تعليمه صلى الله عليه وسلم بالمُقايَسةِ والتمثيل وتارةً كان صلى الله عليه وسلم يُقايِسُ لأصحابه الأحكامَ ويُعلِّلُها لهم ، إذا اشتبهتْ عليهم مَسالِكُها ، وغَمُضَ عليهم حُكمُها ، فيَتَّضِحُ لهم ما اشتَبَه أمْرُه ، وخَفِيَ فَهْمُه ، ويكونُ لهم من تلك المقايَسةِ معرفةٌ بمسالِكِ الشريعة ومقاصِدِها ، وفِقهٌ بمراميها البعيدة : 54 ـ روى البخاري1عن ابن عباس : ((أنَّ امرأةً من جُهَيْنة ، جاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، فقالت : إنَّ أُمّي نذَرَتْ أن تَحُجّ ، فلم تَحجَّ حتى ماتَتْ ، أفأحُجَّ عنها؟ قال : نعم ، حُجّي عنها ، أرأيتِ2لو كان على أُمُّكِ دَيْن أكنتِ قاضِيَتَه؟ قالت : نعم ، فقال : اقْضوا اللهَ الذي له3، فإنَّ الله أحقُّ بالوفاء)) . 55 ـ ومن ذلك أيضاً ما رواه مسلم4عن أبي ذر الغِفاري رضي الله عنه : ((أنَّ ناساً من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ، قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم : يا رسول الله ، ذهَبَ أهلُ الدُّثور بالأُجور5، يُصَلّون كما نُصلّي ، ويَصومون كما نصوم ، ويَتصدَّقون بفُضولِ أموالِهم؟!6. قال : أوَليس قد جعَلَ لكم ما تَصَدَّقون7؟ إنَّ بكل تسبيحةٍ صَدَقةً ، وكلِّ تكبيرةٍ صَدَقةً ، وكلِّ تحميدةٍ صَدَقةً ، وكلِّ تَهْليلةٍ صَدَقةً8، وأمْرٌ بالمعروفِ صَدَقةٌ ، ونَهْيٌ عن منكرٍ صَدَقةٌ ، وفي بُضْعِ أحدِكم صَدَقةٌ9. قالوا : يا رسول الله ، أيأتي أحَدُنا شَهْوَتَه ويكونُ له فيها أجر؟ قال : أرأيتُم10لو وضَعَها في حرامٍ أكان عليه فيها وِزْر؟ فكذلك إذا وَضَعَها في الحلال كان له أَجْر)) . فقايَسَ لهم صلى الله عليه وسلم مُقايَسةً عقليةً بين الأمرين ، حتى اتَّضح لهم الحكم ، وفهِموا ما لم يكن يَدورُ في خَلَدِهم ، وهو أنَّ مِثلَ هذا الاستمتاعِ المشروعِ يكون به للمرء أجرٌ وثواب ، لما يترتب عليه من الآثار الحسنة . 56 ـ وروى أبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه عن11سعد بن أبي وقّاص رضي الله عنه قال : سمعتُ النبي صلى الله عليه وسلم يُسألُ عن شِراءِ التَّمْرِ بالرُّطَب12؟ فقال لمن حوله : ((أيَنقُصُ الرُّطَبُ إذا يَبِسَ؟ قالوا : نعم ، فنهى عن ذلك)) . وبدَهيٌّ كلَّ البَداهةِ أن النبي صلى الله عليه وسلم كان عالماً أن الرطب ينقص إذا يبس ، فهو يعيشُ في قلب جزيرة العرب بلاد التَّمر والرُّطب ، وذلك أمرٌ لا يَخفى على أقلِّ الناس فيها ، ولكنه صلى الله عليه وسلم سألهم : هل ينقص الرطب إذا يبس؟ ليُنبِّه أصحابه وسامعيه وتابعيه ، إلى أنَّ علةَ النَّهي عن بيع الرطب بالتمر ، هي نقصه عند يُبسه ، فلا يجوز أن يباع هذا بهذا على سبيل التساوي بالكيل ، فأشعرَهم بعلةِ الحكم إذْ كان خَفِيّاً عليهم ، فكان ذلك قاعدةً في البيوع إلى آخر الزمن . ------------------------------------- 1 ـ 4 :55 في أبواب المحصر وجزاء الصيد (باب الحج والنذور عن الميت) . 2 ـ أي أخبِريني . 3 ـ جملة (الذي له) في آخر الحديث ليست في رواية نسخة البخاري المطبوعة مع ((فتح الباري)) ، وإنما هي من ((نصب الراية)) للحافظ الزيلعي 3 :158 ، وقد روى الحديث فيها عن البخاري . 4 ـ 7 :91 في كتاب الزكاة (باب بيان أن اسم الصدقة يقع على كل نوع من المعروف) . 5 ـ يعني : ذهب أهلُ الغِنى بالثواب . 6 ـ أي بما لديهم من أموال فائضة عن الحاجة . 7 ـ أي تَتَصدَّقون به . 8 ـ التهليلة قولُ الإنسان : لا إله إلاّ الله . 9 ـ أي في معاشرة الرجل زوجته الحلال له صدقة . وسمّى جزاءَ هذه الأعمال من التسبيح والتكبير والتحميد ... صَدَقةً على سبيلِ المقابلة وتجنيسِ الكلام ، أي كما أن للصدقةِ التي يَجودُ بها الاغنياءُ أهلُ الدثور ، على إخوانهم الفقراء المُعْوَزين أجراً وثواباً ، فكذلك لهذه الأعمال والطاعات أجرٌ وثوابٌ لفاعليها . 10 ـ أي أخبروني . 11 ـ أبو داود3 :341 في كتاب البيوع (باب في الثمر بالثمر)، والترمذي 3 :519 في البيوع أيضاً (باب ما جاء في النهي عن المُحاقَلة والمُزابَنة) ، والنسائي 7 :269 باب (اشتراء الثمر بالرطب) ، وابن ماجه 2 :761 في كتاب التجارات (باب بيع الرُّطب بالتمر) . 12 ـ الرُّطَبُ هو التمر قبل أن يَتمَّ استِواؤُه ويُبسُهُ .