1. المقالات
  2. الجزء الثالث_زاد المعاد
  3. فصل في تدبيره لأمر النوم واليقظة

فصل في تدبيره لأمر النوم واليقظة

3786 2007/11/27 2024/03/29

 
فصل في تدبيره لأمر النوم واليقظة


من تدبر نومه ويقظته وجده أعدل نوم وأنفعه للبدن والأعضاء والقوى فإنه كان ينام أول الليل ويستيقظ في أول النصف الثاني فيقوم ويستاك ويتوضأ ويصلي ما كتب الله له فيأخذ البدن والأعضاء والقوى حظها من النوم والراحة وحظها من الرياضة مع وفور الأجر وهذا غاية صلاح القلب والبدن والدنيا والآخرة ولم يكن يأخذ من النوم فوق القدر المحتاج إليه ولا يمنع نفسه من القدر المحتاج إليه منه وكان يفعله على أكمل الوجوه فينام إذا دعته الحاجة إلىالنوم على شقة الأيمن ذاكرا الله حتى تغلبه عيناه غير ممتلىء البدن من الطعام والشراب ولا مباشر بجنبه الأرض ولا متخذ للفراش المرتفعة بل له ضجاج من آدم حشوة ليف وكان يضطجح على الوسادة ويضع يده تحت خده أحيانا  ،، ونحن نذكر فصلا في النوم والنافع منه والضار فنقول النوم حالة للبدن يتبعها غور الحرارة الغريزية والقوى إلى باطن البدن لطلب الراحة وهو نوعان طبيعي وغير طبيعي فالطبيعي إمساك القوى النفسانية عن أفعالها وهي قوى الحس والحركة الإرادية ومتى أمسكت هذه القوى عن تحريك البدن استرخى واجتمعت الرطوبات والأبخرة التي كانت تتحلل وتتفرق بالحركات واليقظة في الدماغ الذي هو مبدأ هذه القوة فيتخدر ويسترجي وذلك النوم الطبيعي

 

 

وأما النوم غير الطبيعي فيكون لعرض أو مرض وذلك بأن تستولى الرطوبات على الدماغ اسيتلاء لا تقدر اليقظة على تفريقها أو تصعد ابخرة رطبة كثيرة كما يكون عقيب الامتلاء من الطعام والشراب فتثقيل الدماغ وترخيه فيتخدر ويقع إمساك القوى النفسانية عن أفعالها فيكون النوم وللنوم فائدتان جليلتان إحداهما سكون الجوارح وراحتها مما يعرض لها من التعب فيريح الحواس من نصب اليقظة ويزيل الإعياء والكلال الثانية هضم الغذاء ونضج الأخلاط لأن الحرارة الغريزية في وقت النوم تغور إلى باطن البدن فتعين على ذلك ولهذا يبرد ظاهره ويحتاج النائم إلى فضل دثار وأنفع النوم أن ينام على الشق الأيمن ليستقر الطعام بهذه الهيئة في المعدة استقرارا حسنا فإن المعدة أميل إلى الجانب الأيسر قليلا ثم يتحول إلى الشق الأيسر قليلا ليسرع الهضم بذلك لاستمالة المعدة على الكبد ثم يستقر نومه على الجانب الأيمن ليكون الغذاء أسرع انحدارا   عن المعدة فيكون النوم على الجانب الأيمن بداءة نومه ونهايته وكثرة النوم على الجانب الأيسر مضر بالقلب بسبب ميل الأعضاء إليه فتنصب إليه المواد وأردأ النوم النوم على الظهر ولا يضر الاستلقاء عليه للراحة من غير نوم وأردأ منه أن ينام منبطحا على وجهه

 

 

 

وفي المسند وسنن أبن ماجه عن ابي أمامة قال مر النبي على رجل نائم في المسجد منبطح على وجهه فضربه برجله وقال قم أو اقعد فإنها نومة جهنمية قال أبقراط في كتاب التقدمة وأما نوم المريض على بطنه من غير أن يكون عادته في صحته جرت بذلك فذلك يدل على اختلاط عقل وعلى ألم في النواحي البطن قال الشراح لكتابه لأنه خالف العادة الجيدة إلى هيئة رديئة من غير سبب ظاهر ولا باطن ،، والنوم المعتدل ممكن للقوى الطبيعة منافعالها مريح للقوة النفسانية مكثر من جوهر حاملها حتى إنه ربما عاد بإرخائه مانعا من تحلل الأرواح ونوم النهار رديء يورث الأمراض الرطوبية والنوازل ويفسد اللون ويورث الطحال ويرخي العصب ويكسل ويضعف الشهوة إلا في الصيف وقت الهاجرة وأردؤه نوم أول النهار وأردأ منه النوم آخره بعد العصر ورأى عبد الله بن عباس ابنا له نائما نومة الصبحة فقال   له قم اتنام في الساعة التي تقسم فيها الأرزاق وقيل نوم النهار ثلاثة خلق وحرق وحمق فالخلق نومه الهاجرة وهي خلق رسول الله والحرق نومة الضحى تشغل عن أمر الدنيا والآخرة والحمق نومة العصر قال بعض السلف من نام بعد العصر فاختلس عقله فلا يلومن إلا نفسه وقال الشاعر :

 


( ألا إن نومات الضحى تورث الفتى % خبالا ونومات العصير جنون )

 

 


 ونوم الصبحة يمنع الرزق لأن ذلك وقت تطلب فيه الخليقة أرزاقها وهو وقت قسمة الأرزاق فنومه حرمان إلا لعارض أو ضرورة وهو مضر جدا بالبدن لإرخائه البدن وإفساده للفضلات التي ينبغي تحليلها بالرياضة فيحدث تكسرا وعيا وضعفا وإن كان قبل التبرز والحركة والرياضة وإشتغال المعدة بشيء فذلك الداء العضال المولد لأنواع من الأدواء والنوم في الشمس يثير الداء الدفين ونوم الإنسان بعضه في الشمس وبعضه في الظل رديء وقد روى أبو داود في سننه من حديث ابي هريرة قال قال رسول الله إذا كان احدكم في الشمس فقلص عنه الظل فصار بعضه في الشمس وبعضه في الظل فليقم

 

 


وفي سنن ابن ماجه وغيره من حديث بريدة بن الحصيب ان رسول الله نهى أن يعقد الرجل بين الظل والشمس وهذا تنبيه على منع النوم بينهما وفي الصحيحين عن البراء بن عازب ان رسول الله قال إذ أتيت مضجعك فتوضأ وضوءك للصلاة ثم اضطجع على شقك الأيمن ثم قل اللهم إني أسلمت نفسي إليك ووجهت وجهي إليك وفوضت أمري إليك وألجأت ظهري إليك رغبة ورهبة إليك لا ملجأ ولا منجا منك إلا إليك آمنت بكتابك الذي أنزلت ونبيك الذي أرسلت واجعلهن آخر كلامك فإن مت من ليلتك مت على الفطرة ،، وفي صحيح البخاري عن عائشة أن رسول الله كان إذا صلى ركعتي الفجر يعني سنتها اضطجع على شقة الأيمن ،،وقد قيل إن الحكمة في النوم على الجانب الأيمن أن لا يستغرق النائم في نومه لأن القلب فيه ميل إلى جهة اليسار فإذا نام على جنبه الأيمن طلب القلب مستقره من الجانب الأيسر وذلك يمنع من استقرار النائم واستثقاله في نومه بخلاف قراره في النوم على اليسار فإنه مستقره فيحصل بذلك الدعة التامة فيستغرق الإنسان في نومه ويستثقل فيفوته مصالح دينه ودنياه 

 

 


ولما كان النائم بمنزلة الميت والنوم أخو الموت ولهذا يستحيل علىالحي الذي لايموت وأهل الجنة لا ينامون فيها كان النائم محتاجا إلى من يحرس نفسه ويحفظها مما يعرض لها من الآفات ويحرس بدنه أيضا من طوارق الآفات وكان ربه فاطره تعالى هو المتولى لذلك وحده علم النبي النائم أن يقول كلمات التفويض والالتجاء والرغبة والرهبة ليستدعي بها كمال حفظ الله له وحراسته لنفسه وبدنه وأرشده مع ذلك إلى أن يستذكر الإيمان وينام عليه ويجعل التكلم به آخر كلامه فإنه ربما توفاه الله في منامه فإذا كان الإيمان آخر كلامه دخل الجنة فتضمن هذا الهدي في المنام مصالح القلب والبدن والروح في النوم واليقظة والدنيا والآخرة فصلوات الله وسلامة على من نالت به أمته كل خير ، وقوله أسلمت نفسي إليك أي جعلتها مسلمة لك تسليم العبد المملوك نفسه إلى سيده ومالكه وتوجيه وجهه إليه يتضمن إقباله بالكلية على ربه وإخلاص القصد والارادة له وإقراره بالخضوع والذل والانقياد قال تعالى (  فإن حاجوك فقل أسلمت وجهي لله ومن اتبعن ) وذكر الوجه إذ هو أشرف ما في الانسان ومجمع الحواس وأيضا ففيه معنى التوجه والقصد من قوله :

 


( استغفر الله ذنبا لست محصيه % رب العباد إليه الوجه والعمل )

 

 

 

وتفويض الأمر إليه رده إلى الله سبحانه وذلك يوجب سكون القلب وطمأنينته والرضى بما يقتضيه ويختاره له مما يحبه ويرضاه والتفويض  من أشرف مقامات العبودية ولا علة فيه وهو من مقامات الخاصة خلافا لزاعمي خلاف ذلك وإلجاء الظهر إليه سبحانه يتضمن قوة الاعتماد عليه والثقة به والسكون إليها والتوكل عليه فإن من أسند ظهره إلى ركن وثيق لم يخف السقوط ولما كان للقلب قوتان قوة الطلب وهي الرغبة وقوة الهرب وهي الرهبة وكان العبد طالبا لمصالحة هاربا من مضاره جمع الأمرين في هذا التفويض والتوجه فقال رغبة ورهبة إليك ثم أثنى على ربه بأنه لا ملجأ للعبد سواه فقال رغبة ورهبة إليك ثم أثنى على ربه بأنه لا ملجا للعبد سواه ولا منجا له منه غيره فهو الذي يلجأ إليه العبد لينجيه من نفسه كما في الحديث الآخر أعوذ برضاك من سخطك وبمعافاتك من عقوبتك وأعوذ بك منك فهو سبحانه الذي يعيذ عبده وبنجيه من بأسه الذي هو بمشيئته وقدرته فمنه البلاء ومنه الإعانة ومنه ما يطلب النجاة منه وإليه الالتجاء في النجاة فهو الذي يلجأ إليه في أن ينجي مما منه ويستعاذ به مما منه فهو رب كل شيء ولا يكون شيء إلا بمشيئته (  وإن يمسسك الله بضر فلا كاشف له إلا هو ) (   قل من ذا الذي يعصمكم من الله إن أراد بكم سوءا أو أراد بكم رحمة ) ثم ختم الدعاء بالإقرار بالإيمان بكتابه ورسوله الذي هو ملاك النجاة والفوز في الدنيا والآخرة فهذا هدية في نومه


( لو لم يقل إني رسول لكا % ن شاهد في هدية ينطق )

 

 

فصل

وأما هدية في يقظته فكان يستيقظ إذا صاح الصارخ وهو الديك فيحمد الله تعالى ويكبره ويهلله ويدعوه ثم يستاك ثم يقوم إلى وضوئه ثم يقف للصلاة بين يدي ربه مناجيا له بكلامه مثنيا عليه راجيا له راغبا راهبا فأي حفظ لصحة القلب والبدن والروح والقوى ولنعيم الدنيا والآخرة فوق هذا

 

 

 


فصل


وأما تدبير الحركة والسكون وهو الرياضة فنذكر منها فصلا يعلم منه مطابقة هدية في ذلك لأكمل أنواعه وأحمدها وأصوبها فنقول من المعلوم افتقار البدن في بقائه إلى الغذاء والشراب ولا يصير الغذاء بجملته جزء من البدن بل لا بد أن يبقي منه عند كل هضم بقية ما إذا كثرت على ممر الزمان اجتمع منها شيء له كمية وكيفية فيضر بكميته بأن يسد ويثقل البدن ويوجب امراض الاحتباس وإن استفرغ تأذي البدن بالأدوية لأن أكثرها سمية ولا تخلو من إخراج الصالح المنتفع به ويضر بكيفيته بأن يسخن بنفسه أو بالعفن أو يبرد بنفسه أو يضعف الحرارة الغريزية عن إنضاجه وسدد الفضلات لا محالة ضارة تركت أو استفرغت والحركة أقوى ألأسباب في منع تولدها فإنها تسخن الأعضاء وتسيل فضلاتها فلا تجتمع على طول الزمان وتعود البدن الخفة والنشاط وتجعله قابلا للغذاء وتصلب المفاصل وتقوى الأوتار والرباطات وتؤمن جميع الأمراض المادية واكثر الأمراض المزاجية إذا استعمل القدر المعتدل منها في وقته وكان باقي التدبير صوابا  

 

 

 


ووقت الرياضة بعد انحدار الغذاء وكمال الهضم والرياضة المعتدلة هي التي تحمر فيها البشرة وتربو ويتندى بها البدن وأما التي يلزمها سيلان العرق فمفرطة وأي عضو كثرت رياضته قوي وخصوصا على نوع تلك الرياضة بل كل قوة فهذا شأنها فإن من استكثر من الحفظ قويت حافظته ومن استكثر من الفكر قويت قوته المفكرة ولكل عضو رياضة تخصه فللصدر القراءة فليبتدىء فيها من الخفية إلى الجهر بتدريج ورياضة السمع بسمع الأصوات والكلام بالتدريج فينتقل من الأخف إلى الأثقل وكذلك رياضة اللسان في الكلام وكذلك رياضة البصر وكذلك رياضة المشي بالتدريج شيئا فشيئا وأما الركوب الخيل ورمي النشاب والصراع والمسابقة على الأقدام فرياضة للبدن كله وهي قالعة لأمراض مزمنة كالجذام والاستسقاء والقولنج ورياضة النفوس بالتعليم والتأذي والفرح والسرور والصبر والثبات والإقدام والسماحة وفعل الخير ونحو ذلك مما ترتاض به النفوس ومن أعظم رياضتها الصبر والحب والشجاعة والإحسان فلا تزال ترتاض بذلك شيئا فشيئا حتى تصير لها هذه الصفات هيئات راسخة وملكات ثابتة وأنت إذا تأملت هدية في ذلك وجدته أكمل هدي حافظ للصحة والقوى ونافع في المعاش والمعاد ،،  ريب أن الصلاة نفسها فيها من حفظ صحة البدن وإذابة اخلاطه وفضلاته ما هو من أنفع شيء له سوى ما فيها من حفظ صحة الإيمان وسعادة الدنيا والآخرة وكذلك قيام الليل من أنفع أسباب حفظ الصحة  ومن امنع الأمور لكثير من الأمراض المزمنة ومن أنشط شيء للبدن والروح والقلب كما في الصحيحين عن النبي أنه قال يعقد الشيطان على قافية رأس أحدكم إذا هو نام ثلاث عقد يضرب على كل عقدة عليك ليل طويل فارقد فإن هو استيقظ فذكر الله انحلت عقدة فإن توضأ انحلت عقدة ثانية فإن صلى انحلت عقده كلها فأصبح نشيطا طيب النفس وإلا أصبح خبيث النفس كسلان ،،

 

 

وفي  الصوم الشرعي من أسباب حفظ الصحة ورياضة البدن والنفس ما لا يدفعه صحيح الفطرة وأما الجهاد وما فيه من الحركات الكلية التي هي من أعظم أسباب القوة وحفظ الصحة وصلابة القلب والبدن ودفع فضلاتهما وزوال الهم والغم والحزن فأمر إنما يعرفه من له منه نصيب وكذلك الحج وفعل المناسك وكذلك المسابقة على الخيل وبالنصال والمشي في الحوائج وإلى الإخوان وقضاء حقوقهم وعيادة مرضاهم وتشييع جنائزهم والمشي إلى المساجد للجمعات والجماعات وحركة الوضوء والاغتسال وغير ذلك وهذا أقل ما فيه الرياضة المعينة على حفظ الصحة ودفع الفضلات وأما ما شرع له من التوصل به إلى خيرات الدنيا والآخرة ودفع شرورهما فأمر وراء ذلك فعلمت أن هدية فوق كل هدي في طب الأبدان والقلوب وحفظ صحتها ودفع أسقامهما ولا مزيد على ذلك لمن قد أحضر رشده وبالله التوفيق


 

المقال السابق المقال التالى
موقع نصرة محمد رسول اللهIt's a beautiful day