آداب النصيحة و فنون النصيحة : و اعلم أخي المسلم أن آداب النصيحة هي آداب الدعوة إلى الله ، و قد قال ربنا جل و علا : ( ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَ الْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ ) النحل 125 ؛ فعود نفسك على أن تنصح الناس دائما بالموعظة الحسنة . آداب النصيحة : 1- الرفق واللين في النصيحة : لمّا أرسل الله موسى و هارون إلى فرعون ، ماذا قال لهما ؟ ، قال : ( اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى (43) فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى (44) ) طه . و دخل رجل على عبد الملك ابن مروان ، فقال له : عندي لك نصيحة أشد من ضرب السياط ! ، فقال : و أين القول الحسن ؟! ، فأنت لست عند الله أعز من موسى و هارون ، و أنا لست عند الله أسوء من فرعون ، فإنَّ الله قال لهما : ( فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا ) . و الله أمرنا بالقول الحسن فقال لنا في كتابه الكريم : ( وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا ) البقرة 83 . 2- لا تنصح أخاك على الملأ : قال الحافظ ابن رجب رحمه الله : كان السلف إذا أرادوا نصيحة أحد و عظوه سرًا . و يقول الشافعي : تعهدني بنصحك في انفرادي و إياك و النصح في الجماعة النصح بين الناس توبيخ لا أقبل استماعه و قد قيل : إنّ نصائح المؤمنين في آذانهم ؛ و قال جعفر بن برقان : قال لي ميمون بن مهران : قل لي في وجهي ما أكره ، فإنَّ الرجل لا ينصح أخاه حتى يقول له في وجهه ما يكره ، فإن كان أخوه الذي نصح له صادقاً في حاله ، أحبه على نصحه ، فإن لم يحبه و كره ذلك منه دلّ على كذب الحال ، قال الله سبحانه وتعالى في وصف الكاذبين : ( وَ لكنْ لا تُحِبُّونَ النَّاصِحينَ ) الأعراف 79 ؛ و قد كان بعض الصالحين يقول: أحب الناس إليّ من أهدى عيوبي ، و قد كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول - و يأمر الإخوان بذلك - : رحم الله امرأً أهدى إلى أخيه عيوب نفسه . و لكن قد قيل لمسعر بن كدام : تحب من يخبرك بعيوبك ، فقال: إنْ نصحني فيما بيني و بينه فنعم ، و إنْ قرعني في الملأ فلا . و من أخلاق السلف قال : كان الرجل إذا كره من أخيه خلقاً عاتبه فيما بينه و بينه أو كاتبه في صحيفة ! ، و هذا حقًا الفرق بين النصيحة و الفضيحة فما كان في السر فهو نصيحة ، و ما كان على العلانية فهو فضيحة ، و قلما تصح فيه النية لوجه الله تعالى ، لأن فيه شناعة ، و كذلك الفرق بين العتاب والتوبيخ ، فالعتاب ما كان في خلوة ، و التوبيخ لا يكون إلاّ في جماعة ، و لذلك يعاتب الله عزّ وجلّ رجلاً من المؤمنين يوم القيامة تحت كنفه ، و يسبل عليه ستره فيوقفه على ذنوبه سرّاً ، و منهم من يدفع كتاب عمله مختوماً إلى الملائكة الذين يحفرون به إلى الجنة ، فإذا قاربوا دخول الجنة ، دفعوا إليهم الكتب مختومة فيقرؤونها ، و أما أهل التوبيخ فينادون على رؤوس الأشهاد ، فلا يخفى على أهل الموقف فضيحتهم ، فيزداد ذلك في عذابهم . و انظر إلى أدب السلف في النصيحة ، روى الذهبي في سير أعلام النبلاء عن عبد الله بن وهب قال : ( سمعتمالكاً سئل عن تخليل أصابع الرجلين في الوضوء ، فقال : ليس ذلك على الناس . قال فتركهحتى خف الناس ، فقلت له : عندنا في ذلك سنّة ، فقال : و ما هي ؟ ، قلت : حدثنا الليث بن سعدو ساق سنده إلى المستورد بن شداد القرشي ، قال : " رأيت رسول الله صلى الله عليه و سلميدلك بخنصره ما بين أصابع رجليه " ، فقال: إن هذا الحديث حسن ، و ما سمعت به قط إلاالساعة . ثم سمعته بعد ذلك يسأل فيأمر بتخليل الأصابع . فانظر أخي المسلم إلى أدب هذا الإمام الجليل ابن وهب ، و كيف قال : فتركته حتى خف الناس ، و انظر إلى أدب إمام دار الهجرة مالك رحمه الله كيف قبل النصيحة و لم يتكبر عليها ! ، رحمهم الله . 3- اختيار الوقت للنصيحة و عدم الإلحاح في النصيحة : لأن الإنسان متقلب بطبيعته ، فربما تختار وقتًا للنصيحة لا يكون ملائمًا لأخيك ، فيعاند و يكابر ، و تأتي النصيحة بنتيجة عكسية . و هذا من هدي النبي صلى الله عليه و سلم ؛ حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ، عَنِ الْأَعْمَشِ ، عَنْ شَقِيقٍ ، قَالَ : كُنَّا جُلُوسًا عِنْدَ بَابِ عَبْدِ اللهِ نَنْتَظِرُهُ ، فَمَرَّ بِنَا يَزِيدُ بْنُ مُعَاوِيَةَ النَّخَعِيُّ ، فَقُلْنَا : أَعْلِمْهُ بِمَكَانِنَا ، فَدَخَلَ عَلَيْهِ فَلَمْ يَلْبَثْ أَنْ خَرَجَ عَلَيْنَا عَبْدُ اللهِ ، فَقَالَ : إِنِّي أُخْبَرُ بِمَكَانِكُمْ ، فَمَا يَمْنَعُنِي أَنْ أَخْرُجَ إِلَيْكُمْ إِلَّا كَرَاهِيَةُ أَنْ أُمِلَّكُمْ ، « إِنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَتَخَوَّلُنَا بِالْمَوْعِظَةِ فِي الْأَيَّامِ، مَخَافَةَ السَّآمَةِ عَلَيْنَا » متفق عليه البخاري و مسلم . و مثال هذا : أن تدخل على أخيك المسلم فتجده في خلاف مع زوجته أو أبنائه أو جيرانه أو أي إنسان ، و قد سيطر عليه الغضب ، هنا لا تنصحه في الأمر الذي عليه الخلاف ، لأنه لن يسمع بل اجعل نصيحتك في كيف يذهب عنه الغضب ، فإذا ذهب عنه الغضب فانصحه بما شئت ، فإنَّه يسمع بإذن الله ، و لا تلح على إنسان في أمر ، لكن أنصحه على فترات متباعدة و ذكرّه لعله يذكرّ . 5- أن تفعل ما تنصح به الناس : و هذا من أهم آداب النصيحة ، أنْ تكن أنت فاعلًا الخير الذي تنصح به الناس . و إلا كنت من أهل قوله تعالى : ( أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ ) البقرة 44 . و قال تعالى : ( كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ ) الصف 3 . أو كنت كما قال القائل : يا أيها الرجل المعلم غيره ... هلا لنفسك كان ذا التعليم لا تنه عن خلق و تأتي بمثله ... عار عليك إذا فعلت عظيم ابدأ بنفسك فانهها عن غيها ... فإذا انتهت عنه فأنت حكيم فهناك يقبل ما وعظت و يقتدي ... بالرأي منك و ينفع التعليم تصف الدواء وأنت أولى بالدوا ... و تعالج المرضى و أنت سقيم و كذا تلقح بالرشاد عقولنا ... أبدا و أنت من الرشاد عقيم و النصيحة في أمور الدنيا من أهم حقوق المسلم على المسلم ، و لذلك فقد رفع الله حكم الغيبة فى النصيحة ؛ ما رواه مسلم في صحيحه عن فاطمة بنت قيس رضي الله عنها لما طلقت من أَبَا عَمْرِو بْنَ حَفْصٍ ، قالت : فَلَمَّا حَلَلْتُ ذَكَرْتُ لَهُ أَنَّ مُعَاوِيَةَ بْنَ أَبِي سُفْيَانَ وَ أَبَا جَهْمٍ خَطَبَانِي ، فَقَالَ : « أَمَّا أَبُو الْجَهْمِ فَلَا يَضَعُ عَصَاهُ عَنْ عَاتِقِهِ وَ أَمَّا مُعَاوِيَةُ فَصُعْلُوكٌ لَا مَالَ لَهُ انْكِحِي أُسَامَةَ بْنَ زَيْدٍ » . فهذه نصيحة و ليست غيبة . و أيضًا ما رواه مسلم عن أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ : جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَ سَلَّمَ فَقَالَ : إِنِّي تَزَوَّجْتُ امْرَأَةً مِنَ الْأَنْصَارِ ، قَالَ : « فَانْظُرْ إِلَيْهَا فَإِنَّ فِي أَعْيُنِ الْأَنْصَارِ شَيْئًا » . رَوَاهُ مُسْلِمٌ و من أعجب ما جاء في السنة في النصيحة ، عَن جرير بن عبد الله قَالَ : « بَايَعْتُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَ سَلَّمَ عَلَى إِقَامِ الصَّلَاةِ وَ إِيتَاءِ الزَّكَاةِ وَ النُّصْحِ لكل مُسلم » . مُتَّفق عَلَيْهِ لذلك فان غلام له اشترى فرسًا بـ300 ، فذهب إلى صاحبه ، و قال : إنَّ فرسك خيرًا من 300 ، و ما زال يزيده حتى وصل إلى 800 ، فلما سُئل رضي لله عنه عن هذا الفعل العجيب ، قال : بَايَعْتُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَ سَلَّمَ النُّصْحِ لكل مُسلم . رضي الله عنه هذا الصحابي الجليل الذي أدى البيعة لرسول الله صلى الله عليه سلم ، و إنْ كان سيخسر المال فإنَّ أصحاب النبي باعوا الدنيا و اشتروا الآخرة . و كن ناصحًا للمسلمين بإرشادهم إلى الحق عند خفاءه و مرهم بمعروف الشريعة و انههم عن السوء و ازجر ذا الخنا عن خنائه وعظهم بآيات الإله و حكمه لعلك تبرئ داءهم بدوائه فإنْ يهدى مولانا بوعظك واحدًا تنل منه يوم الحشر خير عطاءة و إلا فقد أديت ما كان واجبًا عليك و ما ملكت أمر اهتداءه 6-و التدرج في النصيحة و خاصة إذا كنت تنهى عن منكر : و هذا الأدب هو من أهم فنون و آداب النصيحة ، و هو مراعاة ضعف النفس البشرية خاصة إذا تعلقت بشيء و تعودت عليه فتره كبيرة من الزمن ، و قد تعلمنا التدرج في الإنكار من القرآن ، فلم تنزل آية تحريم الخمر دفعة واحدة ، لأن ذلك سيستحيل على أهل مكة ترك الخمرلكنها تدرجت في النهي إلى أن وصلت إلى التحريم و القرآن الكريم ذكر ذلك في مراحل، لكن الخمر الآن قد حرمت تحريمًا قاطعًا ؛ فماذا نفعل إذا أردنا أن ننصح من يشرب الخمر ؟ نقول أن من فنون النصيحة و الإنكار على الغير ثلاثة أمور نذكرها : 1-إظهار مساوئ الأمر الذي تريد أن تنهى عنه ؛ مثل أن تقول : إنَّ الخمر تذهب العقل و تجعل الإنسان يؤذي نفسه و أولاده و هو لا يشعر ، و تسبب الأمراض المستعصية و تجلب الفقر و الهم لصاحبها . 2-ثم التخويف من عقاب الله تعالى يوم القيامة .و انظر معي إلى هذا الحديث الذي يحذر شارب الخمر ، عن جَابِرٍ ، أَنَّ رَجُلًا قَدِمَ مِنْ جَيْشَانَ ، وَ جَيْشَانُ مِنَ الْيَمَنِ ، فَسَأَلَ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَ سَلَّمَ عَنْ شَرَابٍ يَشْرَبُونَهُ بِأَرْضِهِمْ مِنَ الذُّرَةِ ، يُقَالُ لَهُ : الْمِزْرُ ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَ سَلَّمَ : « أَوَ مُسْكِرٌ هُوَ ؟ » ، قَالَ: نَعَمْ ، قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَ سَلَّمَ : « كُلُّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ، إِنَّ عَلَى اللهِ عَزَّ وَجَلَّ عَهْدًا لِمَنْ يَشْرَبُ الْمُسْكِرَ أَنْ يَسْقِيَهُ مِنْ طِينَةِ الْخَبَالِ » ، قَالُوا : يَا رَسُولَ اللهِ ، وَ مَا طِينَةُ الْخَبَالِ ؟ ، قَالَ : « عَرَقُ أَهْلِ النَّارِ » أَوْ « عُصَارَةُ أَهْلِ النَّارِ » البخاري . 3-ثم إظهار ثواب و فضل من ترك شرب الخمر لله ، و أنَّ الله يبدله بخمر الدنيا خمرًا في الجنة لا تؤذي و لا تذهب العقل ، و أنَّ الله يرضى عنه و يغفر له ما مضى . هذا هو المقصود بالتدرج في النصيحة ، و الله أعلم . اللهم أرنا الحق حقًا و ارزقنا إتباعه و أرنا الباطل باطلًا و ارزقنا اجتنابه .