الصلح ثم أرسلتُ قريشٌ سُهَيْلُ بْنُ عَمْرٍو، خطيب قريشٍ المِصْقَع، ومفاوضُها النحرير . فلَمَّا جَاءَ سُهَيْلُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ النَّبِيُّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ : " لَقَدْ سَهُلَ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ "[1] . وكان رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يتفائل بالأسماء. واتفقا الطرفان على عقد هدنة، شريطة أن تنص على ما يحفظُ لقريش ماءَ وجهها أمامَ العربِ، فكانت الشروطُ مجحفةً، متحاملةً في ظاهرها على المسلمين، ولكن جعل الله ـ جل وعلا ـ في هذه الشروط الفتح المبين. فقال سُهَيْلُ بْنُ عَمْرٍو: هَاتِ اكْتُبْ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ كِتَابًا، فَدَعَا النَّبِيُّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ الْكَاتِبَ فَقَالَ النَّبِيُّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ : بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ " قَالَ سُهَيْلٌ : "أَمَّا الرَّحْمَنُ فَوَاللَّهِ مَا أَدْرِي مَا هُوَ، وَلَكِنْ اكْتُبْ بِاسْمِكَ اللَّهُمَّ، كَمَا كُنْتَ تَكْتُبُ" أي في الجاهلية . فَقَالَ الْمُسْلِمُونَ : وَاللَّهِ لا نَكْتُبُهَا إِلا بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ فَقَالَ النَّبِيُّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ: " اكْتُبْ بِاسْمِكَ اللَّهُمَّ " . ثُمَّ قَالَ النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ : " هَذَا مَا قَاضَى عَلَيْهِ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ " ... فقاطعه سهيلٌ قائلاً : وَاللَّهِ لَوْ كُنَّا نَعْلَمُ أَنَّكَ رَسُولُ اللَّهِ مَا صَدَدْنَاكَ عَنْ الْبَيْتِ وَلا قَاتَلْنَاكَ، وَلَكِنْ اكْتُبْ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ ! فَقَالَ النَّبِيُّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاللَّهِ ـ : إِنِّي لَرَسُولُ اللَّهِ، وَإِنْ كَذَّبْتُمُونِي، اكْتُبْ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ ". وفي هذا درسٌ للذين يتنطعون في الشكليات والمظاهر، ويتمسكون بشعار القضية، ولا يستمسكون بقضية الشعار. ثم قال النبي ـ صلى عليه وسلم ـ : عَلَى أَنْ تُخَلُّوا بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْبَيْتِ فَنَطُوفَ بِهِ" فَقَالَ سُهَيْلٌ : وَاللَّهِ لا تَتَحَدَّثُ الْعَرَبُ أَنَّا أُخِذْنَا ضُغْطَةً، وَلَكِنْ ذَلِكَ مِنْ الْعَامِ الْمُقْبِلِ . فَكَتَبَ. ثم قال سُهَيْلٌ : وَعَلَى أَنَّهُ لا يَأْتِيكَ مِنَّا رَجُلٌ وَإِنْ كَانَ عَلَى دِينِكَ إِلا رَدَدْتَهُ إِلَيْنَا! قَالَ الْمُسْلِمُونَ : سُبْحَانَ اللَّهِ ! كَيْفَ يُرَدُّ إِلَى الْمُشْرِكِينَ، وَقَدْ جَاءَ مُسْلِمًا ؟ مأساةُ أبي جندل بن سهيل فَبَيْنَمَا هُمْ كَذَلِكَ إِذْ دَخَلَ أَبُو جَنْدَلِ بْنُ سُهَيْلِ بْنِ عَمْرٍو، يَرْسُفُ فِي قُيُودِهِ، وَقَدْ خَرَجَ مِنْ أَسْفَلِ مَكَّةَ، حَتَّى رَمَى بِنَفْسِهِ بَيْنَ أَظْهُرِ الْمُسْلِمِينَ، فَقَالَ سُهَيْلٌ : هَذَا يَا مُحَمَّدُ أَوَّلُ مَا أُقَاضِيكَ عَلَيْهِ، أَنْ تَرُدَّهُ إِلَيَّ ! فَقَالَ النَّبِيُّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ :" إِنَّا لَمْ نَقْضِ الْكِتَابَ بَعْدُ " . قَالَ سهيلٌ : " فَوَاللَّهِ إِذًا لَمْ أُصَالِحْكَ عَلَى شَيْءٍ أَبَدًا " . فأخذ النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ يشفع شفاعةً حسنة ـ وهو سيد الأكرمين ـ ويهيب بسهيل، أن يرحم ولده، ويتركه مع المسلمين. فقال سهيلٌ: " مَا أَنَا بِمُجِيزِهِ لَكَ " ! فقَالَ الرحمةُ المهداة : " بَلَى فَافْعَلْ "، أي اتركه، وأجزه لي . قَالَ سهيلٌ: مَا أَنَا بِفَاعِلٍ . ألح عليه الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ أن يترك له أبا جندل، ولكن دون جدوى : {حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ }التوبة128 فقَالَ أَبُو جَنْدَلٍ : أَيْ مَعْشَرَ الْمُسْلِمِينَ أُرَدُّ إِلَى الْمُشْرِكِينَ، وَقَدْ جِئْتُ مُسْلِمًا أَلا تَرَوْنَ مَا قَدْ لَقِيتُ . . وَكَانَوا قد عذبوه عَذَابًا شَدِيدًا فِي اللَّهِ، وقيدوه، واعتقلوه في بيت من البيوت . والمسلمون يبكون لبكاء أخيهم أبي جندل . فاشتد الأمرُ على عُمَر بْن الْخَطَّابِ ـ يتحسر لحال المسلمين، نبيهم محظورٌ من دخول مكة، وهي وطنه وبلده، والمسلمون ماكثون أيامًا لا يُأذن لهم لأداء العمر، ثم كانت هذه البنود المجحفة الظالمة، ثم يأتي الرجل مسلمًا من قريش؛ فيرد لقومه يعذبونه ويجلدونه . فأقبل عمر على النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فقال : أَلَسْتَ نَبِيَّ اللَّهِ حَقًّا ؟ قَالَ : "بَلَى " قال : أَلَسْنَا عَلَى الْحَقِّ وَعَدُوُّنَا عَلَى الْبَاطِلِ ؟ قَالَ : "بَلَى" قال : فَلِمَ نُعْطِي الدَّنِيَّةَ فِي دِينِنَا إِذًا ؟ فقَالَ رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : " إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ، وَلَسْتُ أَعْصِيهِ، وَهُوَ نَاصِرِي " . قال عمر : أَوَلَيْسَ كُنْتَ تُحَدِّثُنَا أَنَّا سَنَأْتِي الْبَيْتَ فَنَطُوفُ بِهِ ؟ فقال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ : "فَأَخْبَرْتُكَ أَنَّا نَأْتِيهِ الْعَامَ ؟" قَالَ : لَا فقَالَ النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ: " فَإِنَّكَ آتِيهِ وَمُطَّوِّفٌ بِهِ" ! ثم أقبل عمر ـ رضي الله عنه ـ على أبي بكر، فقال له نحو من قوله لرسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فقال الصديق ـ رضي الله عنه ـ : إِنَّهُ لَرَسُولُ اللَّهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ وَلَيْسَ يَعْصِي رَبَّهُ، وَهُوَ نَاصِرُهُ، فَاسْتَمْسِكْ بِغَرْزِهِ، فَوَاللَّهِ إِنَّهُ عَلَى الْحَقِّ . *** سحائب الحزن تخيم على النفوس، ورسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يكتب كتاب الصلح مع سهيل، فلما تم الاتفاقُ، وكُتب العقدُ، وشهد الشهودُ، التفت النبيُ ـ صلى الله عليه وسلم ـ إلى أصحابه قائلاً : "قُومُوا فَانْحَرُوا، ثُمَّ احْلِقُوا " . فَوَاللَّهِ مَا قَامَ مِنْهُمْ رَجُلٌ، حَتَّى قَالَ ذَلِكَ ثَلاثَ مَرَّاتٍ، فَلَمَّا لَمْ يَقُمْ مِنْهُمْ أَحَدٌ؛ دَخَلَ عَلَى أُمِّ سَلَمَةَ، فَذَكَرَ لَهَا مَا لَقِيَ مِنْ النَّاسِ، فَقَالَتْ أُمُّ سَلَمَةَ : يَا نَبِيَّ اللَّهِ أَتُحِبُّ ذَلِكَ ؟ اخْرُجْ، ثُمَّ لَا تُكَلِّمْ أَحَدًا مِنْهُمْ كَلِمَةً حَتَّى تَنْحَرَ بُدْنَكَ وَتَدْعُوَ حَالِقَكَ فَيَحْلِقَكَ. فَخَرَجَ فَلَمْ يُكَلِّمْ أَحَدًا مِنْهُمْ حَتَّى فَعَلَ ذَلِكَ، نَحَرَ بُدْنَهُ، وَدَعَا حَالِقَهُ، فَحَلَقَهُن فَلَمَّا رَأَوْا ذَلِكَ قَامُوا فَنَحَرُوا، وَجَعَلَ بَعْضُهُمْ يَحْلِقُ بَعْضًا حَتَّى كَادَ بَعْضُهُمْ يَقْتُلُ بَعْضًا غَمًّا. وحَلَقَ رِجَالٌ ، وَقَصّرَ آخَرُونَ . فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ -صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ-: "يَرْحَمُ اللّهُ الْمُحَلّقِينَ " . قَالُوا : وَالْمُقَصّرِينَ يَا رَسُولَ اللّهِ ؟ قَالَ : "يَرْحَمُ اللّهُ الْمُحَلّقِينَ ". قَالُوا : وَالْمُقَصّرِينَ يَا رَسُولَ اللّهِ ؟ قَالَ : "يَرْحَمُ اللّهُ الْمُحَلّقِينَ ". قَالُوا : وَالْمُقَصّرِينَ يَا رَسُولَ اللّهِ ؟ قَالَ :"وَالْمُقَصّرِينَ " [2] . توصية عملية : مدارسة حول أخلاقيات التفاوض ----------------------- [1] البخاري ( 2529). [2]ابن هشام 2 / 319، وأحمد : برقم : 3311، وصححه الألباني