النداء الواحد و الستون : الإكثار من ذكر الله قال تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا (41) وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا (42) هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلَائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا (43)تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلَامٌ وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْرًا كَرِيمًا (44) }سورة الأحزاب يَأْمُرُ اللهُ تَعَالى المُؤْمِنينَ مِنْ عِبَادِهِ بِكَثْرَةِ ذِكْرِهِ ، فَهُوَ المُنْعِمُ المُتَفَضِّلُ عَلَيهِمْ ، لِمَا لَهُمْ فِي ذِكْرِ اللهِ مِنْ عَظيمِ الثَّوابِ . وَيَأْمُرُهُمْ تَعَالى أَيضاً بِتَنْزِيهِهِ عَمَّا لاَ يَلِيقُ بَيْنَ طَرَفَيِ النَّهَارِ : فِي البُكُورِ عِنْدَ القِيامِ مِنَ النَّومِ ، وَوَقْتِ الأَصِيلِ ، وَقْتِ الانْتِهَاءِ مِنَ العَمَلِ اليَومِيِّ ، فَيَكُونُ الذِّكْرُ فِي الصَّبَاحِ شُكْراً للهِ عَلى بَعْثِ الإِنسْانِ مِنْ رُقَادِهِ ، وَفِي المَسَاء شُكْراً لَهُ عَلى تِوفِيقِه لأَداءِ العَمَلِ ، والقِيَامِ بالسَّعِي لِلْحُصُولِ عَلَى الرِّزْقِ . يَحُثُّ اللهُ المُؤْمِنينَ عَلَى ذِكْرِ رَبِّهِمْ ، وَيَقُولُ لَهُمْ إِنَّهُ تَعَالى يَذْكُرُهُمْ وَيَرْحَمُهُمْ وَيُثْنِي عَلَيْهِمْ فِي المَلأِ الأَعْلَى مِنْ عِبَادِهِ ، وَتَسْتَغْفِرُ لَهُم المَلاَئِكَةُ الكِرَامُ ، وَإِنَّهُ بِرَحْمَتِهِ تَعَالى ، وَهِدَايَتِهِ ، وَدُعَاءِ المَلاَئِكَةِ لَهُمْ ، أَخْرَجَهُمْ مِنْ ظُلمَةِ الكُفْرِ إِلى نُورِ الإِيمَانِ ، وَهُو تَعَالى رَحِيمٌ بِالعِبَادِ المُؤْمِنينَ فِي الدُّنيا وَالآخِرَةِ . أَمَّ رَحْمَتُهُ لَهُمْ فِي الدُّنيا فَإِنَّهُ هَدَاهُم إِلى الحَقِّ ، وَبَصَّرَهُمْ بِالطَّرِيقِ المُسْتَقِيمِ . وَأَمَّا رَحْمَتُهُ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ فإِنَّهُ آمنَهُمْ مِنَ الفََزَع الأَكْبَرِ ، وَأَمَرَ المَلائِكَةَ بِأَنْ يَتَلَقَّوْهُمْ بِالبِشَارَةِ بِالْفَوْزِ بِالجَنَّةِ ، وَالنَّجَاةِ مِنَ النَّارِ . وَيَوْمَ القِيَامَةِ يُحَيَّوْنَ باِلسَّلاَمِ ، وَهُنَاكَ ثَلاثَةُ أَقْوالٍ حَوْلَ مَنِ الذِي يُحَيِّيهِمْ بالسَّلام : - يَقُولُ أَحَدُ هذِهِ الأََقْوَالِ : إِنَّ اللهَ تَعَالى هُوَ الذِي يُحَيِّيهِمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ بالسَّلامِ ، لِقَوْلِهِ تَعَالى فِي آيةٍ أُخْرَى : { سَلاَمٌ قَوْلاً مِّن رَّبٍّ رَّحِيمٍ } - وَيَقُولُ الآخَرُ : إِنَّ المَلاَئِكَةَ الكِرَامَ هُمُ الذِينَ يُحَيُّونَهُمْ بالسَّلامِ ، إِذا دَخُلُوا الجَنَّةَ كَمَا قَالَ تَعَالى : { وَالمَلاَئِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِّن كُلِّ بَابٍ سَلاَمٌ عَلَيْكُم بِمَا صَبَرْتُمْ } - وَالقَولُ الآخَرُ يَقُولُ : إِنَّهُمْ هُمُ الذِينَ يُحَيِّي بَعْضُهُمْ بَعْضاً بالسَّلامِ ، يَوْمَ يَلْقَوْنَ رَبِّهُمْ فِي الدَّارِ الآخِرَةِ ، كَمَا قَالَ تَعَالى : { دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللهم وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلاَمٌ } وَقَدْ أَعَدَّ اللهُ لَهُمْ فِي الجَنَّة ثَواباً عَظِيماً عَلَى إِيمَانِهِمْ وَعَمَلِهِمُ الصَّالِحِ فِي الحَيَاةِ الدُّنْيا . وذكر الله اتصال القلب به ، والاشتغال بمراقبته؛ وليس هو مجرد تحريك اللسان . وإقامة الصلاة ذكر لله . بل إنه وردت آثار تكاد تخصص الذكر بالصلاة : روى أبو داود والنسائي وابن ماجه من حديث الأعمش عن الأغر أبي مسلم عن أبي سعيد الخدري وأبي هريرة « عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : إذا أيقظ الرجل امرأته من الليل فصليا ركعتين ، كانا تلك الليلة من الذاكرين الله كثيراً والذاكرات » . وإن كان ذكر الله أشمل من الصلاة . فهو يشمل كل صورة يتذكر فيها العبد ربه ، ويتصل به قلبه . سواء جهر بلسانه بهذا الذكر أم لم يجهر . والمقصود هو الاتصال المحرك الموحي على أية حال . وإن القلب ليظل فارغاً أو لاهياً أو حائراً حتى يتصل بالله ويذكره ويأنس به . فإذا هو مليء جاد ، قار ، يعرف طريقه ، ويعرف منهجه ، ويعرف من أين وإلى أين ينقل خطاه! ومن هنا يحض القرآن كثيراً ، وتحض السنة كثيراً ، على ذكرا لله . ويربط القرآن بين هذا الذكر وبين الأوقات والأحوال التي يمر بها الإنسان ، لتكون الأوقات والأحوال مذكرة بذكر الله ومنبهة إلى الاتصال به حتى لا يغفل القلب ولا ينسى : { وسبحوه بكرة وأصيلاً } . . وفي البكرة والأصيل خاصة ما يستجيش القلوب إلى الاتصال بالله ، مغير الأحوال ، ومبدل الظلال؛ وهو باق لا يتغير ولا يتبدل ، ولا يحول ولا يزول . وكل شيء سواه يتغير ويتبدل ، ويدركه التحول والزوال. وإلى جانب الأمر بذكر الله وتسبيحه ، إشعار القلوب برحمة الله ورعايته ، وعنايته بأمر الخلق وإرادة الخير لهم؛ وهو الغني عنهم ، وهم الفقراء المحاويج ، لرعايته وفضله : { هو الذي يصلي عليكم وملائكته ، ليخرجكم من الظلمات إلى النور . وكان بالمؤمنين رحيماً } . . وتعالى الله ، وجلت نعمته ، وعظم فضله ، وتضاعفت منته؛ وهو يذكر هؤلاء العباد الضعاف المحاويج الفانين ، الذين لا حول لهم ولا قوة ، ولا بقاء لهم ولا قرار . يذكرهم ، ويعنى بهم ، ويصلي عليهم هو وملائكته ، ويذكرهم بالخير في الملأ الأعلى فيتجاوب الوجود كله بذكرهم ، « كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : يقول الله تعالى من ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي ، ومن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منه » . ألا إنها لعظيمة لا يكاد الإدراك يتصورها . وهو يعلم أن هذه الأرض ومن عليها وما عليها إن هي إلا ذرة صغيرة زهيدة بالقياس إلى تلك الأفلاك الهائلة . وما الأفلاك وما فيها ومن فيها إلا بعض ملك الله الذي قال له : كن .فكان! { وهو الذي يصلي عليكم وملائكته ليخرجكم من الظلمات إلى النور } . . ونور الله واحد متصل شامل؛ وما عداه ظلمات تتعدد وتختلف . وما يخرج الناس من نور الله إلا ليعيشوا في ظلمة من الظلمات ، أو في الظلمات مجتمعة؛ وما ينقذهم من الظلام إلا نور الله الذي يشرق في قلوبهم ، ويغمر أرواحهم ، ويهديهم إلى فطرتهم . وهي فطرة هذا الوجود . ورحمة الله بهم وصلاة الملائكة ودعاؤها لهم ، هي التي تخرجهم من الظلمات إلى النور حين تتفتح قلوبهم للإيمان : { وكان بالمؤمنين رحيماً } . . ذلك أمرهم في الدنيا دار العمل . فأما أمرهم في الآخرة دار الجزاء ، فإن فضل الله لا يتخلى عنهم ، ورحمته لا تتركهم؛ ولهم فيها الكرامة والحفاوة والأجر الكريم : { تحيتهم يوم يلقونه سلام ، وأعد لهم أجراً كريماً } . . سلام من كل خوف ، ومن كل تعب ، ومن كل كد . . سلام يتلقونه من الله تحمله إليهم الملائكة . وهم يدخلون عليهم من كل باب ، يبلغونهم التحية العلوية . إلى جانب ما أعد لهم من أجر كريم . . فيا له من تكريم! فهذا هو ربهم الذي يشرع لهم ويختار . فمن ذا الذي يكره هذا الاختيار؟!