عز على المشركين أن يجد المهاجرون مأمناً لأنفسهم ودينهم ، فاختاروا رجلين جلديين لبيبين وهما : عمرو بن العاص ، وعبد الله بن أبي ربيعة _ قبل أن يسلما _ وأرسلوا معهما الهدايا المستطرفة للنجاشي ولبطارقته وبعد أن ساق الرجلا تلك الهدايا إلى البطارقة وزوداهم بالحجج التي يطرد بها أولئك المسلمون ، وبعد أن اتفقت البطارقة أن يشيروا على النجاشي بإقصائهم حضرا إلى النجاشي ، وقدما له الهدايا ثم كلماه فقالا له : أيها الملك إنه قد ضوى إلى بلدك غلمان سفهاء فارقوا دين قومهم ولم يدخلوا في دينك ، وجاءوا بدين ابتدعوه لا نعرفه نحن ولا أنت وقد بعثنا إليك فيهم أشراف قومهم من آبائهم وأعمامهم وعشائرهم ، لتردهم إليهم فهم أعلى بهم عيـــــناً وأعلم بما عابوا عليهم وعاتبوهم فيه . وقالت البطارقة : صدقاً أيها الملك فأسلمهم إليهما ، فليرداهم إلى قومهم وبلادهم . ولكن رأى النجاشي أنه لا بد من تمحيص القضية وسماع أطرافها جميعاً ، فأرسل إلى المسلمين ودعاهم فحضروا وكانوا قد أجمعوا على الصدق كائناً من كان . فقال لهم النجاشي : ما هذا الدين الذي فارقتم فيه قومكم ولم تدخلوا به في ديني ولا دين أحد من هذه الملل ؟ قال جعفر بن أبي طالب _ وكان هو المتكلم عن المسلمين _ أيها الملك كنا قوماً أهل جاهلية ، نعبد الأصنام ونأكل الميتة ، ونأتي الفواحش ، ونقطع الأرحام ونسيء الجوار ويأكل منا القوي الضعيف فكنا على ذلك حتى بعث الله إلينا رسولاً منا نعرف نسبه وصدقه وأمانته وعفافه ، فدعانا إلى الله لنوحده ونعبده ، ونخلع ما كنا نعبد نحن وآباؤنا من دونه من الحجارة والأوثان وأمرنا بصدق الحديث وأداء الأمانه ، وصلة الرحم وحسن الجوار ، والكف عن المحارم والدماء ونهانا عن الفواحش وقول الزور ، وأكل مال اليتيم وقذف المحصنات وأمرنا أن نعبد الله وحده لا نشرك به شيئاً وأمرنا بالصلاة والزكاة والصيام _ فعدد عليه أمور الأسلام _ فصدقناه وآمنا به ، واتبعناه على ماجاءنا به من دين الله ، فعبدنا الله وحده ، فلم نشرك به شيئاً وحرمنا ما حرم علينا وأحللنا ما أحل لنا ، فعدا علينا قومنا ، فعذبونا وفتنونا عن ديننا ، ليردونا إلى عبادة الأوثان من عبادة الله تعالى ، وأن نستحل ماكنا نستحل من الخبائث ، فلما قهرونا وظلمونا وضيقوا علينا ، وحالوا بيننا وبين ديننا ، خرجنا إلى بلادك ، واخترناك على من سواك ، ورغبنا في جوارك ، ورجونا أن لا نظلم عندك أيها الملك . فقال له النجاشي : هل معك مما جاء به عن الله من شئ ؟ فقال له جعفر : نعم ! فقال له النجاشي : فاقرأه علي ، فقرأ عليه صدراً من كهيعص فبكى والله النجاشي حتى اخضلت لحيته ، وبكت أساقفته حتى أخضلوا مصاحفهم حين سمعوا ما تلا عليهم ، ثم قال لهم النجاشي : إن هذا والذي جاء به عيسى ليخرج من مشكاة واحدة ، انطلقا ، فلا والله أسلمهم إليكما ولا يكادون _ يخاطب عمرو بن العاص وصاحبه _ فخرجا ، وقال عمرو بن العاص لعبد الله بن ربيعة : والله لآتينهم غداً عنهم بما أستأصل به خضراءهم ، فقال له عبد الله بن ربيعة : لا تفعل ، فإن لهم ارحاماً وإن كانوا قد خالفونا ، ولكن أصر عمرو على رأيه . فلما كان الغد قال للنجاشي : أيها الملك ! إنهم يقولون في عيسى ابن مريم قولاً عظيماً فأرسل إليهم النجاشي يسألهم عن قولهم في المسيح ، ففزعوا ، ولكن اجمعوا على الصدق كائناً من كان ، فلما دخلوا عليه ، وسألهم قال له جعفر : نقول فيه الذي جاءنا به نبينا : هو عبد الله ورسوله وروحه وكلمته ألقاها إلى مريم العذراء البتول . فأخذ النجاشي عوداً من الأرض ثم قال : والله ما عدا عيسى ابن مريم ما قلت هذا العود ، فتناخرت بطارقته ، فقال : وإن نخرتم والله . ثم قال للمسلمين : اذهبوا فأنتم شيوم بأرضي _ والشيوم : الآمنون بلسان الحبشة _ من سبكم غرم ، من سبكم غرم ، من سبكم غرم ، ما أحب أن لي دبراً من ذهب وأنى آذيت رجلاً منكم _ والدبر الجبل بلسان الحبشة . ثم قال لحاشيته ردّوا عليهما هداياهما ، فلا حاجة لي بها ، فو الله ما أخذ الله مني الرشوة حين رد علي ملكي ، فآخذ الرشوة فيه ، وما أطاع الناس فيّ فأطيعهم فيه . قالت أم سلمة التي تروي هذه القصة : فخرجا من عنده مقبوحين مردوداً عليهما ما جاءوا به وأقمنا عنده بخير دار مع خير جار . هذه رواية ابن إسحاق وذكر غيره أن وفادة عمرو بن العاص إلى النجاشي كانت بعد بدر ، وجمع بعضهم بأن الوفادة كانت مرتين لكن الأسئلة والأجوبة التي ذكروا أنها دارت بين النجاشي وجعفر في الوفادة الثانية هي نفس الأسئلة والأجوبة التي ذكرها إبن اسحاق تقريباً ، ثم إن الأسئلة تدل لفحواها أنها كانت في أول مرافعة قدمت إلى النجاشي . أخفقت حيلة المشركين ، وفشلت مكيدتهم وعرفوا أنهم لا يشيعون ضغينتهم إلا في حدود سلطانهم ونشأت فيهم من أجل ذلك فكرة رهيبة . رأوا أن التفصي عن هذه (( الداهية )) لا يمكن إلا بكف رسول الله عن دعوته تماماً ، وإلا فبإعدامه ، ولكن كيف السبيل إلى ذلك وأبو طالب يحوطه ويحول بينه وبينهم ؟ رأوا أن يواجهوا أبا طالب في هذا الصدد.