مقدمة إن الورع بمعناه الحقيقي يعني اتقاء الشبهات، والتنازل عن بعض من الحلال؛ مخافة الوقوع في الحرام، وقد بلغ سيدنا عمر رضي الله عنه درجة عالية من الورع تعلمها من رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي يقول: الْحَلَالُ بَيِّنٌ وَالْحَرَامُ بَيِّنٌ، وَبَيْنَهُمَا مُشَبَّهَاتٌ لَا يَعْلَمُهَا كَثِيرٌ مِنِ النَّاسِ فَمَنِ اتَّقَى الْمُشَبَّهَاتِ اسْتَبْرَأَ لِدِينِهِ وَعِرْضِهِ، وَمَنْ وَقَعَ فِي الشُّبُهَاتِ كَرَاعٍ يَرْعَى حَوْلَ الْحِمَى يُوشِكُ أَنْ يُوَاقِعَهُ، أَلَا وَإِنَّ لِكُلِّ مَلِكٍ حِمًى أَلَا إِنَّ حِمَى اللَّهِ فِي أَرْضِهِ مَحَارِمُهُ، أَلَا وَإِنَّ فِي الْجَسَدِ مُضْغَةً إِذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الْجَسَدُ كُلُّهُ وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الْجَسَدُ كُلُّهُ، أَلَا وَهِيَ الْقَلْبُ. (البخاري- كتاب الإيمان- باب فضل من استبرأ لدينه- حديث رقم 50) فقد ضرب الفاروق رضي الله عنه المثل في الورع، والتقوى، والترفع عن الدنيا، ومما يدل على ورعه رضي الله عنه ما أخرجه أبو زيد عمر بن شبة من خبر معدان بن أبى طلحة اليعمرى أنه قدم على عمر رضي الله عنه بقطائف وطعام، فأمر به فقسم، ثم قال: اللهم إنك تعلم أني لم أرزقهم ولن أستأثر عليهم إلا أن أضع يدى في طعامهم، وقد خفت أن تجعله نارا في بطن عمر، قال معدان: ثم لم أبرح حتى رأيته اتخذ صفحة من خالص ماله فجعلها بينه وبين جفان العامة. فأمير المؤمنين عمر رضي الله عنه يرغب في أن يأكل مع عامة المسلمين لما في ذلك من المصالح الاجتماعية، ولكنه يتحرج من أن يأكل من طعام منع من مال المسلمين العام، فيأمر بإحضار طعام خاص له من خالص ماله، وهذا مثال رفيع في العفة والورع إذ إن الأكل من مال المسلمين العام معهم ليس فيه شبهة تحريم؛ لأنه منهم، ولكنه قد أعف نفسه من ذلك ابتغاء مما عند الله تعالى، ولشدة خوفه من الله تعالى خشي أن يكون ذلك من الشبهات فحمى نفسه منه. مشاهد من ورع عمر رضي الله عنه وعن عبد الرحمن بن نجيح قال: نزلت على عمر رضي الله عنه، فكانت له ناقة يحلبها، فانطلق غلامه ذات يوم فسقاه لبنا أنكره، فقال: ويحك من أين هذا اللبن لك؟ قال: يا أمير المؤمنين إن الناقة انفلت عليها ولدها فشربها، فخليت لك ناقة من مال الله، فقال: ويحك تسقينى نارا، واستحل ذلك اللبن من بعض الناس، فقيل: هو لك حلال يا أمير المؤمنين ولحمها. فهذا مثل من ورع أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه، حيث خشي من عذاب الله جل وعلا لما شرب ذلك اللبن مع أنه لم يتعمد ذلك، ولم تطمئن نفسه إلا بعد أن استحل ذلك من بعض كبار الصحابة رضي الله عنهم الذين يمثلون المسلمين في ذلك الأمر. ذكر الآخرة بما فيها من حساب ونعيم أو شقاء أخذ بمجامع عمر رضي الله عنه وملأ عليه تفكيره، حتى أصبح ذلك موجهًا لسلوكه في هذه الحياة، ولقد كان عمر رضي الله عنه شديد الورع، وقد بلغ به الورع درجة عالية لقد مرض يومًا، فوصفوا له العسل كدواء، وكان بيت المال به عسلًا، جاء من بعض البلاد المفتوحة، فلم يتداو عمر بالعسل كما نصحه الأطباء، حتى جمع الناس وصعد المنبر واستاذن الناس: إن أذنتم لي، وإلا فهو علي حرم. فبكى الناس إشفاقًا عليه، وأذنوا له جميعًا، ومضى بعضهم يقول لبعض: لله درك يا عمر، لقد أتعبت الخلفاء بعدك. عمر مع أسرته قال عمر رضي الله عنه: إن الناس ليؤدون إلى الإمام ما أدى الإمام إلى الله، وإن الإمام إذا رتع رتعت الرعية. ولذلك كان رضي الله عنه شديدا في محاسبة نفسه وأهله، فقد كان يعلم أن الأبصار مشرئبة نحوه وطامحة إليه، وأنه لا جدوى إن قسا على نفسه، ورتع أهله فحوسب عنهم في الآخرة، ولم ترحمه ألسنة الخلائق في الدنيا، فكان عمر إذا نهى الناس عن شيء تقدم إلى أهله فقال: إني نهيت الناس عن كذا وكذا، وإن الناس ينظرون إليكم كما ينظر الطير إلى اللحم، فإن وقعتم وقعوا، وإن هبتم هابوا، وإنى والله لا أوتى برجل وقع فيما نهيت الناس عنه إلا أضعفت له العذاب، لمكانه مني، فمن شاء منكم أن يتقدم، ومن شاء منكم أن يتأخر. و كان شديد المراقبة والمتابعة لتصرفات أولاده وأزواجه وأقاربه وهذه بعض المواقف: أسس عمر رضي الله عنه مبدءا قويما في معيشة الوالي من ورع الفاروق عمر رضي الله عنه أنه أسس مبدءًا قويمًا في معيشة الوالي، وأكله من مال الرعية، وأنه لا يحل له من مال الرعية إلا ما كان آكلًا من صلب ماله. فلا يحل للوالي على المسلمين من ماله إلا كسوة الشتاء من الثياب، وكسوة الصيف وقوته وقوت أهله كقوت رجل من المسلمين، ليس بأغناهم ولا بأفقرهم، وما يحج به ويعتمر. يقول عاصم بن عمر: لما زوجني عمر رضي الله عنه أنفق علي من مال الله شهرًا، ثم أرسل إليّ يرفأ، فأتيته وهو في مصلاه عند الفجر، أو عند الظهر، فقال: يا يرفأ احبس عنه، ثم دعاني، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: أما بعد يا بني فو الله ما كنت أرى هذا المال يحل لي من قبل أن أليه إلا بحقه، وما كان قط أحرم عليّ منه إذ وليته، فعاد أمانتي وقد أنفقت عليك شهرًا من مال الله، ولست بزائدك، ولكني معينك بتمر من مالي فبعه. ثم قم إلى جانب رجل من تجار قومك، فإذا ابتاع فاستشركه، ثم أنفق على أهلك. قال عاصم بن عمر: فذهبت ففعلت. هكذا يعلم الفاروق أولاده وقومه أن مال المسلمين أمانة في عنقه، وإنما الأخذ منه بقدر الحاجة والضرورة. ومن جانب آخر نجد للفاروق يبني في أبنائه قواعد الجد والاجتهاد، والاعتماد على النفس، والحرص على السعي وعدم التواكل اعتمادًا على جاه الوالد أو أمواله. ويروي عبد الله بن الأرقم رضي الله عنه فيقول: قلت لعمر رضي الله عنه: يا أمير المؤمنين، إن عندنا حلية من حلي جلولاء، وآنية وفضة، فانظر ما تأمرنا فيها بأمرك. قال عمر: إذا رأيتني فارغًا فآذني. قال ابن الأرقم: فجئته يومًا، فقلت: يا أمير المؤمنين، إني أراك اليوم فارغًا. قال: أجل ابسط لي نطعا، فأمر بذلك المال فأفيض عليه، ثم جاء حتى وقف عليه فقال: اللهم إنك ذكرت هذا المال فقلت: [زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالبَنِينَ وَالقَنَاطِيرِ المُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالفِضَّةِ وَالخَيْلِ المُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللهُ عِنْدَهُ حُسْنُ المَآَبِ] {آل عمران: 14}. اللهم وقلت: [لِكَيْ لَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آَتَاكُمْ وَاللهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ] {الحديد: 23}. اللهم إنا لا نستطيع إلا أن نفرح بما زينت لنا، اللهم إني أسألك أن نضعه في حقه وأعوذ بك من شره. ونمضي مع عفة الفاروق رضي الله عنه، وشدته في مال المسلمين، وحرصه على عدم خوض أسرته في مال الله. محاسبة النفس عند الفاروق من أسباب صلاح القلوب، وهداية النفوس: محاسبة النفس على العيوب والذنوب، لتدارك التقصير في عبادة علام الغيوب. ولعل آعظم آية قرآنية توضح لنا أهمية محاسبة النفس في حياة المسلمين، قول الحق تبارك وتعالى: [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ] {الحشر: 18}. أي: حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، وانظروا ماذا ادخرتم لأنفسكم من الأعمال الصالحة ليوم معادكم، وعرضكم على ربكم. فالله تعالى عالم بجميع أحوالكم، وأعمالكم، لا تخفى عليه منكم خافية، ولا يغيب عنه من أموركم جليل ولا حقير. وقد كان الفاروق رضي الله عنه آية في محاسبة النفس، حتى قال مقالته السابقة: لو مات جمل في عملى ضياعا، خشيت أن يسألني الله عنه. بل كان يدعو المؤمنين إلى محاسبة النفس، مذكرًا لهم بيوم القيامة، حيث لا تخفى منهم خافية. يقول عمر بن الخطاب رضي الله عنه: حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، وزنوا أنفسكم قبل أن توزنوا، فإنه أهون عليكم في الحساب غدًا، أن تحاسبوا أنفسكم اليوم، وتجهزوا للعرض الأكبر، [يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لَا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ] {الحاقَّة: 18}. وكان الفاروق رضي الله عنه يحاسب نفسه على ما يبدر من تقصير منه، ولو كان شيئًا يسيرًا. فكل منا في حاجة إلى محاسبة نفسه عن أفعاله وأقواله. وكل منا في بحاجة إلى محاسبة نفسه عن قدر شكره لنعمة الإسلام. وما أحرى بكل واحد أن يسأل نفسه: هل اتقيت الله في مكسبي ومطعمي، ومشربي وملبسي؟ هل أخلصت لله في السر والعلانية؟ هل عدلت في الرضا والغضب؟ هل عفوت عمن ظلمني؟ هل أعطيت من حرمني؟ هل وفيت بالعهد لمن عاهدته. وصدقت في الوعد لمن واعدته؟ هل تذكرت الموت والبلى، واليوم الآخر وشدائده؟ فالخير كل الخير في محاسبة النفس، والشر كل الشر في الهوى، والسعي خلف النفس الأمّارة بالسوء. ذكر خوفه من الله تعالى من شمائل الفاروق خوفه الشديد من الله سبحانه وتعالى، ويظهر ذلك الخوف جليًا في أقواله وأفعاله. لقد كان الفاروق على جانب كبير من الخوف من الله عز وجل، جلس عنده بعض أصحابه عند موته يثنون عليه بما قدم للإسلام. فقال: والله لو أن لي طلاع الأرض ذهبًا لافتديت به من عذاب الله عز وجل قبل أن أراه. فهذا الطود الشامخ، والرجل الباهر القوي الأمين، الصلب في دين الله، القانت الزاهد، التقي النقي، لا تفرحه بنفسه بما قدم من أعمال، ولا ييأس من روح الله. أخذ الورع بقوة. لقد تربى عمر على كتاب الله وسنة رسوله عليه الصلاة والسلام فعلماه ما تعجز عنه كتب التربية والأخلاق قديمها وحديثها، وما يزال كتاب الله بين أيدينا وما تزال سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم محفوظة لدينا، وفيها علم وتربية وأخلاق بما لا يقاس عليه. موقفه من هدية ملكة الروم لزوجته أم كلثوم جاء في تاريخ الطبري (2-601): وقالوا ترك ملك الروم الغزو وكاتب عمر وقاربه... وبعثت أم كلثوم بنت علي بن أبي طالب إلى ملكة الروم بطيب ومشارب وأحفاش من أحفاش النساء، ودسته إلى البريد فأبلغه لها وأخذ منه، وجاءت امرأة هرقل وجمعت نساءها وقالت: هذه هدية امرأة ملك العرب وبنت نبيهم. وكاتبتها وكافأتها وأهدت لها، وفيما أهدت لها عقد فاخر، فلما انتهى به البريد إليه، أمره بإمساكه، ودعا الصلاة جامعة، فاجتمعوا فصلى بهم ركعتين، وقال: إنه لا خير في أمر أبرم عن غير شورى من أموري، قولوا في هدية أهدتها أم كلثوم لامرأة ملك الروم، فأهدت لها امرأة ملك الروم. فقال قائلون: هو لها بالذي لها، وليست امرأة الملك بذمة فتصانع به ولا تحت يدك فتتقيك. وقال آخرون: قد كنا نهدي الثياب لنستثيب، ونبعث بها لتباع ولنصيب ثمنا، فقال: ولكن الرسول رسول المسلمين والبريد بريدهم، والمسلمون عظموها في صدرها. فأمر بردها إلى بيت المال، ورد عليها بقدر نفقتها. غششت أباك ونصحت أقرباءك جيء إلى عمر رضي الله عنه بمال، فبلغ ذلك حفصة أم المؤمنين، فقالت: يا أمير المؤمنين، حق أقربائك من هذا المال، قد أوصى الله عز وجل بالأقربين من هذا المال فقال: يا بنية حق أقربائى في مالي، وأما هذه ففي سداد المسلمين، غششت أباك ونصحت أقرباءك. قُومِى. أردت أن ألقى الله ملكًا خائنًا قدم صهر عمر عليه فطلب أن يعطيه عمر من بيت المال، فانتهره عمر وقال: أردت أن ألقى الله ملكا خائنا؟ فلما كان بعد ذلك أعطاه من صلب ماله عشرة آلاف درهم.