عفوه عن صفوان بن أمية بن خلف كان أبوه من أشد المعاندين للرسول صلى الله عليه وسلم، ومن الذين قتلوا في بدر، وورث صفوان بن أمية هذه الكراهية من أبيه للإسلام والمسلمين، وحارب الرسول صلى الله عليه وسلم بكل طاقته، وكان ممن التف حول ظهر المسلمين في أحد هو وخالد بن الوليد رضي الله عنه، واشترك اشتراكا كبيرا في قتل سبعين من شهداء الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم، واشترك أيضا في غزوة الأحزاب، بل كان من الذين شاركوا في عملية القتال في داخل مكة المكرمة، بل إن صفوان بن أمية قبل ذلك دبر محاولة لقتل الرسول صلى الله عليه وسلم، فهناك عداء شخصي بينه وبين الرسول صلى الله عليه وسلم، وكانت هذه المحاولة بينه وبين عمير بن وهب رضي الله عنه، وكان عمير وقتها لا يزال كافرا، وفيها تعهد صفوان بن أمية لعمير بن وهب أن يتحمل عنه نفقات عياله، وأن يسدد عنه دينه في نظير أن يقتل عمير رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأسلم عمير بن وهب في المدينة المنورة بعد أن أخبره الرسول صلى الله عليه وسلم بما دار بينه وبين صفوان في حجر الكعبة، ومرت الأيام، وجاء فتح مكة المكرمة وفر صفوان بن أمية، ولم يجد له مكانا في مكة المكرمة، وعلم أنه لن يستقبل في أي مكان في الجزيرة العربية، فقرر أن يلقي بنفسه في البحر ليموت، فخرج صفوان في اتجاه البحر الأحمر ومعه غلام اسمه يسار، وليس معه أحد غيره حتى وصل إلى البحر الأحمر، ورأى صفوان من بعيد أحد الرجال يتتبعه، فخاف وقال لغلامه: ويحك انظر من ترى؟ قال الغلام: هذا عمير بن وهب. وكان عمير بن وهب صديقا حميما لصفوان بن أمية قبل أن يسلم عمير رضي الله عنه، فقال صفوان: وماذا أصنع بعمير؟ والله ما جاء إلا يريد قتلى. فهو قد دخل في الإسلام وقد ظاهر محمدا علي، ولحق عمير بن وهب رضي الله عنه بصفوان بن أمية، فقال له: يا عمير ما كفاك ما صنعت بي؟ حملتني دينك وعيالك، ثم جئت تريد قتلي. فقال: أبا وهب، جعلت فداك، قد جئتك من عند أبر الناس وأوصل الناس. فعندما رأى عمير بن وهب صفوان قد هرب من مكة المكرمة، أسرع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتذكر صديقه القديم وتذكر الذكريات التي كانت بينه وبين صفوان بن أمية، فخاف عليه، وخشي عليه، وأحب له الإسلام، وأحب له أن يدخل فيما دخل فيه، فبدأ يحاول مع الرسول صلى الله عليه وسلم أن يطلب له الأمان، فقال عمير بن وهب: يا رسول الله سيد قومي خرج هاربا ليقذف نفسه في البحر، وخاف ألا تؤمنه، فداك أبي وأمي. فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: قَدْ أَمَّنْتُهُ. فهل روى لنا التاريخ أخلاقا مثل أخلاق رسول الله صلى الله عليه وسلم مُحَمَّدٌ أَشْرَفُ الْأَعْرَابِ وَالْعَجَمْ مُحَمَّدٌ خَيْرُ مَنْ يَمْشِي عَلَى قَدَمِ مُحَمَّدٌ بَاسِطُ الْمَعْرُوفِ جَامِعُهُ مُحَمَّدٌ صَاحِبُ الْإِحْسَانِ وَالْكَرَمِ وصل عمير بن وهب إلى صفوان، وقال له: إن رسول الله قد أمنك، فخاف صفوان، وقال: لا والله لا أرجع معك حتى تأتيني بعلامة أعرفها. فرجع عمير بن وهب إلى الرسول صلى الله عليه وسلم وقد بذل مجهودا كبيرا من البحر الأحمر إلى مكة المكرمة ما يقرب من ثمانين كيلومترا ذهابا، ثم يقطعها بعد ذلك عودة، وقال عمير: يا رسول الله، جئت صفوان هاربا يريد أن يقتل نفسه، فأخبرته بما أمنته، فقال: لا أرجع حتى تأتيني بعلامة أعرفها. فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: خُذْ عِمَامَتِي إِلَيْهِ. والرسول صلى الله عليه وسلم يحاول قدر المستطاع أن يأتي بكل إنسان إلى الإسلام، فأخذ عمير العمامة وذهب إلى صفوان بن أمية، حتى وصل إلى صفوان بن أمية، وأظهر له العمامة وقال له: يا أبا وهب، جئتك من عند خير الناس، وأوصل الناس، وأبر الناس، وأحلم الناس، مجده مجدك، وعزه عزك، وملكه ملكك، ابن أمك وأبيك، أُذكّرك الله في نفسك. فقال له صفوان في منتهى الخوف: أخاف أن أقتل. قال: قد دعاك إلى أن تدخل في الإسلام، فإن رضيت وإلا سَيَّرك شهرين. ولننظر إلى الكرم من رسول الله صلى الله عليه وسلم فإن أسلمت الآن انتهت القضية ولك ما للمسلمين عليك ما على المسلمين، وإن أردت أن تأخذ شهرين كاملين تفكر فيهما فأنت في أمان، فرجع صفوان بن أمية مع عمير بن وهب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ودخل الحرم، والرسول صلى الله عليه وسلم يصلي بالناس صلاة العصر فوقفا سويا، حتى ينتهي الرسول صلى الله عليه وسلم من الصلاة، فقال صفوان لعمير بن وهب: كم تصلون في اليوم والليلة؟ قال: خمس صلوات. قال: يصلي بهم محمد. قال: نعم. فلما سلم الرسول صلى الله عليه وسلم وانتهى من صلاته، صاح صفوان يخاطب الرسول صلى الله عليه وسلم: يا محمد. من بعيد، حتى تكون عنده فرصة للهرب، يا محمد إن عمير بن وهب جاءني بعمامتك، وزعم أنك دعوتني إلى القدوم عليك، فإن رضيت أمرا وإلا سيرتني شهرين. فقال صلى الله عليه وسلم في ليونة وسهولة: انْزِلْ أَبَا وَهْبٍ. فقال صفوان: لا والله حتى تبين لي. فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: بَلْ تَسِيرُ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ. تفكر أربعة أشهر كاملة، وبالفعل أطلق الرسول صلى الله عليه وسلم صفوان بن أمية أربعة أشهر كاملة ليفكر، ولم يأخذ صفوان بن أمية هذه الشهور الأربعة كاملة للتفكير، ولكن صفوان دخل الإسلام بهذه المعاملة الحسنة من الرسول صلى الله عليه وسلم.