القدر الإيمان به، ومذهب أهل السنة وأهل البيت الشامل فيه مذهب أهل السنة والجماعة في هذا الباب وغيره هو ما دل عليه الكتاب والسنة وكان عليه السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان، وهو أن الله خالق كل شيء وربه ومليكه، وقد دخل في ذلك جميع الأعيان القائمة بنفسها وصفاتها القائمة بها من أفعال العباد وغير أفعال العباد. وأنه سبحانه ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن. فلا يكون في الوجود شيء إلا بمشيئته وقدرته، لا يمتنع عليه شيء شاءه، ولا يشاء شيئًا إلا وهو قادر عليه. وأنه سبحانه علم ما كان وما يكون وما لم يكن لو كان كيف كان يكون. وقد دخل في ذلك أفعال العباد وغيرها.وكتب ذلك، وكتب ما يصيرون إليه من سعادة وشقاوة فهم يؤمنون بخلقه لكل شيء، وقدرته على كل شيء، ومشيئته لكل ما كان، وعلمه بالأشياء قبل أن تكون، وتقديره لها، وكتابته إياها قبل أن تكون. والمنقول عن أهل البيت في إثبات الصفات والقدر لا يكاد يحصى، قال ابن عباس رضي الله عنهما: الإيمان بالقدر نظام التوحيد فمن وحد الله وكذب بالقدر نقض توحيده تكذيبه(1 ). اختلاف الشيعة في القدر غالب الشيعة الأولى كانوا مثبتين للقدر؛ وإنما ظهر إنكاره في متأخريهم، وأدخلوا في (العدل) التكذيب به(2) فمذهب هؤلاء الإمامية وشيوخهم القدرية أنه ليس على كل شيء قدير.ومن قولهم أيضًا: إن الله لا يقدر أن يهدي ضالاً ولا يقدر أن يضل مهتديًا، ولا يحتاج أحد من الخلق إلى أن يهديه الله، بل الله قد هداهم هدى البيان.ومن قولهم: إن هدى الله المؤمنين والكفار سواء ليس له على المؤمنين نعمة في الدين أعظم من نعمته على الكافرين، بل قد هدى علي بن أبي طالب كما هدى أبا جهل، بمنزلة الذي يعطى أحد بنيه دراهم ويعطي الآخر مثلها لكن هذا أنفقها في طاعة الله وهذا أنفقها في معصيته؛ فليس للأب من الإنعام على هذا في دينه أكثر مما له من الإنعام على الآخر. ومن أقوالهم: إنه يشاء ما لا يكون ويكون ما لا يشاء. ولا يقدر أن يقيم قاعدًا باختياره ولا يقعد قائمًا باختياره، ولا يجعل أحدًا مسلمًا مصليًا ولا صائمًا ولا حاجًا ولا معتمرًا، ولا يجعل الإنسان لا مؤمنًا ولا كافرًا، ولا برًا ولا فاجرًا، ولا يخلقه هلوعًا إذا مسه الشر جزوعًا وإذا مسه الخير منوعًا. ومن تمام قول الإمامية الذي وافقوا فيه المعتزلة في توحيدهم وعدلهم من متأخري الشيعة أن الله لم يخلق شيئًا من أفعال الحيوان لا الملائكة ولا الأنبياء ولا غيرهم، بل هذه الحوادث تحدث بغير قدرته ولا خلقه. فهؤلاء يشبهون المجوس في كونهم أثبتوا غير الله يحدث أشياء من الشر بغير مشيئته وقدرته وخلقه.قال ابن عباس رضي الله عنهما: الإيمان بالقدر نظام التوحيد فمن وحد الله وآمن بالقدر تم توحيده ومن وحد الله وكذب بالقدر نقض توحيده تكذيبه.فقول القدرية يتضمن الإشراك والتعطيل؛ فإنه يتضمن إخراج بعض الحوادث عن أن يكون لها فاعل، ويتضمن إثبات فاعل مستقل غير الله. وهاتان شعبتان من شعب الكفر.وبيان ذلك أنهم يقولون: إن الإنسان صار مريدًا فاعلًا بإرادته بعد أن لم يكن كذلك بدون محدث أحدث ذلك، وهذا أصل التعطيل. وأما الشرك فلأنهم يقولون: إن العبد مستقل بإحداث هذا الفعل من غير أن يكون الله جعله محدثًا له.وهذان «التعطيل، والإشراك في الربوبية» لازم لكل من أثبت فاعلاً مستقلاً غير الله. وقد دلت الدلائل اليقينية على أن كل حادث فالله خالقه، وفعل العبد من جملة الحوادث. وكل ممكن يقبل الوجود والعدم فإن شاء الله كان وإن لم يشأ لم يكن، وفعل العبد من جملة الممكنات، وذلك أن العبد إذا فعل الفعل فنفس الفعل حادث بعد أن لم يكن فلا بد من سبب. وإذا قيل: حدث بالإرادة فالإرادة أيضًا حادثة فلا بد لها من سبب.فمن قال: إن شيئًا من الحوادث أفعال الملائكة والجن والإنس لم يخلقها الله تعالى فقد خالف الكتاب والسنة وإجماع السلف والأدلة العقلية. ولهذا قال بعض السلف: من قال إن كلام الآدميين أو أفعال العباد غير مخلوقة فهو بمنزلة من قال: إن سماء الله وأرضه غير مخلوقة. وفي الجملة القوم لا يثبتون لله مشيئة عامة، ولا خلقًا متناولاً لكل حادث. وهذا القول أخذوه عن المعتزلة وهم أئمتهم فيه.ولهذا كانت الشيعة في هذا على قولين: منهم من يقول ذلك، ومنهم من يقول: إنه يخص بعضهم( 3). أثبته متقدموهم، ونفاه متأخروهم وأدخلوا نفيه في (عدلهم) فأشبهوا المجوس والزيدية مقرون بخلافة الخلفاء الثلاثة، وهم من الشيعة، وفيهم قدرية، وغير قدرية( 4). اختلاف القدرية في الظلم والعدل. والتحقيق فيه اختلفت القدرية(5 ) والجهمية الجبرية في الظلم: فقالت القدرية: الظلم في حقه هو ما نعرفه من ظلم الناس بعضهم بعضًا. فإذا قيل إنه خالق أفعال العباد وإنه مريد لكل ما وقع وقيل مع ذلك: إنه يعذب العاصي كان هذا ظلمًا كظلمنا، وسموا أنفسهم (العدلية) وقالت الجهمية: الظلم في حقه هو ما يمتنع وجوده. فأما كل ما يمكن وجوده فليس بظلم؛ فإن الظلم إما مخالفة أمرِ مَنْ تجب طاعته، وإما التصرف في ملك الغير بغير إذنه والرب ليس فوقه آمر ولا لغيره ملك بل إنما يتصرف في ملكه فكل ما يمكن فليس بظلم؛ بل إذا نعَّمَ فرعون وأبا جهل وأمثالهما ممن كفر به وعصاه، وعذب موسى ومحمدًا ممن آمن به وأطاعه فهو مثل العكس فالجميع بالنسبة إليه سواء. والقدرية يقولون: إن الله سوَّى بين المكلفين في القدرة ولم يخص المؤمنين بما فضلهم به على الكفار حتى آمنوا، ولا فضل المطيعين بما فضلهم به على العصاة حتى أطاعوا. وهذا من أقوال القدرية والمعتزلة وغيرهم التي خالفوا بها الكتاب والسنة وإجماع السلف والعقل الصريح. ومن اعتقد أن مِنَّته على المؤمنين بالهداية دون الكافرين ظلم منه فهذا جهل لأن هذا تفضل منه كما قال تعالى:"بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ"( 6)، فتخصيص هذا بالإيمان كتخصيص هذا بمزيد صحة وعلم وقوة وحال ومال، قال تعالى:"أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحْمَةُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ"(7)، ولهذا قيل: كل نعمة منه فضل، وكل نقمة منه عدل. --------------------------------- (1) ج (2) ص (73) وانظر مجموع الفتاوى ج (8) ص (459) وج (3) ص (113) وتقدم بعض ما يتعلق بالقدر.(2) كما تقدم في أصولهم الأربعة، وكذلك المعتزلة أصولهم الخمسة: التوحيد، والعدل، والمنزلة بين المنزلتين وإنفاذ الوعيد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وبه تتعلق مسائل الإمامة.(3) ج (1) ص (357، 284، 258، 29) وانظر الفتاوى ج (8) ص (452) ج (1) ص (39، 40) ج (2) ص (73، 38) ج (1) ص (364، 366).(4) ج (1) ص (357، 358).(5) القدرية حدثوا في أوائل المائة الأولى من زمن ابن الزبير وعبدالملك.(6) سورة الحجرات آية: (17).(7) سورة الزخرف آية: (32).(8) سورة طه آية: (112).(9) ج (3) ص (23) ج (2) ص (40، 33) ج (1) ص (42، 368، 361، 366).