اشتداد الحصار ثم انصراف الأحزاب لقد كان وقع الخيانة اليهودية شديد على المسلمين، إذ بخاينة قريظة صار المسلمون بين عدوين، عدو وَثَنِي من خارج المدينة يتحين الفرصة لاقتحام الخندق، وعدو داخلي خائن، نَقضَ العهد، يتربص بالمسلمين الدوائر .. وَعَظُمَ عِنْدَ ذَلِكَ الْبَلاءُ، وَاشْتَدّت المحنة، وظنت العرب أن الإسلام قد حان قطافه، وظَنّ الْمسلمون كُلّ ظَنّ، وَنَجَمَ النّفَاقُ، واعتاص الإيمان، وكثر الشقاق، واشتد الخوف والفزع . وقال المنافقون : "كَانَ مُحَمّدٌ يَعِدُنَا أَنْ نَأْكُلَ كُنُوزَ كِسْرَى وَقَيْصَرَ ، وَأَحَدُنَا الْيَوْمَ لا يَأْمَنُ عَلَى نَفْسِهِ أَنْ يَذْهَبَ إلَى الْغَائِطِ "[1] . وقَالَ أَوْسُ بْنُ قَيْظِيّ المنافق : " يَا رَسُولَ اللّهِ إنّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ مِنْ الْعَدُوّ [ وَذَلِكَ عَنْ مَلأ مِنْ رِجَالِ قَوْمِهِ] فَأْذَنْ لَنَا أَنْ نَخْرُجَ فَنَرْجِعَ إلَى دَارِنَا ، فَإِنّهَا خَارِجٌ مِنْ الْمَدِينَةِ " .. وما هي بعورة إن يريدون إلا فرارًا[2] . ويتكفل القرآن الكريم بتصوير هذه الحال السيئة، بكل دقة، فيقول الله تعالى : " إِذْ جَاؤُوكُم مِّن فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنكُمْ، وَإِذْ زَاغَتْ الأبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا{10} هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالاً شَدِيداً{11} ......." وفي وبئة هذه الحمئة، وفي شدة هذه المعمعة؛ يُقْعقعُ صوت ُالنبي – صلى الله عليه وسلم - كالهيثم الهصور : "اللّهُ أَكْبَرُ ! أَبْشِرُوا يَا مَعْشَرَ الْمُسْلِمِينَ "[3]!!! الله أكبر من اليهود وأسيادهم الوثنيين عبّاد الحجارة ! الله أكبر كل من حِلفٍ تحالف على الخير، والله أكبر من كل حزب تَحَزَبَ على الإسلام . الله أكبر! وأبشروا يا معشر المسلمين، فقد كتب الله الغلبة لرسوله وللمؤمنين، فلَيَبْلُغنَّ هذا الدينُ ما بلغ الليل والنار، وإن مُلك هذه الأمة سيعود ويقود ! وهكذا يهتف المسلمُ الصادق في الناس في أيامنا هذه التي ساد فيها العدو وغلب : "الله أكبر " ، فالمسلم لا يخشى إلا الله ولا يخشى في الله لومة لائم ... " أَبْشِرُوا يَا مَعْشَرَ الْمُسْلِمِينَ " .. فالمؤمن بعثه الله مبشرًا بالنصر والتمكين، لا منفرًا ولا معسرًا ؟ خلصاء الأنبياء في مثل هذا الميدان : وشرَعَ الرسول – صلى الله عليه وسلم - يتابع أخبار بني قريظة من حين إلى آخربعدما نقضوا العهد، فلا يأمن أن ينقضّوا على ضعفاء المسلمين أو أن يُعملوا النهب والسلب في المدينة، وقد عهدهم أهل غدر وخيانة . فأرسلَ الزبيرَ يخبره بخبرهم . وقد قَالَ رَسُولُ اللَّهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَوْمَ الأحْزَابِ : "مَنْ يَأْتِينَا بِخَبَرِ الْقَوْمِ ؟ "، يقصد قريظة ، فَقَالَ الزُّبَيْرُ: أَنَا.. ثُمَّ قَالَ : "مَنْ يَأْتِينَا بِخَبَرِ الْقَوْمِ ؟ ".. فَقَالَ الزُّبَيْرُ: أَنَا.. ثُمَّ قَالَ : " مَنْ يَأْتِينَا بِخَبَرِ الْقَوْمِ ؟ " .. فَقَالَ الزُّبَيْرُ: أَنَا .. فقَالَ النبي – صلى الله عليه وسلم -:" إِنَّ لِكُلِّ نَبِيٍّ حَوَارِيَّ، وَإِنَّ حَوَارِيَّ الزُّبَيْرُ"[4] . والحواريون هم خلصاء الأنبياء وأنصارهم، قيل لناصر نبيه حَوارِيُّ، إِذا بالغ في نُصْرَتِه تشبيهاً بأنصار عيسى عليه السلام . وعن عبد الله بن الزبير، قال :كُنْتُ يَوْمَ الأحْزَابِ جُعِلْتُ أَنَا وَعُمَرُ بْنُ أَبِي سَلَمَةَ فِي النِّسَاءِ، فَنَظَرْتُ، فَإِذَا أَنَا بِالزُّبَيْرِ عَلَى فَرَسِهِ يَخْتَلِفُ إِلَى بَنِي قُرَيْظَةَ مَرَّتَيْنِ أَوْ ثلاثًا، فَلَمَّا رَجَعْتُ قُلْتُ: يَا أَبَتِ رَأَيْتُكَ تَخْتَلِفُ.. قَالَ : أَوَهَلْ رَأَيْتَنِي يَا بُنَيَّ ؟ قُلْتُ: نَعَمْ . قَالَ :كَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ : "مَنْ يَأْتِ بَنِي قُرَيْظَةَ فَيَأْتِينِي بِخَبَرِهِمْ ؟ "، فَانْطَلَقْتُ، فَلَمَّا رَجَعْتُ، جَمَعَ لِي رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَبَوَيْهِ فَقَالَ: "فِدَاكَ أَبِي وَأُمِّي "[5]! في مثل هذه الميادين يظهر الحواريون وخلصاء النبي – صلى الله عليه وسلم -، ليس في ميدان الكلام والجدل، إنما في ميدان الجهاد والعمل . ومن أجل هذه الخدمة الجسيمة التي أداها الزبير وقيامه على هذا الثغر العظيم ومتابعة هذه الثُّلمة الخطيرة؛ نال الزبير هذا الوسام العظيم : " إِنَّ لِكُلِّ نَبِيٍّ حَوَارِيَّ، وَإِنَّ حَوَارِيَّ الزُّبَيْرُ"، "فِدَاكَ أَبِي وَأُمِّي " !!! فأحرى بكل مسلم أن يدرك ما أقامه الله عليه من ثغور المسلمين. ولا يستقل دوره، ولا يَقُلْ: إني فردٌ، بل ليقلْ : إني على ثغر. وهكذا كان الأبناء يرون مكان الآباء .. الإبن " عبد الله " في الحصن يلحظ أباه " الزبير " يتردد بين الشمال حيث الخندق والجنوب حيث قريظة، يتابع خبر القوم، ويترصد للمسلمين من أخبار اليهود، هكذا كان الآباء يملئون إعجاب الأبناء، وهكذا نشأ الأبناء في بيئة الجهاد والعمل لهذا الدين. هذه هي أعمال الآباء واهتماماتهم في صدر الإسلام، فما هي اهتمامات الآباء في زماننا، وكيف ينظر الأبناء إلى آبائهم ؟ لا جرم أن فساد الشباب في زماننا يرجع – في أغلب الأحيان - إلى فساد الآباء أو إلى تخلي الآباء عن دورهم في التربية الحسنة، أو نشوء الأبناء في بيئة فاسدة، والأرض الفاسدة لا تنبت إلا فاسدًا . وَاَللّهِ لا نُعْطِيهِمْ إلا السّيْفَ ! ولَمّا اشْتَدّ عَلَى المسلمين الحصار ؛ بَعَثَ رَسُولُ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ- إلَى عُيَيْنَةَ بْنِ حِصْنِ ، وَإِلَى الْحَارِثِ بْنِ عَوْفِ، وَهُمَا قَائِدَا غَطَفَانَ ، فتفاوض معهما على على عودة غطفان إلى ديارها، وترك حصار المدينة، والتخذيل بين جيوش التحالف، مقابل أن يمنحه رسول الله ثُلُثَ ثِمَارِ الْمَدِينَةِ، فَجَرَى بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمَا الصّلْحُ، وأُحضرت الصحيفة والدواة؛ ليكتب عثمان بن عفان- رضي الله عنه- الصلح، وَلَمْ تَقَعْ الشّهَادَةُ وَلا عَزِيمَةُ الصّلْحِ، إلا الْمُرَاوَضَةُ فِي ذَلِكَ . فَلَمّا أَرَادَ رَسُولُ اللّهِ- صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ- أَنْ يَفْعَلَ بَعَثَ إلَى سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ وَسَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ ، فَذَكَرَ ذَلِكَ لَهُمَا ، وَاسْتَشَارَهُمَا فِيهِ[6] . فقالا له: يَا رَسُولَ اللّهِ .. أَمْرًا تحِبّهُ فَنَصْنَعُهُ ؟ أَمْ شَيْئًا أَمَرَك اللّهُ بِهِ لا بُدّ لَنَا مِنْ الْعَمَلِ بِهِ؟ أَمْ شَيْئًا تَصْنَعُهُ لَنَا ؟ قَالَ : "بَلْ شَيْءٌ أَصْنَعُهُ لَكُمْ ، وَاَللّهِ مَا أَصْنَعُ ذَلِكَ إلا لأنّنِي رَأَيْت الْعَرَبَ قَدْ رَمَتْكُمْ عَنْ قَوْسٍ وَاحِدَةٍ، وَكَالَبُوكُمْ مِنْ كُلّ جَانِبٍ، فَأَرَدْت أَنْ أَكْسِرَ عَنْكُمْ مِنْ شَوْكَتِهِمْ إلَى أَمْرٍ مَا".. فَقَالَ لَهُ سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ : يَا رَسُولَ اللّهِ ، قَدْ كُنّا نَحْنُ وَهَؤُلاءِ الْقَوْمُ عَلَى الشّرْكِ بِاَللّهِ وَعِبَادَةِ الأوْثَانِ، لا نَعْبُدُ اللّهَ وَلا نَعْرِفُهُ، وَهُمْ لا يَطْمَعُونَ أَنْ يَأْكُلُوا مِنْهَا تَمْرَةً إلا قِرًى [ أي ضيافة ]، أَوْ بَيْعًا، أَفَحِينَ أَكْرَمْنَا اللّهُ بِالإسْلامِ وَهَدَانَا لَهُ وَأَعَزّنَا بِك وَبِهِ، نُعْطِيهِمْ أَمْوَالَنَا ؟ ! وَاَللّهِ، مَا لَنَا بِهَذَا مِنْ حَاجَةٍ، وَاَللّهِ لا نُعْطِيهِمْ إلا السّيْفَ، حَتّى يَحْكُمَ اللّهُ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ !! فقَالَ رَسُولُ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ-:" فَأَنْتَ وَذَاكَ " . فَتَنَاوَلَ سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ الوثيقة فَمَحَا مَا فِيهَا مِنْ الْكِتَابِ، ثُمّ قَالَ: لِيَجْهَدُوا عَلَيْنَا[7] . وفي هذا المشهد العجيب الذي نزل فيه رسول الله – صلى الله عليه وسلم – على رأي جنده رغم تباين رأيه مع رأيهم؛ نرى أنموذج القائد الحكيم الذي عرف دوافع كل جيش من جيوش الأحزاب، فمنهم من جاء طلبًا للثأر، ومنهم من يحارب الإسلام عن عقيدة، ومنهم من يُحارب ليأكل ويسلب، وهؤلاء كغطفان، فأراد رسول الله – صلى الله عليه وسلم – أن يدفع شر هؤلاء بلعاعة من الدنيا، وأن يستخدمهم كأدة للتخذيل وبث الفرقة بين جيوش الأحزاب، فهو لا زال يفكر في وسيلة ناجعة للتخذيل والتفريق بين العدو، ولكن الله اختار وسيلة أخرى ليست جيشًا بل فردًا هو نعيم بن مسعود، وسنعرفه في فقرة تالية. وفي هذا المشهد نرى الأريحية والسهولة في اتخاذ القرار بين القائد وأهل الحل والعقد، إذ رأيتَ أن القائد اتخذ قرارًا صحيحًا لدفع الأحزاب، بينما رأى أهل الحل والعقد رأيًا هو الأنسب لطبيعة الأنصار القتالية، فنزل القائد على رأيهم دون تعسف أو استئثار بالرأي، وهو من هو، هو النبي المصطفى، الذي لا ينطق عن الهوى؛ ليقرر أن الشورى فوق الجميع، مفازةً ونجاةً للكبير والصغير والشيخ والرضيع. وانظر إلى إباء هؤلاء الأنصار رضي الله عنهم، ورفضهم الضيم والذل والدون.. هؤلاء البواسل يضربون المثل للأمة ألا ترضى بالمذلة، ويضربون المثل القارص لهؤلاء الذين رضوا أن يكونوا في ركاب العدو، وقد باعوا أوطانهم وأعراضهم بثمن بخس، كهؤلاء الذين يُفاوضون على مقدسات المسلمين من أجل حفنة من الدولارات يأكلونها من العدو ويخرجون للأمة برداء الحكماء الحصفاء، وهم والله الجهلاء السخفاء الخلعاء وهيهات! لا يدفع الضَّيمَ الذَّليلُ، ولا يُدْرَك المجدَ الخائنُ العميلُ ! حركة ( نُعَيْمٍ ) فِي تفريق جيش التحالف: وفي ظل هذه الظروف الشديدة القاسية، يأتي النصر من حيث لا يحتسب المتقون. فقد أسلم نُعَيْمَ بْنَ مَسْعُودِ أحد زعماء غَطَفَانَ !! كانوا بالأمس يفاوضهم رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ على الرجوع إلى ديارهم فيرفضون إلا الرجوع بنصف ثمار المدنية .. والآن ساقهم الله إلى الإسلام من غير عناء ولا تفاوض ولا كلفة ! إنها قدرة الله ! فأَتَى نُعَيْم رَسُولَ اللّهِ- صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ – فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللّهِ، إنّي قَدْ أَسْلَمْت ، وَإِنّ قَوْمِي لَمْ يَعْلَمُوا بِإِسْلامِي ، فَمُرْنِي بِمَا شِئْتّ! فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - : "إنّمَا أَنْت فِينَا رَجُلٌ وَاحِدٌ ، فَخَذّلْ عَنّا إنْ اسْتَطَعْت ، فَإِنّ الْحَرْبَ خُدْعَةٌ " . فَخَرَجَ نُعَيْمُ بْنُ مَسْعُودٍ حَتّى أَتَى بَنِي قُرَيْظَةَ ، وَكَانَ لَهُمْ نَدِيمًا فِي الْجَاهِلِيّةِ فَقَالَ: يَا بَنِي قُرَيْظَةَ، قَدْ عَرَفْتُمْ وُدّي إيّاكُمْ، وَخَاصّةً مَا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ . قَالُوا : صَدَقْت ، لَسْت عِنْدَنَا بِمُتّهَمٍ . فَقَالَ لَهُمْ: إنّ قُرَيْشًا وَغَطَفَانَ لَيْسُوا كَأَنْتُمْ، الْبَلَدُ بَلَدُكُمْ فِيهِ أَمْوَالُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَنِسَاؤُكُمْ لا تَقْدِرُونَ عَلَى أَنْ تَحَوّلُوا مِنْهُ إلَى غَيْرِهِ ، وَإِنّ قُرَيْشًا وَغَطَفَانَ قَدْ جَاءُوا لِحَرْبِ مُحَمّدٍ وَأَصْحَابِهِ، وَقَدْ ظَاهَرْتُمُوهُمْ عَلَيْهِ وَبَلَدُهُمْ وَأَمْوَالُهُمْ وَنِسَاؤُهُمْ بِغَيْرِهِ، فَلَيْسُوا كَأَنْتُمْ فَإِنْ رَأَوْا نُهْزَةً أَصَابُوهَا ، وَإِنْ كَانَ غَيْرَ ذَلِكَ لَحِقُوا بِبِلادِهِمْ وَخَلّوْا بَيْنَكُمْ وبين محمد.. فَلا تُقَاتِلُوا مَعَ الْقَوْمِ حَتّى تَأْخُذُوا مِنْهُمْ رَهْنًا مِنْ أَشْرَافِهِمْ يَكُونُونَ بِأَيْدِيكُمْ ثِقَةً لَكُمْ، عَلَى أَنْ تُقَاتِلُوا مَعَهُمْ مُحَمّدًا حَتّى تُنَاجِزُوهُ. فَقَالُوا لَهُ: لَقَدْ أَشَرْت بِالرّأْيِ [8]. ثُمّ خَرَجَ حَتّى أَتَى قُرَيْشًا ، فَقَالَ لأبِي سُفْيَانَ بْنِ حَرْبٍ وَمَنْ مَعَهُ مِنْ رِجَالِ قُرَيْشٍ : قَدْ عَرَفْتُمْ وُدّي لَكُمْ وَفِرَاقِي مُحَمّدًا ، وَإِنّهُ قَدْ بَلَغَنِي أَمْرٌ قَدْ رَأَيْت عَلَيّ حَقّا أَنْ أُبْلِغَكُمُوهُ نُصْحًا لَكُمْ فَاكْتُمُوا عَنّي .. فَقَالُوا : نَفْعَلُ . قَالَ: تَعْلَمُوا أَنّ مَعْشَرَ يَهُودَ قَدْ نَدِمُوا عَلَى مَا صَنَعُوا فِيمَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مُحَمّدٍ، وَقَدْ أَرْسَلُوا إلَيْهِ إنّا قَدْ نَدِمْنَا عَلَى مَا فَعَلْنَا ، ، فَهَلْ يُرْضِيك أَنْ نَأْخُذَ لَك مِنْ الْقَبِيلَتَيْنِ مِنْ قُرَيْشٍ وَغَطَفَانَ رجالاً مِنْ أَشْرَافِهِمْ فَنُعْطِيكَهُمْ فَتَضْرِبَ أَعْنَاقَهُمْ ثُمّ نَكُونُ مَعَك عَلَى مَنْ بَقِيَ مِنْهُمْ حَتّى نَسْتَأْصِلَهُمْ ؟ فَأَرْسَلَ إلَيْهِمْ أَنْ نَعَمْ . فَإِنْ بَعَثَتْ إلَيْكُمْ يَهُودُ يَلْتَمِسُونَ مِنْكُمْ رَهْنًا مِنْ رِجَالِكُمْ فلا تَدْفَعُوا إلَيْهِمْ مِنْكُمْ رَجُلاً وَاحِدًا[9]. ثُمّ خَرَجَ حَتّى أَتَى غَطَفَانَ ، فَقَالَ: يَا مَعْشَرَ غَطَفَانَ ، إنّكُمْ أَصْلِي وَعَشِيرَتِي ، وَأَحَبّ النّاسِ إلَيّ ولا أَرَاكُمْ تَتّهِمُونِي .. قَالُوا : صَدَقْت ، مَا أَنْتَ عِنْدَنَا بِمُتّهَمٍ . قَالَ : فَاكْتُمُوا عَنّي ؛ قَالُوا : نَفْعَلُ فَمَا أَمْرُك ؟ ثُمّ قَالَ لَهُمْ مِثْلَ مَا قَالَ لِقُرَيْشِ وَحَذّرَهُمْ مَا حَذّرَهُمْ [10] . وصدق رسول الله – صلى الله عليه وسلم – :"الحرب خدعة"[11]، أي قد تنقلب دفة القتال بحيلة أو خدعة، والحيلة تُجزىء ما لا تُجزىء القوة، وهو يشير أيضًا إلى جواز الكذب على العدو وإيقاعه في الفخ والاحتيال عليه بحيلة . وعلى أثر حيلة "نُعَيْمَ بْنَ مَسْعُودِ "؛ انخذلت جيوش التحالف، ودبت الفرقة بينهم، وهو الخير للمسلمين . فإذا انتفت الثقة من جماعة انتفت على أثر ذلك قوتهم وذهبت ريحهم. وبعث الله الريح والملائكة على جيوش التحالف فزاد ضعفهم، واشتدت رغبتهم في الرحيل، وعزموا على ترك المدينة، وفي ذلك يقول الله تعالى – ممتنًا على عباده - : ]يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَجُنُوداً لَّمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيراً[[ الأحزاب : 9]. وهنا نرى العناية الإلهية، ويد الله تحرك رحى الحروب، ويُرسل سبحانه الريح والشواظ على من يشاء فلا ينتصر أحد إلا بإذنه، ويُؤتي الملك من يشاء وينزع الملك ممن يشاء .. إن هذه المعية الربانية لا تُستنزل إلا بالتقوى والتضرع إلى الله، كما في بدر، "إذ تستغيثون ربكم فاستجاب لكم" . وفي ذلك أيضًا درسٌ للأمة كلها؛ إذا عرفت ربها في الرخاء عرفها الله في الشدة . ثم أنتَ ترى في هذا المشهد أهميةَ " دور الفرد المسلم " في خدمة الإسلام، فهذا نُعيم وهو رجل واحد جنَّب الأمة الإسلامية شرًا مستطيرًا .. إن لنعيم – رضي الله عنه – فضلاً ويدًا على كل مسلم منذ يوم الأحزاب وحتى قيام الساعة ! هذه هي حركة نعيم فما هي حركتك أنت ؟! انصراف الأحزاب : ولَمّا انْتَهَى إلَى رَسُولِ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ- مَا اخْتَلَفَ مِنْ أَمْرِهِمْ ،وَمَا فَرّقَ اللّهُ مِنْ جَمَاعَتِهِمْ، دَعَا حُذَيْفَةَ بْنَ الْيَمَانِ ، فَبَعَثَهُ إلَيْهِمْ لِيَنْظُرَ مَا فَعَلَ الْقَوْمُ لَيْلاً . قَالَ حُذَيْفَةُ : وَاَللّهِ لَقَدْ رَأَيْتُنَا مَعَ رَسُولِ اللّهِ -صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ -بِالْخَنْدَقِ وَصَلّى رَسُولُ اللّهِ -صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ -هُوِيّا مِنْ اللّيْلِ ثُمّ الْتَفَتَ إلَيْنَا، فَقَالَ : "مَنْ رَجُلٌ يَقُومُ فَيَنْظُرُ لَنَا مَا فَعَلَ الْقَوْمُ، ثُمّ يَرْجِعُ، أَسْأَلُ اللّهَ تَعَالَى أَنْ يَكُونَ رَفِيقِي فِي الْجَنّةِ ؟" .. فَمَا قَامَ رَجُلٌ مِنْ الْقَوْمِ ، مِنْ شِدّةِ الْخَوْفِ، وَشِدّةِ الْجُوعِ، وَشِدّةِ الْبَرْدِ ..! فَلَمّا لَمْ يَقُمْ أَحَدٌ ، دَعَانِي رَسُولُ اللّهِ -صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ -فَلَمْ يَكُنْ لِي بُدّ مِنْ الْقِيَامِ حِينَ دَعَانِي ؛ فَقَالَ : "يَا حُذَيْفَةُ اذْهَبْ فَادْخُلْ فِي الْقَوْمِ ، فَانْظُرْ مَاذَا يَصْنَعُونَ، وَلا تُحْدِثَنّ شَيْئًا حَتّى تَأْتِيَنَا ." قَالَ : فَذَهَبْت فَدَخَلْتُ فِي الْقَوْمِ، وَالرّيحُ وَجُنُودُ اللّهِ تَفْعَلُ بِهِمْ مَا تَفْعَلُ؛ لا تُقِرّ لَهُمْ قِدْرًا وَلا نَارًا وَلا بِنَاءً . فَقَامَ أَبُو سُفْيَانَ فَقَالَ : يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ : لِيَنْظُرْ امْرُؤٌ مَنْ جَلِيسُهُ ؟ قَالَ حُذَيْفَةُ: فَأَخَذْت بِيَدِ الرّجُلِ الّذِي كَانَ إلَى جَنْبِي ، فَقُلْت : مَنْ أَنْتَ ؟ قَالَ : فُلانُ بْنُ فُلانٍ! ثُمّ قَالَ أَبُو سُفْيَانَ : يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ ، إنّكُمْ وَاَللّهِ مَا أَصْبَحْتُمْ بِدَارِ مُقَامٍ ! لَقَدْ هَلَكَ الْكُرَاعُ وَالْخُفّ[12]، وَأَخْلَفَتْنَا بَنُو قُرَيْظَةَ ، وَبَلَغَنَا عَنْهُمْ الّذِي نَكْرَهُ، وَلَقِينَا مِنْ شِدّةِ الرّيحِ مَا تَرَوْنَ، مَا تَطْمَئِنّ لَنَا قِدْرٌ، وَلا تَقُومُ لَنَا نَارٌ، وَلا يَسْتَمْسِكُ لَنَا بِنَاءٌ، فَارْتَحِلُوا فَإِنّي مُرْتَحِلٌ، ثُمّ قَامَ إلَى جَمَلِهِ وَهُوَ مَعْقُولٌ فَجَلَسَ عَلَيْهِ ثُمّ ضَرَبَهُ فَوَثَبَ بِهِ عَلَى ثَلَاثٍ، فَوَاَللّهِ مَا أَطْلَقَ عِقَالَهُ إلا وَهُوَ قَائِمٌ، وَلَوْلا عَهْدُ رَسُولِ اللّهِ -صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ -إلَيّ " أَنْ لا تُحْدِثَ شَيْئًا حَتّى تَأْتِيَنِي " لَقَتَلْته بِسَهْمِ . ورَجَعْتُ إلَى رَسُولِ اللّهِ -صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ- وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلّي فِي مِرْطٍ[13] لِبَعْضِ نِسَائِهِ مَرَاجِلُ [ والمراجل هو الثياب اليمني ] . فَلَمّا رَآنِي أَدْخَلَنِي إلَى رِجْلَيْهِ، وَطَرَحَ عَلَيّ طَرَفَ الْمِرْطِ، ثُمّ رَكَعَ وَسَجَدَ وَإِنّي لِفِيهِ، فَلَمّا سَلّمَ؛ أَخْبَرْته الْخَبَرَ . وَسَمِعَتْ غَطَفَانُ بِمَا فَعَلَتْ قُرَيْشٌ ، فَانْشَمَرُوا رَاجِعِينَ إلَى بِلادِهِمْ[14]. ويُعبر هذا المشهد عن مدى المعاناة التي كان الصحابه يعانونها، إذ لما دعاهم رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ إلى ترصد الأحزاب، على أن يكون الراصد رفيق رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ في الجنة - فَمَا قَامَ رَجُلٌ مِنْ الصحابة ، "مِنْ شِدّةِ الْخَوْفِ، وَشِدّةِ الْجُوعِ، وَشِدّةِ الْبَرْدِ" ..! لقد كان الواحد منهم يُكلَفُ بحفر ثلاثة أمتار مكعبة يوميًا من الخندق، أيام الحفر، ثم هو يكابد شدة البرد، وشدة الجوع، وشدة الحرب، وشدة الحصار .. لقد بلغ التعب منهم مبلغًا عظيمًا. وفي هذا الجو نرى رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قائمًا يصلى قانتًا يتضرع لربه، فلما لم يقم لأمره هذا رجلٌ، وجّهَ التكليف صوب حذيفة، قال حذيفة:" فَلَمْ يَكُنْ لِي بُدّ مِنْ الْقِيَامِ حِينَ دَعَانِي " .. وكذلك الجندي المسلم لا ينفك عن إجابة القائد إذا كلفه، ولا بد له من القيام للأمر إذا دعاه القائد، فطاعته واجبة، ومن أطاع الأمير المسلم في معروف فقد أطاع الله . وكان نص التكليف الذي حفظه حذيفة عن قائده عن ظهر قلب :"يَا حُذَيْفَةُ اذْهَبْ فَادْخُلْ فِي الْقَوْمِ ، فَانْظُرْ مَاذَا يَصْنَعُونَ، وَلا تُحْدِثَنّ شَيْئًا حَتّى تَأْتِيَنَا ." فاستجاب الجندي لأمر قائده استجابة حَرفية، فذهب، ودخل في جيش المشركين، ونظر ما يصنعون، وكان في استطاعته أن يقتل أبا سفيان؛ ولكنه وعى التكليف جيدًا ولا زال صوت رسول الله يتردد في أذنيه :"َلا تُحْدِثَنّ شَيْئًا " .. قال حذيفة : " وَلَوْلا عَهْدُ رَسُولِ اللّهِ -صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ -إلَيّ أَنْ لا تُحْدِثَ شَيْئًا حَتّى تَأْتِيَنِي لَقَتَلْته بِسَهْمِ" . وانظر – أخي – لقد سمَّى التكليف عهدًا، فقال : " وَلَوْلا عَهْدُ رسول الله – صلى الله عليه وسلم - إليّ"، إنه يُعلي من شأن تعليمات الأمير، فليست تكليفات الأمام كتكليفات بعضنا لبعض في النصح والبر ونحو ذلك، إنها عهدًا وعقدًا وميثاقًا، فعلاقة القائد بجنده والأمير بجيشه، علاقة الرأس من الجسد، وما بينهما من وشيجة الإيمان أقوى من العروة الوثقى. ولقد كان اختيار رسول الله – صلى الله عليه وسلم – اختيارًا موفقًا .. إن القائد يعرف جنوده وإمكاناتهم ومستويات نبوغهم وذكاءهم .. فتأمل مثلاً، لما َقَامَ أَبُو سُفْيَانَ فَقَالَ : يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ : لِيَنْظُرْ امْرُؤٌ مَنْ جَلِيسُهُ ؟ قَالَ حُذَيْفَةُ: فَأَخَذْت بِيَدِ الرّجُلِ الّذِي كَانَ إلَى جَنْبِي ، فَقُلْت : مَنْ أَنْتَ ؟ قَالَ : فُلانُ بْنُ فُلانٍ! لقد تصرف حذيفة بحكمة في السرعة، وسرعة في الحكمة، وبادر هو بالسؤال عن جليسه، فانشغل الجليس بتعريف نفسه؛ فلم يفتضح أمر حذيفة؛ لقد كان المسلم دومًا أريبًا لبيبًا . شُكر الله على النصر : فلما فَصَلَ حذيفةُ إلَى رَسُولِ اللّهِ -صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ- إذا هو قَائِمٌ يُصَلّي فِي مِرْطٍ لِبَعْضِ نِسَائِهِ، فلما رآه النبي، أدخله إلَى رِجْلَيْهِ، وهو الرحمة المهداة، وَطَرَحَ عَلَيه طَرَفَ الْمِرْطِ، ليُدفء حذيفة، وهو بالمؤمنين رؤوف رحيم، يخفض لهم الجناح، فلا يرون منه إلى مكارم الأخلاق ، ثُمّ رَكَعَ وَسَجَدَ ـ صلى الله عليه وسلم ـ وحذيفة متلفع بطرف المرط، بين رجلي النبي - من خلفه -، فلما أتم الصلاة، أخبره حذيفة الخبر، وأن الأحزاب في ارتحال، وقد أتى جبريلُ النبيَ – قبيل ذلك - فبشره أن الله يرسل عليهم ريحاً وجنوداً، وأعلم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -أصحابه بذلك وصار يرفع يديه قائلاً : " شكراً ! شكراً !!"[15] . وهنا قَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مبشرًا : " الآنَ نَغْزُوهُمْ وَلا يَغْزُونَنَا، نَحْنُ نَسِيرُ إِلَيْهِم ْ"[16] . وأخذ يردد مرارًا : " لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ أَعَزَّ جُنْدَهُ، وَنَصَرَ عَبْدَهُ، وَغَلَبَ الأحْزَابَ وَحْدَهُ، فَلا شَيْءَ بَعْدَهُ"[17]. فهي ساعة يمتحن الله فيها الدولة المنتصرة؛ أتشكر أم تكفر، فمن الناس من يرزقهم اللهُ النصرَ وقد كانوا من قبل إلى الله يتضرعون، فلما جاءهم نصر الله إذا هم ينسون ويبغون، وينسبون الفضل إلى أنفسهم، ويقولون في أبواق الأعلام : نجحت قواتنا .. وانتصرنا بفضل شجاعتنا .. بفضل سلاحنا.. وينسون صاحب الفضل وواهب الرزق، سبحانه، يُعز من يشاء وبذل من يشاء ، وهو القائل : " لأن شكرتم لأزيدنكم " . معاقبة بني قريظة[18] : ولما انكشفت الغمة، ورجعت الأحزاب، تنفس المسلمون الصعداء، ورجع النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مِنْ الْخَنْدَقِ وَوَضَعَ السِّلاحَ وَاغْتَسَلَ أَتَاهُ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَام فَقَالَ: قَدْ وَضَعْتَ السِّلَاحَ ؟ ! وَاللَّهِ مَا وَضَعْنَاهُ !فَاخْرُجْ إِلَيْهِمْ! قَالَ: " فَإِلَى أَيْنَ ؟" قَالَ: هَا هُنَا، وَأَشَارَ إِلَى بَنِي قُرَيْظَةَ[19]. وقال: إن الله يأمرك أن تسير إلى بني قريظة فإني عامد إليهم فمزلزل بهم حصونهم. فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم عليًا- رضي الله عنه فدفع إليه لواءه وبعث بلالاً فنادى في الناس[20] . فقَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – للمسلمين - : "لا يُصَلِّيَنَّ أَحَدٌ الْعَصْرَ إِلَّا فِي بَنِي قُرَيْظَةَ " .. فَأَدْرَكَ بَعْضَهُمْ الْعَصْرُ فِي الطَّرِيقِ فَقَالَ بَعْضُهُمْ لَا نُصَلِّي حَتَّى نَأْتِيَهَا وَقَالَ بَعْضُهُمْ بَلْ نُصَلِّي لَمْ يُرَدْ مِنَّا ذَلِكَ فَذُكِرَ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَلَمْ يُعَنِّفْ وَاحِدًا مِنْهُمْ[21] . وتحرك الجيش الإسلامي تعلوه القوة والمهابة زاحفًا نحو بني قريظة، قال أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى الْغُبَارِ سَاطِعًا فِي زُقَاقِ بَنِي غَنْمٍ مَوْكِبَ جِبْرِيلَ -صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ -حِينَ سَارَ رَسُولُ اللَّهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -إِلَى بَنِي قُرَيْظَةَ"[22] . واستخلف رسول الله- صلى الله عليه وسلم- على المدينة عبد الله بن أم مكتوم و سار إليهم في المسلمين وهم ثلاثة آلاف، والخيل ستة وثلاثون فرسًا، فحاصرهم خمسة عشر يومًا أشد الحصار، ورموا بالنبل فانجحروا فلم يطلع منهم أحد، فلما اشتد عليهم الحصار أرسلوا إلى رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: أرسل إلينا أبا لبابة بن عبد المنذر. فأرسله إليهم فشاوروه في أمرهم فأشار إليهم بيده أنه الذبح ثم ندم فاسترجع وقال: خنت الله ورسوله! فانصرف فارتبط في المسجد ولم يأت رسول الله- صلى الله عليه وسلم- حتى أنزل الله توبته، ثم نزلوا على حكم رسول الله [23] . فوكل أمرهم إلى سعد بن معاذ حليفهم . وارتضت قريظة به حكما .. لَمَّا نَزَلَتْ بَنُو قُرَيْظَةَ عَلَى حُكْمِ سَعْدٍ، بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَكَانَ قَرِيبًا مِنْهُ، فَجَاءَ عَلَى حِمَارٍ فَلَمَّا دَنَا، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: " قُومُوا إِلَى سَيِّدِكُمْ".. فَجَاءَ فَجَلَسَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقَالَ لَهُ : "إِنَّ هَؤُلاءِ نَزَلُوا عَلَى حُكْمِكَ "[24] . قَالَ سعد: " فَإِنِّي أَحْكُمُ أَنْ تُقْتَلَ الْمُقَاتِلَةُ وَأَنْ تُسْبَى الذُّرِّيَّةُ " . فقَالَ النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ :" لَقَدْ حَكَمْتَ فِيهِمْ بِحُكْمِ الْمَلِكِ"[25] . قال عطية القرظي :عرضنا على رسول الله -صلى الله عليه وسلم - يوم قريظة فكان من أنبت قُتل ومن لم ينبت خلي سبيله فكنت فيمن لم ينبت فخلي سبيلي [26] . وعن عائشة قالت :لم يقتل من نسائهم تعني بني قريظة إلا امرأة إنها لعندي تحدث تضحك ظهرًا وبطنًا، ورسول الله -صلى الله عليه وسلم -يقتل رجالهم بالسيوف إذ هتف هاتف باسمها أين فلانة ، قالت : أنا قلت وما شأنك؟ قالت : حدث أحدثته .. قالت : فانطلق بها فضربت عنقها فما أنسى عجبًا منها أنها تضحك ظهرا وبطنا وقد علمت أنها تقتل[27] . لقد كانت غزوة الأحزاب موعظة ورحمة لقوم يؤمنون بناموس الله : " إن مع العسر يسرًا".. وليعلم المسلمُ أن المصائب والرزايا إذا توالت أعقبها الخير، وعند تناهي الكرب يكون الفرج، وعند تضايق الحال يكون الرخاء؛ شريطة أن يَصْدُق المسلمُ ربه، ويثبت ويصبر ويطيع، و"سيجعل الله بعد عسر يسرًا"، وينشر الله رحمته وهو الولي الحميد . قال محمد بن بشر الخارجي: إن الأمور إذا اشتدت مسالكها ... فالصبر يفتح منها كل ما رتجا وكانت هذه الغزوة درسًا عظيمًا في قوة هذا الدين أمام جحافل الباطل، وأن أهل الأرض لو اجتمعوا وتحزَّبوا وتحالفوا على هدم هذا الدين، فلن يَتَأتى لهم ذلك، إلا ما يصيب الرجلُ الفسلُ من البحر، إذا ألقى فيه قبس من نار يريد بذلك أن يجففه ! وكانت درسًا بليغًا في أهمية " الفرد المسلم " فقد رأيت ما فعل نعيم... ومن ثم أوصيك أن تبحث وتسعى إلى عمل يتمخض عن خدمة جليلة للإسلام . فابحث وابحث وابحث . وتَعَلَّمْ وتَعَلَّمْ وتَعَلَّمْ . واعمل واعمل واعمل . فدينك دينك، لحمك دمك ! توصية عملية : مدراسة سورة الأحزاب -------------------------- [1] ابن هشام - 2 / 222 [2] ابن هشام - 2 / 222 [3] ابن هشام - 2 / 222 [4] البخاري (3804) [5] البخاري : (3442) [6] انظر : ابن هشام 2 / 223، والحلبي 2/ 628 [7] ابن هشام 2 / 223 [8] ابن هشام 2 / 228 [9] ابن هشام 2 / 228 [10] ابن هشام 2 / 228 [11] البخاري : (2805) [12]الكراع: الخيل، والخف : الإبل [13]المرط: - بكسر الميم - كساء من صوف [14] ابن هشام 2 / 232 [15] الحلبي 2/ 628 [16] البخاري: (3801) [17] البخاري : (3805) [18]طالع بالتفصيل ما كتبناه عن غزوة بني قريظة في كتابنا " غزوات الرسول صلى الله عليه وسلم دروس في آداب الحرب والسلام " [19] البخاري:(3808) [20] ابن سعد 2 / 74 [21] البخاري:(894) [22] البخاري:( 3808) [23] ابن سعد 2 / 74 [24] البخاري: (2816) [25] البخاري (2816) [26] أخرجه أحمد (18776) ، وصححه الألباني في صحيح ابن ماجه ( 3974) [27] أخرجه أبو داود (2671)، وحسنه الألباني