التبشير بالنبي صلى الله عليه وسلم : من دلائل صدق دعوة النبي صلى الله عليه وسلم أن الأنبياء - عليهم السلام - بشروا به، ومع أن كتب أهل الكتاب حرفت إلا أن الله تعالى بمنِّهِ وكرمه أبقى الكثير من البشارات الدالة على نبوته صلى الله عليه وسلم في كتبهم، وتضافرت هذه الدلائل حتى أن علماء بني إسرائيل يعرفون موطن ونسب ومكان النبي الخاتم صلى الله عليه وسلم ، قال تعالى : " أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَمَاءُ بَنِي إِسْرَائِيلَ "[الشعراء:١٩٧]، وبلغت دلائل نبوة سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم من الوضوح مبلغًا حتى أن أهل الكتاب كانوا يعرفونه كما يعرفون أبناءهم ، قال تعالى : " الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ ۖ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ " [البقرة:١٤٦]، عَنِ الْعِرْبَاضِ بْنِ سَارِيَةَ السُّلَمِيِّ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: (إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَخَاتَمُ النَّبِيِّينَ وَإِنَّ آدَمَ لَمُنْجَدِلٌ فِي طِينَتِهِ، وَسَأُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِ ذَلِكَ دَعْوَةِ أَبِي إِبْرَاهِيمَ وَبِشَارَةِ عِيسَى قَوْمَهُ، وَرُؤْيَا أُمِّي الَّتِي رَأَتْ أَنَّهُ خَرَجَ مِنْهَا نُورٌ أَضَاءَتْ لَهُ قُصُورُ الشَّامِ)[1]، إن التحريف في التوراة والإنجيل قد لعب دورًا كبيرًا في إخفاء كثير من البشارات بمبعثه صلى الله عليه وسلم ، وقد حرص أحبار ورهبان أهل الكتاب على التحريف والتبديل فيما يتعلق بالبشارة بنبي الرحمة صلى الله عليه وسلم ، وخاصة في الترجمة العربية، يقول المؤرخ الإنجليزي الشهير (جيبون): "إن الأحبار والرهبان صوروا وبدلوا بعد ظهور الإسلام نصوصًا كثيرة في التوراة والإنجيل، ويقول (بشرى زخاري ميخائيل) إن الرهبان قد حرفوا وبدلوا ويظهر ذلك من اختلاف الطبعات للإنجيل بفعل أيدي الرهبان حذفاً وتحريفا"[2]. ومع ذلك بقيت بعض البشارات تتحدى عوادي الزمن، وكل من تجرد من الهوى المذموم وأمعن النظر فيها استبان له الحق واهتدى، وآمن برسالة سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، عن ابن عباس - رضي الله عنهما -: "أن اليهود كانوا يستفتحون على الأوس والخزرج برسول الله صلى الله عليه وسلم قبل مبعثه، فلما بعثه الله من العرب كفروا به وجحدوا ما كانوا يقولون فيه، فقال لهم معاذ بن جبل، وبشر بن البراء بن معرور أخو بني سلمة: يا معشر يهود، اتقوا الله وأسلموا فقد كنتم تستفتحون علينا بمحمد صلى الله عليه وسلم ، ونحن أهل شرك، وتخبرونا بأنه مبعوث، وتصفونه بصفته! فقال سَلام بن مِشْكم أخو بني النضير: ما جاءنا بشيء نعرفه، ما هو بالذي كنا نذكر لكم! فأنزل الله جلَّ ثناؤه في ذلك من قولهم : " وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ ۚ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ (89) " [البقرة:٨٩]"[3]. بشرت أنبياء بني إسرائيل بنبي عظيم يوحى إليه، وصاحب شريعة عظيمة وخاتمة، ويحقق ما عجز عن تحقيقه الأنبياء - عليهم السلام -، فأصبح حلم الأنبياء والشعوب والضعفاء في كل وقت: "فإن موسى قال للآباء إن نبيًا مثلي سيقيم لكم الرب إلهكم من إخوتكم، له تسمعون في كل ما يُكلِّمُكُم به، ويكون أن كل نفس لا تسمع لذلك النبي تُباد من الشعب، وجميع الأنبياء أيضًا من صَمُوئيل فما بعده جميع الذين تكلموا سبقوا وأنبأوا بهذه الأيام، أنتم أبناء الأنبياء والعهد الذي عاهد به الله آباءنا قائلاً لإبراهيم وبنسلك تتبارك جميع قبائل الأرض"[4]، قال تعالى : " وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ ۚ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ " [الأعراف:١٥٧]. التبشير بالنبي صلى الله عليه وسلم : ليس من الضروري أن يبشر كل نبي بالذي يليه، وليس من شرط النبي أن يُبَشِّر به من تقدمه، فموسى صلى الله عليه وسلم من أولي العزم من الرسل وكان رسولاً إلى بني إسرائيل وإلى فرعون، ولم يتقدم بشارة لهم به[5]، أما لماذا كان تركيز الأنبياء - عليهم السلام - على رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ فلأن الحكمة من إرسال الرسل لا تكتمل إلا بإرسال الرسول الأعظم صلى الله عليه وسلم : عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: (إِنَّ مَثَلِي وَمَثَلَ الأَنْبِيَاءِ مِنْ قَبْلِي كَمَثَلِ رَجُلٍ بَنَى بَيْتًا فَأَحْسَنَهُ وَأَجْمَلَهُ إِلا مَوْضِعَ لَبِنَةٍ مِنْ زَاوِيَةٍ، فَجَعَلَ النَّاسُ يَطُوفُونَ بِهِ وَيَعْجَبُونَ لَهُ، وَيَقُولُونَ: هَلا وُضِعَتْ هَذِهِ اللَّبِنَةُ، قَالَ: فَأَنَا اللَّبِنَةُ، وَأَنَا خَاتِمُ النَّبِيِّينَ)[6]، فلا بد أن تكون العاقبة للمتقين، والأنبياء السابقون حاربوا الشرك وحققوا نجاحات كبيرة، ولكن كانت مقتصرةً على فترة معينة وبقعة معينة؛ لأن دعوتهم كانت محدودة، وما يلبث النبي أن يلتحق بالرفيق الأعلى فيضيع من بعده الكتاب، وتنتشر البدع، وشيئًا فشيئًا تعود الوثنية، وبمقتضى الحكمة الإلهية لا بد أن تكون العاقبة لأهل الحق، لأن الكون قائم على سنن وقوانين، ونظام دقيق، ولو لم تكن العاقبة لأهل الحق لكان وجوده عبثًا، ومن هنا كان التبشير بسيد ولد آدم صلى الله عليه وسلم الذي سيحقق النجاح على المستوى العالمي من حيث المكان والزمان فيحقق هذه الغاية، فكان مبعثه بلسمًا لقلوب المؤمنين، وأمل المعذبين، ورجاء المصلحين، قَالَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : (لَيَبْلُغَنَّ هَذَا الأَمْرُ مَا بَلَغَ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَلا يَتْرُكُ اللَّهُ بَيْتَ مَدَرٍ وَلا وَبَرٍ إِلا أَدْخَلَهُ اللَّهُ هَذَا الدِّينَ بِعِزِّ عَزِيزٍ، أَوْ بِذُلِّ ذَلِيلٍ عِزًّا يُعِزُّ اللَّهُ بِهِ الإِسْلامَ وَذُلاً يُذِلُّ اللَّهُ بِهِ الْكُفْرَ)[7]، وليكون النبي الخاتم شاهدًا على أن الأنبياء السابقين بأنهم بلغوا البلاغ المبين قال تعالى : " وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ ۚ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ " [النساء:٤١]. التبشير بالنبي صلى الله عليه وسلم : ومن هنا جاءت ضرورة أخذ الميثاق من الأنبياء لئن بُعِثَ محمد صلى الله عليه وسلم ليؤمنن به، حتى تبقى في ذاكرة الأمم المسلمة عبر التاريخ الإنساني أن الظلام مهما ادلهمَّ فلا بد من يوم ينجلي فيه الظلام، ولا بد من يوم يحق فيه الحق ويبطل الباطل، وهذا يعطي الأمل والدافع للمسلمين عبر التاريخ إلى العمل حتى لا يدخل اليأس والقنوط في نفوسهم، وحتى تتناقل الأمم بشاراته فتؤمن به حين مبعثه صلى الله عليه وسلم ، قال تعالى : " وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ ۚ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَىٰ ذَٰلِكُمْ إِصْرِي ۖ قَالُوا أَقْرَرْنَا ۚ قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ " [آل عمران:٨١]، عن علي رضي الله عنه وغيره قال: "لم يبعث الله صلى الله عليه وسلم نبياً - آدم فمن بعده - إلا أخذ عليه العهد في محمد: لئن بُعث وهو حي ليؤمنن به، ولينصرنه، ويأمره فيأخذ العهد على قومه"[8]. -------------------------------------------------------------------------------- [1]- رواه الإمام أحمد في مسنده،1/ 127،والحاكم في المستدرك:تواريخ المتقدمين من الأنبياء،ح(4175)،2/656.وقال هذا حديث صحيح الإسناد ووافقه الذهبي. [2] - الزنداني، عبد المجيد، كتاب توحيد الخالق، 1/ 85. [3] - رواه الطبري في ،جامع البيان، ح(1523)، 1/ 455. وابن أبي حاتم في ،تفسير القرآن العظيم، ح(905)، 1/ 172 . [4] - أعمال الرسل، 3/24ـ 25. [5] - راجع ابن تيمية، الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح : 1/ 177 . [6] - رواه البخاري في صحيحه: المناقب/ خاتم النبيين صلى الله عليه وسلم ، 4/ 162 ـ 163. [7] - رواه الإمام أحمد في مسنده، 4/ 102 .إسناده متصل ورجاله ثقات، رجاله رجال مسلم، والحاكم في المستدرك : الفتن والملاحم، ح(8324)، 4/ 476 ، وقال الذهبي: صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه. [8] - رواه الطبري في تفسيره، جامع البيان، ح(7327)، 3/ 330 .