الله عليه وسلم في قتلِ مَن سبه لا يسقط بمجرد إسلام الكافر أو المعاهد، وإنما عفا عنه النبي صلى الله عليه وسلم إسقاطاً لحق نفسه، وهذا العفو متعذرٌ تحققه بعد وفاته صلى الله عليه وسلم فنبقى على الأصل من وجوب قتل الساب الكافر وإن أسلم، وينفعه إسلامه في الآخرة عند الله تعالى إن كان صادقاً مخلصاً فيه، والله أعلم. 3.عن مصعب بن سعد عن سعد قال:" لما كان يوم فتح مكة اختبأ عبد الله بن سعد بن أبي سرح عند عثمان بن عفان رضي الله عنه، فجاء به حتى أوقفه على النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، بايِع عبد الله. فرفع رأسه فنظر إليه ثلاثاً، ثم أقبل على أصحابه فقال: أما كان فيكم رجل رشيد يقوم إلى هذا حين رآني كففت يدي عن بيعته فيقتله؟ فقالوا: ما ندري يا رسول الله ما في نفسك، ألا أومأت إلينا بعينك؟ فقال: إنه لا ينبغي لنبي أن تكون له خائنة الأعين"، فهذا جاء مسلماً تائباً ومع ذلك توقف النبي صلى الله عليه وسلم عن بيعته ينتظر أن يقوم إليه أحد أصحابه فيقتله بسبب ما كان يسب النبي صلى الله عليه وسلم، فدل على أن إظهار الإسلام لا يمنع قتل من سب النبي صلى الله عليه وسلم ،قال ابن تيمية رحمه الله :"إن عبد الله بن سعد بن أبي سرح كان قد ارتد، وافترى على النبي صلى الله عليه وسلم أنه يلقنه الوحي ويكتب له ما يريد، فأهدر النبي صلى الله عليه وسلم دمه، ونذر بعضُ المسلمين ليقتلنه. ثم حبسه عثمان أياماً – يعني يوم الفتح - حتى اطمأن أهل مكة، ثم جاء به تائباً ليبايع النبي صلى الله عليه وسلم ويؤمنه، فصمت النبي صلى الله عليه وسلم طويلاً رجاء أن يقوم إليه الناذر أو غيره فيقتله ويوفي بنذره. ففي هذا دلالة على أن المفتري على رسول الله صلى الله عليه وسلم الطاعن عليه قد كان له أن يقتله وأن دمه مباح، وإن جاء تائباً مِن كفره وفِريته، لأن قتله لو كان حراماً لم يقل النبي صلى الله عليه وسلم ما قال، ولا قال للرجل: هلا وفيت بنذرك بقتله! وعبد الله بن سعد إنما جاء تائباً ملتزماً لإقامة الصلاة وايتاء الزكاة، بل جاء بعد أن أسلم، ثم إن النبي صلى الله عليه وسلم بيَّن أنه كان مريداً لقتله، وقال للقوم: هلا قام بعضكم إليه ليقتله، و هلا وفيت بنذرك في قتله. فعُلم أنه قد كان جائزاً له أن يقتل من يفتري عليه ويؤذيه من الكفار، وإن جاء مظهراً للإسلام والتوبة بعد القدرة عليه، وفي ذلك دلالة ظاهرة على أن الافتراء عليه وأذاه يجوز له قتل فاعله وإن أظهر الإسلام والتوبة". قلت: وهذا الحديث يكاد يكون نصاً في الباب، فصورته هي عين المسألة التي بين أيدينا، والحقيقة إن من تأمل المسألة من جهة حق النبي صلى الله عليه وسلم لم يفرق بين الكافر الأصلي والذمي والمسلم إن وقع من أحدهم سب النبي صلى الله عليه وسلم. فهذه ثلاثة أدلة مستقلة تضاف إلى ما تقدم من أدلة من القرآن والسنة الدالة على تحتم قتل الساب، وهي هنا تكاد تكون نصاً في مسألة الساب الكافر إن جاء مسلماً. والذي يترجح والعلم عند الله تعالى أن الكافر إذا سب النبي صلى الله عليه وسلم ثم جاء مسلماً، فإنه يُقتل بسبب سب النبي صلى الله عليه وسلم لا فرق بينه وبين المرتد كما تقرر وتقدم آنفاً، والنكتة هنا كالنكتة هناك من حيث تعلق السب بحق النبي صلى الله عليه وسلم ولا مسقط له بعد موته، ومن حيث واجب التعظيم والتوقير والإجلال للنبي صلى الله عليه وسلم ومن حيث دلالة حوادث السنة على أن النبي صلى الله عليه وسلم كان مريداً قتل هؤلاء مع ما عُلم من سنته من العفو عند المقدرة، والله تعالى أعلم. والحاصل هنا أننا لم نفرق بين المرتد والكافر الأصلي إذا سب النبي صلى الله عليه وسلم فإنه يتحتم قتله متى أمكن ذلك، إذ لا معنى للتفريق بين نوعي الكفار، ولئن تنزلنا مع القول بأن للذمي نوع عهد وأمان يوجب له حقاً فإن حقَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم أولى وأعظم وأحرى أن يراقَب من الحق المزعوم لذلك الساب، والحمد لله.