الفصل الأول: رحمته صلى الله عليه وسلم بالضعفاء كان محمد رجلاً يتميز بأقصى درجات الشفقة ورقة المشاعر[1] مَنِ الضعفاء؟! بالرغم من التقدم الاقتصادي وارتفاع مستوى المعيشة ينتحر من الشعب الياباني سنويًا أكثر من ثلاثين ألف شخص معظمهم من الشباب، وهي النسبة الأعلى في العالم[2]!! هذا حالهم ولكن الإسلام شئ آخر!! قد يخطر ببال من يسمع كلمة "الضعفاء" أن هذه طائفة معينة من المسلمين دون طائفة، لكن واقع الأمر أن كل الناس ضعفاء! وهذا بلا استثناء، فلن يُعدم إنسانٌ صورة من صور الضعف، فإذا كان الطفل الصغير ضعيفًا، والشيخ الكبير ضعيفًا كذلك، فإن الشاب القوي ضعيف من وجه من الوجوه، فقد يكون ضعيفًا في خبرته، أو ضعيفًا في عقله، أو ضعيفًا في ثروته، أو غير ذلك من صور الضعف، وإذا كان الفقير ضعيفًا لفقره، فإن الغني قد يكون ضعيفًا في صحته أو في محبة الناس له أو في إيمانه.. وبالجملة فلن يُعدم إنسان ـ كما ذكرنا ـ صورة من صور الضعف، ولذلك يقول ربنا سبحانه وتعالى على سبيل الإجمال: "وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا"[3]. فالإنسان خُلِقَ من ضعف، وهو إلى الضعف صائر.. بل إن الضعف واضح في قصته من البداية.. حيث يقول الله عز وجل في حق آدم u، مع علو قدره، وسمو منزلته: "وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا"[4]، وذِكْرُ الضعف مع هذا النبي الكريم دلالة على أنه سيكون موجودًا - لا محالة - مع كل ذريته، وقد صرَّح موسى عليه السلام فيحواره مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة المعراج أن أمة الإسلام فيها صورة من الضعف؛ فقال لرسول الله صلى الله عليه وسلم عندما علم منه أن الله عز وجل قد فرض على أمته خمسين صلاة في اليوم والليلة: "يا محمد، والله لقد راودتُ بني إسرائيل قومي على أدنى من هذا فضعفوا وتركوه، فأمتك أضعف أجسادًا وقلوبًا وأبدانًا وأبصارًا وأسماعًا، فارجع فليخفِّفْ عنك ربُّك"[5]. وقد وصف رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه بالضعف، ولا يقلِّل هذا أبدًا من شأنهم، فأبو ذر >من كبار الصحابة ومن سابقيهم، ومع ذلك يخاطبه رسول الله صلى الله عليه وسلم قائلاً: "يَا أبا ذر، إِنِّي أَرَاكَ ضَعِيفًا، وَإِنِّي أُحِبُّ لَكَ مَا أُحِبُّ لِنَفْسِي، لا تَأَمَّرَنَّ على اثنين، ولا تَوَلَّيَنَّ مال يتيم"[6]. بل ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم الضعف في حق أبي بكر الصديق >حين قال: "...ثُمَّ أَخَذَهَا ابْنُ أَبِي قُحَافَةَ فَنَزَعَ بِهَا ذَنُوبًا أَوْ ذَنُوبَيْنِ وَفِي نَزْعِهِ ضَعْفٌ وَاللَّهُ يَغْفِرُ لَهُ ضَعْفَهُ"[7]. إن الضعف صورة ملازمة لكل البشر، وإنما ذكرنا في هذا الفصل بعض صور الضعف، ولا يمنع أن هناك صورًا أخرى كثيرة تشمل عامة البشر، كما أننا ذكرنا هذه المقدمة لنشير أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يُولِي اهتمامًا أكبر لمن يعاني صورة من صور الضعف، وذلك في حال ضعفه، لأن الضعف يسبب لونًا من ألوان الألم في نفس الإنسان، والرسول صلى الله عليه وسلم كان رحيمًا بالمؤمنين في كل أحوالهم، وهو في حال ضعفهم أشد رحمة، ولذلك كان يعلمنا أن نستعيذ بالله من كل صور الضعف.. فيقول مثلاً: "اللهُمَّ إني أعوذ بك من غَلَبَة الدَّيْن، وغَلَبَة العدو، وشَمَاتَة الأعداء"[8]. ثم إن هذا الضعف الذي يصيب الإنسان في فترة من فترات حياته، أو في ظرف من ظروفه يكون سببًا لتخفيف الأحكام عليه، والله عز وجل يقول في كتابه مخاطبًا أهل بدر، وهم أعلى المؤمنين قدرًا ومكانة: "الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا"[9]. فالضعف كان سببًا في التخفيف، وليس للعقاب أو اللوم، فالله الذي خلق يعرف قدرات العبد، وما يُتوقَّع منه، ولا يكلِّفه أبدًا فوق طاقته، وهذا من رحمته سبحانه وتعالى.. يقول تعالى: "لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا"[10]. إن أي صورة من صور الضعف تستوجب وقوفًا إلى جانب صاحبها، والاهتمام به ورعايته، وهذا دليل رحمة وعلامة رفق ورأفة، وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم آية في ذلك.. وفي المباحث القادمة نتعرف على طرف من رحمته في مثل هذه المواقف.. وما أكثرها!! ------------------------------------ [1]كارين آرمسترونج (كاتبة بريطانية): سيرة النبي محمد ـ كتاب سطور 1998 ( ترجمة: فاطمة نصر، محمد عناني) [2]موقع وكالة الأخبار البريطانية، على الشبكة العنكبوتية، الرابط الإلكتروني: http://news.bbc.co.uk/hi/a صلى الله عليه وسلم abic/news/newsid_1525000/1525590.stm [3](النساء: 28). [4](طه: 115). [5]البخاري: كتاب التوحيد، باب "وكَلَّم الله موسى تكليمًا" (7079)، ومسلم: كتاب الإيمان، باب الإسراء برسول الله صلى الله عليه وسلم (162). [6]مسلم: كتاب الإمارة، باب كراهة الإمارة بغير ضرورة (1826)، وأبو داود (2868)، والنسائي (3667)، والحاكم (7017)، والبيهقي في شعب الإيمان (7454). [7]البخاري: كتاب فضائل الصحابة، باب لو كنت متخذًا خليلاً (3464)، واللفظ له، ومسلم: كتاب فضائل الصحابة، باب من فضائل عمر > (2392)، وابن حبان (6898)، والبيهقي في السنن (16370)، والنسائي في السنن الكبرى (7636). [8] النسائي (5475)، عن عبد الله بن عمرو بن العاص >، وأحمد (6618 )، والطبراني في الكبير (11882)، وقال الشيخ الألباني: (صحيح). انظر حديث (1296) في صحيح الجامع. [9](الأنفال: 66). [10](البقرة:286).