الفصل الثاني: رحمته صلى الله عليه وسلم بغير المسلمين في المجتمع الإسلامي تتوق أحلام العقلاء من الناس أن يتعايشوا في سلام وتفاهم مع المخالفين لهم في العقيدة والجنس والأفكار، وقد تتطور هذه الأحلام والآمال فتطلب احترامًا متبادلاً بين الأطراف المختلفة، أو قد تطلب عدلاً في التعامل؛ فلا ظلم ولا عدوان.. وقد يحلم القليل بما هو أسمى وأرقى، وهو أن يصل التعامل - ولو في موقف من المواقف - إلى درجة الألفة والإحسان والرحمة؛ فتُتَبادل الابتسامات - وأحيانًا الهدايا - ويسود جوٌّ من الهدوء النسبي والأمان.. لكن أن يصبح الإحسان إلى المخالفين، والبر بالمعارضين، والرحمة بهم قانونًا أصيلاً يُتَّبَعُ في غالب مظاهر الحياة، فهذا ما لا يخطر على بال أحد!! هذا هو الإسلام الذي لا يعرفه كثير من العالمين، بل قد لا يعرفه كثير من المسلمين..!! في هذا الفصل - بحول الله تعالى - سنتناول هذه الرحمة النبوية بغير المسلمين، وذلك من خلال المباحث الثلاثة التالية: المبحث الأول: الرحمة بغير المسلمين منهج إلهي المبحث الثاني: رحمته صلى الله عليه وسلم بغير المسلمين المبحث الثالث: رحمته بمن آذاه صلى الله عليه وسلم من غير المسلمين المبحث الأول: الرحمة بغير المسلمين منهجٌ إلهيٌّ إذا بحثنا عن محمد إجمالياً نجده يتصف بالرحمة الخالصة[1] "وإذا اَقتَرَبتُم مِنْ مدينةٍ لِتُحارِبوها فاَعْرُضوا علَيها السِّلْمَ أوَّلاً، فإذا اَستَسلَمَت وفتَحَت لكُم أبوابَها، فجميعُ سُكَّانِها يكونونَ لكُم تَحتَ الجزيةِ ويخدِمونكُم، وإنْ لم تُسالِمْكُم، بل حارَبَتكُم فحاصَرتُموها فأسلَمَها الرّبُّ إلهُكُم إلى أيديكُم، فاَضْرِبوا كُلَ ذكَرٍ فيها بِحَدِّ السَّيفِ، وأمَّا النِّساءُ والأطفالُ والبَهائِمُ وجميعُ ما في المدينةِ مِنْ غَنيمةٍ، فاَغْنَموها لأنْفُسِكُم وتمَتَّعوا بِغَنيمةِ أعدائِكُمُ التي أعطاكُمُ الرّبُّ إلهُكُم، هكذا تفعَلونَ بجميعِ المُدُنِ البعيدةِ مِنكُم جدُا، التي لا تخصُّ هؤلاءِ الأُمَمَ هُنا، أمَّا مُدُنُ هؤلاءِ الأُمَمِ التي يُعطيها لكُمُ الرّبُّ إلهُكُم مُلْكًا، فلا تُبقوا أحدًا مِنها حيُا، بل تُحَلِّلونَ إبادَتَهُم[2]" هذا حالهم ولكن الإسلام شئ آخر!! ينبع جمال المنهج الإلهي في الرحمة بغير المسلمين من كونه ليس قانونًا بشريًا يصطلح الناس على إقراره أو إلغائه.. ولكن من كونه قانونًا إلهيًّا سماويًّا، يتعبَّد المسلمون لربهم بتطبيقه.. يقول تعالى: "لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ[3]". ألا ما أعظمه من إلهٍ، وما أرحمه من ربٍّ!! و"أن تبرُّوهم" - كما يقول ابن كثير في تفسيره – أي: تحسنوا إليهم[4]. والبرُّ درجة أعلى من القسط، بدليل أن الله عز وجل أضاف القسط إليها فقال: "أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ". ولاحِظْ أن الله عز وجل جاء بكلمة لا تُستخدَم إلا في أعظم صور التعامل وأرقاها.. فهي تستخدم في وصف صورة التعامل بين الأبناء وآبائهم وأمهاتهم، كما يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم عندما سُئِل: ‏أَيُّ الْعَمَلِ أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ؟ قَالَ:"الصَّلَاةُ عَلَىوَقْتِهَا"، قَالَ السائل: ثُمَّ أَيٌّ قَالَ: "بِرُّ الْوَالِدَيْنِ.."[5]. فهذه هي الدرجة التي يريد الله منا أن نتعامل بها مع غير المسلمين في حالة عدم حربهم لنا.. وإذا كان هذا القانون معجزًا في سُمُوِّه ورُقِيِّه، فقد كانت سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم معجزة أيضًا في تطبيق هذا القانون وممارسته.. ------------------------------------- [1]هنري ماسيه (مستشرق فرنسي): الإسلام ترجمة :بهيج شعبان ـ عويدات للطباعة والنشر،1988 صـ 55 [2]التوراة، سفر التثنية، إصحاح20، 10-18. [3](الممتحنة: 8). [4]ابن كثير: تفسير القرآن العظيم 4/447. [5]البخاري: كتاب مواقيت الصلاة، باب فضل الصلاة على وقتها (504)، ومسلم في الإيمان، باب كَوْن الإيمان بالله تعالى أفضل الأعمال (85)، والترمذي (2948)، والنسائي (610)، وأحمد (3890).