جريمة سب النبي صلى الله عليه وسلم إن مما لا يخفى على عاقل فضلاً عن مسلم أن تنقُّصَ الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ورميهم بشيء من الأذى قولاً كان أم فعلاً إنما هو جريمة بشعة لا تصدر إلا عن سفهٍ وحقدٍ وخبثٍ في النفس. ذلك أن الله تعالى إنما بعث رسله وأنبياءه رحمةً للعالمين، وجعلهم للبشرية هداةً مهتدين، يمسكون الناس برفق يحجزونهم عن النار ويسيرون بهم إلى طريق طاعة الله موصلين مَن شاء الله تعالى أن يستنقذه بهم إلى جنة الرضوان، فكان الاعتداء على هؤلاء الرسل الكرام خبثاً في الطبع وحقداً في النفس وقبحاً في القول والفعل، نسأل الله تعالى العافية والسلامة من ذلك. فإذا تأملت ما تقدم مِن فضلِ رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم تيقنت أن من تطاول على مقامه صلوات الله وسلامه عليه بشيءٍ من هذا الأذى والسب هو أشد خبثاً وأكثر حقداً وأسوأ قبحاً في ذلك كله، لأنه بأبي وأمي صلوات الله وسلامه عليه خيرُ رسل الله أجمعين وخاتم النبيين وإمام المرسلين أرسله الله تعالى رحمةً للعالمين، فكان حقه التجريد في المتابعة والإخلاص في المحبة والمبالغة في التعظيم والتوقير والتعزير والتفدية بالأرواح والأهلون والأموال والأوطان، وكان غاية الخبث أن تمتد ألسنة الباطل بسبِّه أو لمزِه أو تنقُّصِه صلوات الله وسلامه عليه، وسوف يأتي لاحقاً بيان أن هذا الفعل الخبيث أشد سوءاً من الكفر بغيره من الأفعال والأقوال. وهذا الفصل معقودٌ لبيان صفة سب رسول الله صلى الله عليه وسلم وبيان ما هو في حقه شتمٌ وتنقُص وإساءة، ثم التنبيه على الفرق بين سب رسول الله صلى الله عليه وسلم والكفر المجرد عن ذلك، حتى تتحرر هذا المسألة تحريراً جيداً قبل الانتقال إلى الفصل التالي الذي نبين فيه حكم هذا الساب المعادي لله عز وجل ورسوله صلى الله عليه وسلم بيان صفة سب رسول الله صلى الله عليه وسلم وما هو في حقه صلوات الله وسلامه عليه شتم وتنقُص وإساءة: إن الكلام هنا مما يتعاظم في النفس ذِكره، كما قال ابن تيمية رحمه الله:"التكلُّم في تمثيل سبِّ رسول الله صلى الله عليه وسلم وذكر صفته، ذلك مما يثقل على القلب واللسان، ونحن نتعاظم أن نتفوه بذلك ذاكرين أو آثرين، لكن للاحتياج إلى الكلام في حكم ذلك نحن نفرض الكلام في أنواع السب مطلقاً من غير تعيين، والفقيه يأخذ حظه من ذلك"، قلت: هذا غاية الأدب والورع فالمؤمن لا يستطيع أن يحكي هذا السب ولو ناقلاً لثقله واختلاج القلب دونه، وهذا بطبيعة الحال ما يجده المؤمن في قلبه، أما من حكى هذا الكلام ولو ناقلاًَ دون أن يتعاظم في نفسه ذلك فليبكِ على نفسه وليخشَ عليها الموت والران، بل لقد عقد القاضي عياض رحمه الله فصلاً كاملاً في حكم الناقل والحاكي لسب رسول الله صلى الله عليه وسلم وبيَّن ما يجوز منه (على سبيل الشهادة على الشاتم أو التعريف به أو التعليم أو الفتوى)، وما لا يجوز من هذا النقل فقال رحمه الله :"فأما ذكرها على غير هذا من حكاية سبه والإزراء بمنصبه على وجه الحكايات والأسمار والطُرَف وأحاديث الناس ومقالاتهم في الغث والسمين ومضاحك المجان ونوادر السخفاء والخوض في قيل وقال وما لا يغني فكل هذا ممنوع، وبعضه أشد في العقوبة والمنع من بعض"، قلت: وهذا مما ينبغي التنبيه عليه اليوم إذ أن بعض الغيورين أصلحهم الله يسارعون في نقل وتناقل هذا السباب والشتم بغية التعريف بجريمة المجرم فإذا بهم يصبحون وسيلة لنشر هذا الإزراء والاستهزاء بالنبي صلى الله عليه وسلم كما يحدث على مواقع الشبكة العالمية الحاسوبية وغير ذلك، فينبغي التورع عن هذا ويكفي التعريف بالساب والإشارة إلى جنس السب ونوعه مُجملاً دون نقل تفاصيله، لا سيما وأن المقام هنا في الغالب ليس مقام شهادة أمام القضاء، وإنما تعريفٌ بهؤلاء المجرمين السفهاء ، فلينتبه إلى هذا والله الموفق. أما صفة السب فليس لها حدٌ معينٌ في الشرع، بل المحتكم فيه العرف وفق القاعدة الفقهية المعروفة: العادة محكَّمة، فكل ما كان في عُرف مجتمعٍ من المجتمعات سباً أو تنقصاً أو شتماً فهو كذلك إذا نُسب إلى النبي صلى الله عليه وسلم. فعلى سبيل المثال نجد أن من أنواع السب التي لم تكن معهودة في القديم استعمال الرسوم فيما يدعى اليوم بالرسوم التشخيصية للاستهزاء والسخرية أو النقد أو الاستخفاف أو الامتهان، وقد تطاولت بعض الأيدي – قطعها الله – من قريب بمثل هذا الأذى على مقام خبر البرية صلوات الله وسلامه عليه، ولا تزال هذه الأيدي قطعها الله طليقةً اليوم نسأل الله تعالى أن يقيض لها من يقيمُ حكمَه فيها. والشاهد هنا أن صور السب لا تقتصر لا ما تعارف عليه الناس قديماً أو أُثر من هجاء شعر ونحوه، فربما درس مثل هذا النوع وظهرت أنواع أخرى، فلا يتقيد الحكم بما أُثر من صفات وأنواع السب قديماً بل يشمل كل ما تعارف عليه الناس اليوم أنه استهزاء وسخرية وشتم وسب، نسأل الله السلامة من ذلك. والسبُّ مُطلقاً لا يخرج عن قسمين اثنين ذكرهما شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله وهما الدعاء والخبر. وفيما يلي بيان ذلك: