معايير عظمته صلى الله عليه وسلم إذا كان المنصفون قد أجمعوا على عظمة محمد صلى الله عليه وسلم فإن ذلك الإجماع يزيد من قيمته تلك المعاير الدقيقة التي وضعها المنصفون واستندوا إليها في الحكم بعظمة محمد صلى الله عليه وسلم بعد أن طبقوها تطبيقاً صارماً. ولم تكن الدقة وحدها هى السمت الوحيد الذي ميّز معايير الحكم الغربي بعظمة رسول الإسلام، بل كانت هناك خاصتان أخريان ضمنتا لتلك المعايير سلامة الحكم وصحته المستند إليها، وهما: الأولى: الموضوعية: لاشك أن الموضوعية وقابلية التحقق هي أهم ما يمكن أن يتميز به معيار، أو قانون، أو أساس ما، لأن ما لا يمكن التحقق من وجوده، أو من آثاره، أو من سلامته، يظل أمراًَ منتمياً إلى عالم النظرية أو الخيال. لذلك استند المنصفون إلى الآثار والمنجزات الواقعية الملموسة لرسالة النبي صلى الله عليه وسلم في حكمهم بعظمة النبي صلى الله عليه وسلم ، ولم تكن تلك الآثار مادية دنيوية فحسب، بل روحية دينية كذلك، وقد وفّرت هذه الآثار والمنجزات لمعايير عظمة النبي صلى الله عليه وسلم عنصر الصحة والسلامة؛ لكونها جسَّدت الموضوعية في تلك المعايير، وكشفت عن قابلية تحققها في عالم الواقع الملموس والحي. الثانية: التنوع: فقد تعددت تلك المعايير وتنوعت تنوعاً كبيراً يرجع إلى تباين، وتعدد اهتمامات، واختصاصات، وطبائع الغربيين الذين قاموا على دراسة سيرة النبي صلى الله عليه وسلم ورسالته، ما بين لاهوتي، ومستشرق، ومفكر، ومثقف، ومؤرخ، وفيلسوف، وأديب، وعالم أديان، وعالم تجريبي، أو عالم رياضيات.... إلخ فقد أدى التنوع والتعدد في تخصص المهتمين بسيرة النبي صلى الله عليه وسلم إلى توسيع المنظور، والقيمة، والأسس التي يحتكمون إليها في القول بعظمته صلى الله عليه وسلم . ولاشك أن ذلك يعنى شدة وضوح تلك العظمة وشمول جوانبها بحيث يسهل إدراكها على كل من التمسها أيَّا كان اهتمامه واختصاصه، وأيَّا كان الجانب الذي ينظر إليه في سيرة النبي صلى الله عليه وسلم . وسوف نحاول رصد تلك المعايير متوخين تحقيق غرضين، أولهما: تصحيح الفهم المغلوط حول تلك المعايير من خلال الظن بأنها معايير دنيوية صدرت عن علمانيين لادينيين، ومن ثم فهي ليست جديرة بالحكم على صاحب رسالة إلهية وشريعة ربانية، والثاني: محاولة الوقوف على قدر التميز والتنوع الذي اختصت به تلك المعايير. فقد تمحورت تلك المعايير في محورين كبيرين أفسحا المجال وفتحا الباب واسعاً أمام التنوع والتعدد وهما المحور الديني والمحور الحضاري الإنساني. تقول كارين آرمسترونج karen armstrong (١): "muhammad's was an extraordinary achievement.he had not relied simply on divine inspiration but, according to the qu'ranic principle, he had used all his natural resources and considerable personal genius to carry the day." " لقد أنجز محمد إنجازاً فذاً، فلم يستند فقط إلى الوحي الذي أنزله الله عليه، بل إنه وظّف كل موارده الطبيعية وعبقريته الشخصية الفائقة طبقاً للمباديء القرآنية إلى أن تمكن من تحقيق النجاح." لذا لابد من أجل الإلمام بتلك المعايير ومدى تنوعها من ضرورة تناولها من خلالها بعديها: الديني والحضاري الإنساني، وذلك على النحو التالي: أولاً: المعيار الديني: إن الحضور القوي للمعيار الديني في الحكم بعظمة النبي محمد صلى الله عليه وسلم قد شمل جانبين: الجانب الأول: رسالة النبي: فقد أبرز المنصفون منذ البداية دور الرسالة المحمدية والدعوة إليها كمعيار للحكم بعظمته، بل إن رودى بارت يجعل ذلك الدور هو مكمن عظمته صلى الله عليه وسلم ، قائلاً(1): "muhammeds groesse und einmaligkeit zeigt sich eben darin, dass er sich immer der menschlichen gemeinschaft,der er angehoerte, verbunden fuehlte und auf sie einzuwirken bestrebt war.nachden er sich selber erst einmal zur erkenntnis der goettlichen wahrheit durchgerungen hatte, glaubte er sich verpflichtet, auch seine mekkanischen landsleute und darueber hinaus alle araber auf den weg des heils zufuehren." " تكمن عظمة النبي محمد وتفرده في نزوعه وتطلعه إلى العمل على مساعدة المجتمع الإنساني المحيط به، فبعد تلقيه وامتلاكه الحقيقة الإلهية، وجد لزاماً عليه الأخذ بيد قومه المكيين وكل العرب إلى طريق النجاة والخلاص." وتضيف كارين آرمسترونج karen armstrong بُعداً جديداً إلى دور الدين في الحكم على عظمة النبي صلى الله عليه وسلم ، بإسنادها أسباب عظمة محمد صلى الله عليه وسلم إلى العون الإلهي. تقول آرمسترو(٣): "divine aid seemed the only possible explanation for muhammad's extraordinary success" " كان العون الإلهي فيما يبدو هو التفسير الأوحد للنجاح الفذ الذي حققه محمد." ويؤكد إميل درمنغم emile dermenghem أن الدين إذا كان أساس تقدير عظمة الأنبياء فإن محمداً صلى الله عليه وسلم له خصوصية في ذلك؛ نظراً للحالة الدينية التي كان عليها العالم وجاء محمد صلى الله عليه وسلم لإصلاحها. يقول درمنغم(2): "prophets are sent into the world exactly as the great forces of nature, both beneficial and terrible in their effects. they are like the sun and the rain, the winter tempests in arabia that tear up the soil only to cover it again with a carpet of greenery in a few days' time. we must judge them by their fruits. the best fruits are hearts and minds that have been pacified, wills that have been strengthened, pains borne with patience, moral mounded to the pristine heavens. although alone, without moral or material support, opposed by the earthly spirit, prophets carry with them the secret of the greatest liberation; for it is better to disobey man than to disobey god before whom all are equal and should bow down; the spirit should be given preference over the letter. ignorance of all things save absolute truths, not so much illiterate as pure, natural and supernatural, freed from all prejudices, inspired either by the intelligence or the heart, a perfect prophet and simple soul stepped forth to explain to the learned what they had been discussing, to straighten out the tortuous roads in which the so-called wise men had lost their way. in listening to this prophet's inspired discourse and his parable suited to the period, men again felt themselves in contact with surrounding mysteries, humbled themselves before god and learned how to arrange their fleeting lives so as to either satisfy or disobey him, therein. finding a living rule such as neither the advice of philosophers nor heads of state could give.mahomet appeared on the scene at one of the darkest periods in all history, when all the civilizations, from merovingian gaul to india, were falling to ruin or were in a state of troubled gestation. " شأن الأنبياء في العالم كشأن قوى الطبيعة الكبيرة الهائلة النافعة، كشأن الشمس والمطر، كشأن عواصف الشتاء التي تهز الأرض وتثيرها لتتزين ببساط أخضر في بضعة أيام. يُقدَّر الأنبياء بما أسفرت عنه رسالاتهم من النتائج، وأحسن شهادة لهم ما يورثونه من راحة العقول وسكينة القلوب، وشدَّ العزائم والصبر على الشدائد، وشفاء الأخلاق المريضة، والأدعية، والصلوات التي تصَّعد في السماء. يأتى الأنبياء، وهم الذين لا حول لهم ولا معين، وهم الذين يقاتلهم الناس غروراً بِسِرَّ الحرية العليا، فيقولون خيرٌ للإنسان أن يعصى الناس من أن يعصى الله الذى يتساوى الجميع أمامه وحده، والذى يجب على الجميع أن يسجدوا له دون سواه، ويقولون إن المقصد والمعنى أفضل من اللفظ والمبنى. قام محمد، الأمَّىُّ الجاهل لكل ما لا يمت إلى العلم المطلق بصلةٍ، والنقىً، الفطرىً، الكامل، الطليق من فساد العقل والقلب، يدعو العلماء ليتفقهوا ما يقولون ويَُقوَّمُ ما يتيه فيه الحكماء من معوج الطرق. فالناس حين يستمعون لكلامه الموحى إليه به ولأمثاله الملائمة لروح الزمن( إن الله لا يستحيي أن يضرب مثلاً ما بعوضة فما فوقها) يعود إليهم سابق اتصالهم بالسر المحيط بهم، خاشعين لله عالمين كيف يسلكون أحد النجدين، مهتدين إلى مبدأً حىٍّ، ناطق، لا يجدون مثله في نصائح الفلاسفة وآراء أقطاب السياسة. وكان ظهور محمد في دور من أشد أدوار التاريخ ظلاماً، في دور كانت الحضارات التى قامت في البلدان الممتدة من بلاد الغول إلى بلاد الهند مضطربةُ متداعية." ويجعل جوستاف فون جرونباوم gustave e. von grunebaum الدين على رأس العوامل التي أدت إلى نجاح محمد صلى الله عليه وسلم وعظمته، قائلا:(١) "the reason for mohammed's success were many and varied, some purely political and some due to unexpected assistance of fortune. but the basic causes of his appeal to his contemporaries without which no political constellation, however favorable, and no stroke of luck, however dazzling, could have stabilized his work would seem to be these: 1.his was the most elaborate and the most consistent religious system over developed by an arab. 2.this system contained satisfactory answers to the problems exercising his compatriots and responded to the mood of the times. 3.it lifted the arabic-speakers world to the level of the other scripturaries. 4.by placing himself at the end of a long line of prophets that included adam, abraham, moses, and jesus, mohammed explained and legitimized his own advent, suggested the greater perfection and the finality of his version of the book of god and gave the arab nation metaphysical significance by connecting it at the most honorable and crucial stage with the great drama of god's self-revelation in history, making them the lord's tool in the propagation of the ultimate truth. 5.mohammed greatly increased the arabs' articulateness. 6.he taught the lesson that a community under god was more meaningful and thus of greater political promise than a community under tribal law. the impulse which compelled mohammed, the scion of a noble but impoverished branch of the quraish, to rise up to warn and teach his people was the overwhelming consciousness of the moral accountability of man and of the judgment, not far off, when the lord would hold each soul responsible, to reward or condemn according to its deserts. he was to admonish them before it was too late. their rate in the hereafter was at stake, their moral laxness their danger, their thoughtless idolatry their most awesome failing" كانت الأمور التي أدت إلى فوز محمد كثيرة ومتنوعة، بعضها سياسي بحت وبعضها راجع إلى عون غير متوقع ألقاه إلية الحظ. ونجد فيما يأتى الأسباب الأساسية التى أفضت إلى قبول معاصريه لدعوته، والتى بدونها لم يكن أى التفاف سياسي حوله مهما اجتمعت قلوبهم عليه، ولا أية لمسة من لمسات الحظ مهما كانت أضواؤها تبهر الأبصار، ليستطيع أن يبقى على عمله: 1.ان نظامه الديني كان أشد ما أنتجه عربى من نظم الديانات إحكاماً وأعظمها توافقاً وتماسكاً. 2.كان هذا النظام ينطوى على أجوبة مقنعة للمسائل التى كانت تشغل مواطنيه؛ كما كان يتجاوب وروح عصره 3.أنه رفع العالم الناطق بالعربية إلى مستوى العوالم الأخرى ذات الكتب المنزلة. 4.أن الوحى حين وضع محمداً في خاتمة سلسلة طويلة من الأنبياء منهم آدم وإبراهيم وموسى وعيسى، إنما قد سوَّغ ظهوره وفسَّره، كما أشار الوحى أيضاً إلى ما عليه الصورة التى أوردها لكتاب الله من الكمال الأعظم والسمة الختامية بالنسبة لغيره من الكتب المنزلة، كما منح الأمة العربية أهمية غيبية ميتافيزيقية بوصلها في أشرف المراحل وأدقها بتلك الدراما العظيمة، دراما وحى الله وتجلى ذاته في التاريخ، جاعلاً إياهم وسيلة الله في إشاعة الحق الأعلى. 5.زاد محمد كثيراً في فصاحة العرب. 6.علَّم الناس أن المجتمع في ظل الله أحفل بالمعانى، فهو من ثم أعمر بالآمال السياسية من مجتمع بظل القوانين القبلية. وكان الدافع لمحمد، وهو وريث فرع نبيل من قريش وإن مسه الفقر أن ينهض لينذر قومه ويعلمهم، هو الوعى الجارف بمسئولية الإنسان الخلقية وبالحساب القريب زمانه، يوم يجعل الله كل نفس مسئولة تثاب أو تعاقب حسبما قدمت يداها. لقد كان عليه أن ينذرهم قبل أن يفوت الأوان. فإن حظهم في الآخرة كان دائماً محفوفاً بالمخاطر، وتهاونهم الخلقي مصدر الخطر عليهم، وعبادتهم الحمقاء للأصنام أرهب نقيصة فيهم.