تكرارُه صلى الله عليه وسلم القولَ ثلاثاً لتأكيد مضمونه وكان صلى الله عليه وسلم يُكرِّرُ حديثَه تأكيداً لمضمونِه ، وتنبيهاً للمخاطب على أهمِّيَّته ، وليفهَمَه السامعُ ويُتقِنَه، وقد تَرجَمَ الإمام البخاري لهذا المعنى (بابَ من أعادَ الحديث ثلاثاً ليُفهَمَ عنه)6، وأخرجَ فيه الحديثين التّاليين : عن أنس رضي الله تعالى عنه ، ((عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان إذا تَكلَّم بكلمةٍ أعادَها ثلاثاً حتى تُفهَم عنه)) . وعن عبد الله بنِ عمرو رضي الله تعالى عنهما قال : ((تَخلَّفَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم في سَفَرٍ سافَرناه ، فأدرَكنا وقد أرْهَقَتْنا صلاةُ العصر7ِ ، ونحن نتوضَّأ ، فجَعلْنا نَمسَحُ على أرجُلِنا ، فنادى بأعلى صوتِه (ويلٌ للأعْقاب من النار) مرَّتين أو ثلاثاً))1. وروى أحمد في ((مسنده))2عن عبد الرحمن بن غَنْم ، عن مُعاذ بن جبَل رضي الله تعالى عنه : ((أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج بالناس قِبَلَ غزوةِ تَبوك ، فلما أن أصبح صلّى بالناسِ صلاةَ الصبح ، ثم إن الناسَ رَكِبوا ، فلمّا أنْ طَلَعتْ الشمسُ نَعَس الناسُ على أثر الدُّلْجةِ3، ولَزِم مُعاذٌ رسول الله صلى الله عليه وسلم يَتلو أثَرَه ُ... ثم إنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كَشَف عنه قِناعَه ، فالتَفتَ فإذا ليس من الجيشِ رجلٌ أدنى إليه من مُعاذ ، فناداه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : يا مُعاذُ ، قال : لَبَّيك يا نبي الله ، قال : ادْنُ ، دونَكَ ، فدَنا منه حتى لَصِقَتْ راحلتاهما إحداهما بالأخرى . فقال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم ما كنتُ أحسِبُ الناسَ مِنّا كمَكانِهم من البُعد ، فقال معاذ : يا نبي الله ، نَعَس الناسُ فتفرَّقَتْ بهم رِكابُهم تَرتَعُ وتَسيرُ ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : وأنا كنتُ ناعِساً . فلما رأى معاذٌ بُشْرى4رسول الله صلى الله عليه وسلم إليه وخَلْوَتَه له ، قال : يا رسول الله ، ائذَنْ لي أسألُك عن كلمةٍ قد أمرضَتْني وأسْقَمَتْني وأحْزَنَتْني ، فقال نبيُّ الله صلى الله عليه وسلم سَلْني عَمَّ شئت . قال : يا نبي الله ، حَدِّثني بعمل يُدْخِلُني الجنةَ لا أسألُك عن شيءٍ غيرِها5، قال نبي الله صلى الله عليه وسلم : بَخْ بَخْ بَخْ ، لقد سألتَ عن عظيمٍ ، لقد سألتَ عن عظيمٍ ، لقد سألت عن عظيمٍ ، وإنه ليَسيرٌ على من أراد الله به الخير ، وإنه ليَسيرٌ على من أراد الله به الخيرَ ، وإنه ليَسيرٌ على من أراد الله به الخيرَ ، فلم يُحدِّثه بشيءٍ إلاّ قاله ثلاث مرّاتٍ ، يعني ثلاثَ مرّاتٍ ، حِرصاً لكي ما يُتْقِنَه . فقال نبي الله صلى الله عليه وسلم : تُؤمِنُ بالله واليومِ الآخِر ، وتُقيمُ الصلاةَ ، وتَعبُدُ الله وحده لا تُشرِك به شيئاً حتى تموتَ وأنتَ على ذلك ، فقال : يا نبي الله ، أعِدْ لي ، فأعادها له ثلاث مرّات . ثم قال نبيُّ الله صلى الله عليه وسلم : إن شئتَ حدَّثتُك يا مُعاذ برأسِ هذا الأمرِ ، وقِوامِ هذا الأمرِ ، وذُرْوَةِ السَّنام ، فقال معاذ : بَلى بأبي وأمي أنتَ يا نبيَّ الله فحدِّثني ، فقال نبيُّ الله صلى الله عليه وسلم : إن رأسَ هذا الأمرِ6أن تَشهَد أنْ لا إله إلاّ الله وحده لا شريك له وأنَّ محمداً عبدُه ورسولُه . وإنَّ قِوامَ هذا الأمرِ إقامُ الصلاة وإيتاءُ الزكاة . وإنَّ ذُرْوَةَ السَّنام منه الجهادُ في سبيلِ الله . إنما أمِرتُ أن أقاتِلَ الناسَ حتى يُقيموا الصلاةَ ، ويؤتوا الزَّكاةَ ، ويَشهَدوا أنْ لا إله إلاّ اللهُ وحدَهُ لا شريك له ، وأنَّ محمداً عبدُه ورسولُه ، فإذا فَعَلوا ذلك فقد اعتَصَموا ، وعَصَموا دِماءهم وأموالَهُم إلاّ بحقِّها ، وحِسابُهم على الله عز وجل ...)) . ------------------------------- 6 ـ 1 :188 ـ 189 في كتاب العلم . قال الحافظ ابنُ حجر في ((فتح الباري)) 1 :189 : ((قال ابنُ المنيِّر : نَبَّه البخاري بهذه الترجمة على الرد على من كَرِه إعادةَ الحديث ، وأنكَرَ على الطالب الاستعادة ، وعَدَّه من البَلادَةِ . قال : والحقُّ أن هذا يَختَلِفُ باختلاف القَرائحِ ، فلا عيب على المُستفيد الذي لا يَحفَظ من مرةٍ إذا ستعادَ ، ولا عُذرَ للمفيدِ إذا لم يُعِد ، بل الإعادةُ عليه آكدُ من الابتداء ، لأن الشروعَ مُلزِم . وقال ابنُ الِّيْن : في هذا الحديث أنَّ الثلاثَ غايةُ ما يَقَع به الاعتذارُ والبيان)) . انتهى كلام الحافظ ابن حجر . وقد عَقَد البخاري نفسُه 1 :196 (بابَ من سمع شيئاً فلم يَفهَمْه فراجَعَ حتى يَعرِفَه) ، وأخرج فيه حديثَ ابن أبي مُلَيكَةَ أن عائشة زوجَ النبي صلى الله عليه وسلم كانت لا تسمع شيئاً لا تعرِفُه إلاّ راجعَتْ فيه حتى تَعرِفه ، وأن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ((من حوسِبَ عُذِّب)) . قالت عائشة فقلتُ : أوَليس يقولُ الله تعالى : (فسوف يُحاسَبُ حساباً يسيراً) ، قالت : فقال النبي صلى الله عليه وسلم : إنما ذلكِ العَرْضُ ، ولكن مَنْ نوقِشَ الحسابَ يَهْلِكْ)) . قال ابنُ حجر في ((فتح الباري)) 1 :197 : ((في هذا الحديث بيانُ ما كان عند عائشة من الحرص على تفهُّم معاني الحديث ، وأنَّ النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يَتَضَجَّرُ من المُراجَعَةِ في العلم ، وفيه بيانُ جوازِ المناظرة ، ومُقابَلَةِ السنةِ بالكتاب ، وتفاوُت الناس في الحساب)) . 7 ـ قولُه (أَرْهَقَتْنا) أي أدركَتْنا الصلاةُ وضاق وقتُها . 1 ـ قوله (ويلٌ للأعقاب من النار) الويلُ : وادٍ في جهنَّم ، يريدُ الرسول صلى الله عليه وسلم بهذا تهديدَ من لم يَستوف غَسْل قدمَيْه بالماء . و(الأعقاب) جمعُ عَقِب ، وهو مؤخَّر القَدَم ، قال البغوي : معناه ويلٌ لأصحاب الأعقاب المُقصِّرين في غَسْلِها . وفي الحديث من المسائل : تعليمُ الجاهل ، ورفعُ الصوت بالإنكار ، وتكرارُ المسألة لتُفهم ، كما في ((فتح الباري)) 1 :266 . وقولُه (مرتين أو ثلاثاً) قال الحافظ ابنُ حجر في ((فتح الباري)) 1 :189 : ((هو شك من الراوي ، وهو يَدُلُّ على أن الإعادةَ ثلاثَ مرَاتٍ ليستْ شرطاً ، بل المرادُ التفهيمُ ، فإذا حَصَل بدونِها أجزأ)) . 2 ـ 5 :245 ـ 246 ، وإسنادُه حَسَنٌ ، وأصلُ الحديث من طريقٍ آخر عند الترمذي 4 :124 ـ 125 في أبواب الإيمان (باب ما جاء في حروة الصلاة) ، وعند ابن ماجه 2 :1314 ـ 1315 في كتاب الفِتَن (باب كفِّ اللسان في الفتنة) . قال الترمذي : ((حديث حسنٌ صحيحٌ)) . 3 ـ الدُّلْجَةُ السفر من أول الليل ، أي بسبب سفرهم من أول الليل نَعَسوا . 4 ـ أي ارتياحَه وتوجهه إليه . 5 ـ كذا اللفظة في ((المسند)) ، وليست واردة عند الترمذي وابن ماجه ، والسياقُ يقتضي أن تكون (لا أسألك عن شيء غيرِه) . 6 ـ المرادُ بقوله (هذا الأمر) الدّين ، أو العَمَلُ الذي يُدخِلُ الجنة .