1. المقالات
  2. 40 مجلساً في صحبة الحبيب صلى الله عليه و سلم - د.عادل بن علي الشدي
  3. أُسُس بِنَاءِ الدَّوْلَةِ

أُسُس بِنَاءِ الدَّوْلَةِ

المقال مترجم الى : English

دَخَلَ النبيُّ صلى الله عليه و سلم المدينةَ, فَتَلَقَّاهُ أَهْلُها بِالبِشْرِ والتِّرْحَابِ، وَكَانَ صلى الله عليه و سلم لَا يَمرُّ بِدَارٍ مِنْ دُورِ الأنْصَارِ إِلَّا أَخَذَ صَاحِبُها بِخِطَامِ رَاحِلتِه وَدَعَاهُ إِلَى النُّزولِ عِنْدَهُ، فَكَانَ صلى الله عليه و سلم يعْتَذِرُ إِليهِمْ وَيَقُولُ: خَلُّوا سبيلَها فَإِنَّها مَأمُورةٌ, فَلَمْ تَزلِ النَّاقةُ سَائِرةً بِهِ حَتَّى وَصَلَتْ إِلَى مَوْضِع مَسْجِدِهِ فبرَكتْ, ثُمَّ نَهضَتْ، فَسارتَ قَليلاً, ثُمَّ رجعَتْ إِلَى الموْضِعِ الأوَّلِ فَبركَتْ, فَنزلَ النَّبيُّ صلى الله عليه و سلم عَلى أَخْوالِه فِي بَني النَّجَّارِ، وَقَالَ صلى الله عليه و سلم: "أَيُّ بُيوتِ أَهْلِنَا أَقْرَبُ؟"فَقَالَ أَبُو أيُّوبَ: أَنَا يَا رسُولَ اللهِ. فَنَزَلَ النبيُّ صلى الله عليه و سلم عَلَى أَبِي أيُّوبَ الأنْصَارِيِّ رضي الله عنه.

كَانتْ أَوَّلُ خُطوَةٍ خَطَاهَا رَسولُ اللهِ صلى الله عليه و سلم بَعْدَ قُدُومِه إِلى المدِينةِ هِي بِنَاءُ المسْجِدِ النَّبويِّ, وَذَلِكَ فِي المكَانِ الَّذِي بَركَتْ فِيه نَاقَتُه، وَكَانَ لغلَامَيْنِ يَتِيْمَيْنِ اشْتَراهُ مِنْهُمَا، واشْتَرك صلى الله عليه و سلم فِي بِنَاءِ المسْجدِ بنفْسهِ، ثُمَّ بَنى صلى الله عليه و سلم حُجُراتِ أَزْواجِه إِلى جَانِب المسْجِدِ, وَلما اكْتَملَ بِنَاءُ الحجُرَاتِ تَرَكَ النبيُّ صلى الله عليه و سلم دَار أَبِي أَيُّوبَ وانْتَقَلَ إِلى تِلكَ الحجُرَاتِ. وَشرَّعَ الْأذانَ ليجْتَمِعَ الناسُ مَتى حَانَ وقتُ الصَّلاةِ.

ثُمَّ آخَى النبيُّ صلى الله عليه و سلم بينَ الـمُهَاجرينَ والأنْصَارِ، وَكَانُوا تِسْعِينَ رَجُلاً؛ نِصفُهمْ مِنَ المُهاجرينَ, وَنِصْفُهمْ مِنَ الأنْصَارِ؛ آخَى بينهُمْ عَلَى الموَاسَاةِ, يَتوارَثُونَ بَعْدَ الموْتِ دُونَ ذَوي الْأرْحَامِ إِلى حِينِ وَقْعَةِ بَدْرٍ، فَلَمَّا أَنْزلَ اللهُ: ٱلنَّبِىُّ أَوۡلَىٰ بِٱلۡمُؤۡمِنِينَ مِنۡ أَنفُسِہِمۡ‌ۖ وَأَزۡوَٲجُهُ ۥۤ أُمَّهَـٰتُہُمۡ‌ۗ وَأُوْلُواْ ٱلۡأَرۡحَامِ بَعۡضُہُمۡ أَوۡلَىٰ بِبَعۡضٍ۬ فِى ڪِتَـٰبِ ٱللَّهِ مِنَ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ وَٱلۡمُهَـٰجِرِينَ إِلَّآ أَن تَفۡعَلُوٓاْ إِلَىٰٓ أَوۡلِيَآٮِٕكُم مَّعۡرُوفً۬ا‌ۚ ڪَانَ ذَٲلِكَ فِى ٱلۡڪِتَـٰبِ مَسۡطُورً۬ا [الأحزاب: 6]، رُدَّ التوارثُ إِلى الرَّحِم دُون عَقْدِ الأُخُوَّة.

وَوادَعَ رَسولُ اللهِ صلى الله عليه و سلم مَنْ بِالمدينةِ مِنَ اليهودِ، وكتبَ بينهُ وبينهُم كِتابًا، وَبَادَرَ حَبْرُهم وعالمُهُمْ عبدُ اللهِ بْنُ سَلَامٍ فَدَخَلَ فِي الإِسْلَامِ, وَأَبَى عَامَّتُهم إِلَّا الكُفرَ([1]).

وَنَظَّمَ النبيُّ صلى الله عليه و سلم العِلَاقَاتِ بَين سُكَّانِ المدينةِ مِنَ المهاجِرينَ والأنْصَارِ وَاليهودَ وذكرت بعض كُتبِ السِّير أَنَّهُ كتَبَ فِي ذلكَ وَثِيْقَةً كَانَ مِنْ بُنُودِهَا:

* إِنَّ المؤمِنينَ مِنَ المهَاجِرينَ والأنْصَارِ أُمَّةٌ وَاحِدَةٌ مِنْ دُون النَّاسِ.

* وَإِنَّ المؤمِنينَ لَا يتْركُون مُفْرَحًا([2])بَينهم أَنْ يُعطُوه بالمعْروفِ.

* وَإِنَّ المؤمِنينَ المتَّقِينَ أَيدِيهمْ عَلى كُلِّ مَنْ بَغَى مِنْهُمْ، أَوِ ابْتَغَى دَسِيعةَ ظُلمٍ, أَوْ إثمًا, أَوْ عدوانًا, أَو فسادًا بينَ المؤمِنينَ، وَإِنَّ أَيدِيَهُمْ عَلَيْهِ جَمِيعًا, وَلَوْ كَان وَلدَ أَحدِهمْ.

* وَلا  يقْتلُ مُؤمنٌ مَؤْمنًا فِي كافرٍ، وَلَا ينْصُر كَافرًا عَلى مُؤمنٍ.

* وَإِنَّ ذمَّةَ اللهِ واحدةٌ, يُجِيرُ عَليهِمْ أدْناهُمْ, وَإِنَّ المؤمِنينَ بَعضُهُمْ مَوَالِيَ بعضٍ دُونَ النَّاسِ.

* وَإِنَّ مَنْ تَبعَنا مِنْ يَهودَ، فَإِنَّ لَه النصرَ والأُسوةَ, غَيْرَ مَظْلومِينَ، وَلَا مَتَنَاصَرٍ عَليهِمْ.

* وَإِنَّ سِلْمَ المؤمنينَ وَاحِدةٌ، لَا يُسالمُ مؤمنٌ دُون مؤمنٍ فِي قِتالٍ فِي سَبيلِ اللهِ إِلَّا عَلى سواءٍ وعدلٍ بينَهمْ.

* وَإِنَّه مَهمَا اختلفْتُم فِي شيءٍ فَإِنَّ مَردَّه إِلَى اللهِ وَإِلَى مُحمَّدٍ صلى الله عليه و سلم.

* وَإِنَّ يهودَ بَني عَوفٍ أُمَّةٌ معَ المؤمنينَ, لليهودِ دِينُهُمْ, وللمسلمِينَ دينُهُمْ, مَوَالِيهمْ وأنفُسُهُم إِلَّا مَنْ ظَلمَ نَفْسَه وَأَثِم فإنَّه لَا يوتِغُ([3])إِلَّا  نفسَه وأَهْلَ بَيتِه.

* وَإِنَّ بِطَانَةَ يهودَ كأنفُسِهِمْ, وَإِنَّه لا يُخرِجُ مِنْهُم أحدٌ إِلَّا بِإِذْنِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه و سلم.

* وَإِنَّ الجارَ كالنفْسِ, غَيرَ مُضارٍّ وَلَا آثِم.

* وَإِنَّه لَا تُجارُ حُرمةٌ إِلَّا بِإِذنِ أهلِها.

إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِن بُنودِ هَذهِ الصَّحيفَةِ الَّتي نظَّمتْ قَوَاعِدَ التَّعايُشِ بَينَ الطَّوائِفِ الموجُودَةِ بالمدِينَةِ, وَالَّتِي حَدَّدتْ مَفْهُومَ الأمَّةِ الإسْلَامِيَّةِ الَّتي تضمُّ المسلمِينَ جَميعًا, وَالدَّوْلةَ الإسلاميَّةَ وَهِيَ المدينةُ النَّبويةُ, وَجعلتْ المرْجِعِيَّةَ العُليا للهِ ورسولِه صلى الله عليه و سلم وبخاصَّةٍ عِنْدَ مَوَارِدِ الخِلَافِ وَالنِّزَاعِ.

وَهَذِهِ الصحيفةُ أَيضًا صَانتْ الحُرِّيَّاتِ كَحُرِّيةِ العَقِيدَةِ وَالعِبَادَةِ وَحَقَّ الأمْنِ لكلِّ إِنْسانٍ.

كَمَا أَنَّها أقرَّتْ مَبْدَأ المسَاوَاةِ وَالعَدْلِ بَين النَّاسِ جَميعًا.

إِنَّ المتأمِّلَ فِي بُنودِ هَذهِ الوثِيقَةِ يَجِدُ فِيها كَثيرًا مِنَ المبَادِئِ الحضَارِيَّةِ الَّتي يُنَادِي بها المهتمُّون بحقُوقِ الإنْسانِ فعَلَى أنَّ النبيَّ صلى الله عليه و سلم هُوَ أوَّلُ مَنْ رَسمَ مَعالِـمَ تِلكَ الحقُوقِ ونظَّمَ قَواعِدَها وِفْق شَرْعِ اللهِ تَعَالى المتمثِّلِ فِي الكِتَابِ والسُّنَّةِ, وَهَذَا هُو الحدُّ الفَاصِلُ بَين حُقُوقِ الإِنْسَانِ العَادِلةِ وَبَيْنَ مَا تدْعُو إِليهِ المنظَّماتُ الدَّوليةُ مما يزْعمُون حُقوقًا وَهُو في الحقِيقَةِ عُقوقٌ وَظلمٌ وامتِهانٌ لكرامَةِ الإنْسانِ وانْحِيازٌ لبعْضِ الفِئاتِ عَلَى حِسابِ البَعْضِ الآخَرِ.

 


_____________________________________________________________
 

([1]) زادا المعاد (3/63, 65).

([2]) المفرح: المثقل بالدين والكثير العيال.

([3]) يوتغ: يهلك.

المقال السابق المقال التالى
موقع نصرة محمد رسول اللهIt's a beautiful day