شهادة صدق من أبي جهل يا أيها الذين آمنوا اطمئنوا لدعوتكم، وثقوا في شرعتكم، وافتخروا بمنهجكم، وأعلنوا مبادئكم .. جهارًا نهارًا، لا تخشوا في الله لومة لائم؛ وإن غضب عليكم البغضاء، أو سخط عليكم السفهاء. النفعيون ينظرون إلى همتكم وإخلاصكم نظر الأسير الذليل إلى الحرية؛ فهم يحسدونكم على تلذذكم بالجهاد والعمل من أجل كلمة الحق، وهم العجزة المهزومون ألف هزيمة من داخلهم، المنكسرة نفوسهم أمام بريق المال، ورونق السلطة، وسوط العدو. *** هذا نفر من كبراء مشركي مكة خرجوا من بيوتهم ليلاً ـ في تخفٍ من قومهم ـ نحو بيت النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ليستمعوا وليتجسسوا أمر القرآن الذي اخْتَلفَ فيه الناسُ. أبو جهل وأبو سفيان والأخنس بن شريق؛ يعرفون أن محمدًا يقوم الليل، يقرأ القرآن . والفرصة الوحيدة للاستماع إليه تكون في هذا الوقت حيث تهدأ الرِجِلُ، وينام الناس، ولا يراهم السفهاء، فيظنوا بهم شرًا . *** انظر إلى هذا المشهد المضحك؛ يخرج السادة الثلاثة ـ تحت جناح الليل ـ من بيوتهم فيأخذ كل رجل منهم مجلسًا عند بيت النبوة، ليسمع القرآن، وكلٌ لا يعلم بمكان صاحبه، يمكثون ساعات طويلة يستمعون القرآن، وعلى مدار قطع كبير من الليل مع الهدوء والسكينة، فيتأملون نظْمَه، ويعجبون لفَصْله ووصله، ويحملقون في رسمه ووصفه، يبيتون على هذه الحال حتى يطلع الفجر، فيقومون؛ فيجمعهم طريقُ العودة إلى ديارهم، فيتلاومون تلاوم النصحاء ! فيقول بعضهم لبعض : " لا تَعُودُوا ، فَلَوْ رَآكُمْ بَعْضُ سُفَهَائِكُمْ لأوْقَعْتُمْ فِي نَفْسِهِ شَيْئًا " .. ثم ينصرفون على هذه النية، فما إن يأتي الليل، وتنام الأجسام؛ إلا وتستيقظ قرائحهم شوقًا في أخذ وجبة قرآنية جديدة عجيبة، فيخرج الواحد منهم إلى بيت النبوية كالعادة، فيظن أنه الوحيد الذي خرج، فيأخذ مكانه، ويقضي ليله يستمع إلى أجمل صوت، وأعظم كتاب، من أطهر بيت، وفي أصفى وقت ـ فلا يقوم من مجلسه إلا عند الفجر، فيجمعه الطريق مرة أخرى بإخوانه؛ فيقول بعضهم لبعض مثل ما قالوا أول مرة، وهكذا يعودوا ويقولوا، حتى كانت ليلة؛ قال بعضهم لِبَعْضِ: "لا نَبْرَحُ حَتّى نَتَعَاهَدَ ألا نَعُودَ !! " .. يا لله ! كأن في القرآن قوة جاذبة لا تُقاوم، أو كأنما يجري القرآنُ في عروقهم كالخمر، فباتوا وقد ثملوا وأدمونوه ! وهم أهل الشعر والبلاغة، والنثر والخطابة، وقد أوردت كتبُ السير أشعارًا لأبي جهل وأبي سفيان . لقد تذوقوا هذا القرآن تذوق الأديب والناقد الأريب. وعجبوا له، كما عجب له من بعدهم أساطين العربية، وأباطره الفكر، وصناديد الفلسفة *** أراد الأخنسُ بن شريق؛ أن يعرف سر هذا اللغز، وتفسير فعل القرآنُ بهم، فخرج الرجلُ حتى أتى أبا سفيان، فَقَالَ : أَخْبِرْنِي يَا أَبَا حَنْظَلَةَ عَنْ رَأْيِك فِيمَا سَمِعْت مِنْ مُحَمّدٍ ؟ فَقَالَ : يَا أَبَا ثَعْلَبَةَ، وَاَللّهِ لَقَدْ سَمِعْت أَشْيَاءَ أَعْرِفُهَا وَأَعْرِفُ مَا يُرَادُ بِهَا ، وَسَمِعْتُ أَشْيَاءَ مَا عَرَفْتُ مَعْنَاهَا ! قَالَ الأخْنَسُ : وَأَنَا الّذِي حَلَفْت بِهِ كَذَلِكَ ! ثُمّ خَرَجَ مِنْ عِنْدِهِ حَتّى أَتَى أَبَا جَهْلٍ، فَدَخَلَ عَلَيْهِ بَيْتَهُ، فَقَالَ : يَا أَبَا الْحَكَمِ، مَا رَأْيُك فِيمَا سَمِعْتَ مِنْ مُحَمّدٍ ؟ فَقَالَ : مَاذَا سَمِعْتُ .. تَنَازَعْنَا نَحْنُ وَبَنُو عَبْدِ مَنَافٍ الشّرَفَ؛ أَطْعَمُوا فَأَطْعَمْنَا ، وَحَمَلُوا فَحَمَلْنَا ، وَأَعْطَوْا فَأَعْطَيْنَا، حَتّى إذَا تَجَاذَيْنَا عَلَى الرّكْبِ، وَكُنّا كَفَرَسَيْ رِهَانٍ؛ قَالُوا : مِنّا نَبِيّ يَأْتِيهِ الْوَحْيُ مِنْ السّمَاءِ؛ فَمَتَى نُدْرِكُ مِثْلَ هَذِهِ ؟ وَاَللّهِ لا نُؤْمِنُ بِهِ أَبَدًا ولانُصَدّقُهُ !!! فَقَامَ عَنْهُ الأَخْنَسُ، وَتَرَكَهُ[1] . *** أراد الأخنسُ أن يفهم تفسير ما حدث لهم، من عشق لا إرادي لسماع القرآن، فهداه بحثه إلى سماع الاعتراف الصارخ الواضح الصادع من فرعون هذه الأمة. وكانت الحقيقة؛ أن محمدًا ـ صلى الله عليه وسلم ـ هو النبي الصادق، وكتابه هو كلام الله حقًا. وكانت تبريرات أبي جهل سفِهةٌ ضحلةٌ؛ قائمة على التعصب الأعمى للقبائل والعائلات، بُغية الحفاظ على السلطة والوجاهة بين الناس . وهذه الأباطيل والأضاليل هي التي صرفته عن سواء السبيل. {قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لاَ يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللّهِ يَجْحَدُونَ }[الأنعام:33] *** هكذا جُلُ أصحابِ السلطةِ والمصالحِ الشخصيةِ؛ ترى كثيرًا منهم يتولون عن منهج الله الحق خوفًا على مصلحة دنيوية عاجلة، أو تجارة زائلة، أو وجاهة باطلة، أو سلطة فانية . هذه هي شخصية الرجل النفعي .. إن كانت الدعوة لا تضر مصالحه؛ فهو إذًا الرجلُ المتشكك المتردد، الذي يترقب دوران دورة الدعوة ويخشى أن تدور على مصلحته الشخصية . وإذا كانت الدعوة تخالف مصلحته الشخصية وتعارض أهوائه المريضة العبثية، فهو منها براء، وهو العدو اللدود لها، فلا يزال يجاهدها بلسانه ويده، ولا يزال يبرر ويحلل تحليلات سطحية فاسدة من أجل أن يجعل مصلحته الشخصية الباطلة فوق المصلحة العامة الحقة . *** التنافس الدنيوي إذا اتسعت مساحته؛ لا يأكل إلا من مساحة الدين . دائمًا نرى الطغاة يبررون ظلمهم للدعوة على أسس مادية تجارية . استكبار الباطل، هو الاستخذاء في مقابل المحافظة على عرض ذائل ! دائمًا نرى المتعصبين للعائلات أقل المتعصبين للحق والدين . بعض الناس يقدس عائلته وعاداتها وأعرفاها تقديسًا يربو نحو العبادة ! ينبغي أن يَخْلُصَ المرءُ لدينه، وأن يعلي من وشيجة الدين، ويجعله فوق آصرة الدم، فإذا تباينت مصلحة العائلة ومصلحة الدين؛ فليقدم المصلحة التي تنقذه من التحريق بالنار يوم القيامة . *** ومضة إن ملك الموت لا يفرق بين عائلة وعائلة في صفة الدخول وقبض الأرواح، بيد أنَّ العاقبة للتقوى . حادثة مر رجلٌ على قبرين متجاورين متهدمين الأول لوزير حسيب والثاني لفقير غريب؛ قد اختلط عظامهما، فلم يستطع أحدٌ أن يفرق بين عظام الوزير التي تنعمت، وعظام الفقير التي ذاقت الحاجة والعوز ألوانًا وأشكالاً .. توصية عملية : هل لك في تجارة مع الله ؟ ـ افعل كما كان يفعل الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ في بيته. أسْمِعْ بهذا القرآن وتهجدْ، وأنذر به أحفاد الفراعنة ! ---------------------------------------- [1] ابن هشام : 2 / 156، 157.