المبحث الخامس: رحمته صلى الله عليه وسلم في أمور الجهاد هيأ محمد لأمته أسباب القوة والعزة والمنعة[1] أكد تقرير صادر عن وزارة الدفاع الأمريكية تعرض 4% من المجندات في الجيش الأمريكي للاغتصاب على أيدي الزملاء الذكور والقادة، وهي نسبة تزيد عشر مرات عن معدل الاغتصاب في الحياة المدنية في الولايات المتحدة، بالإضافة إلى تعرض 52% من هؤلاء المجندات للتحرش الأخلاقي والجنسي بدرجات متفاوتة[2]!! هذا حالهم ولكن الإسلام شئ آخر!! بدايةً قد يتعجب بعض من يرى عنوان هذا المبحث ومكانه!! ووجه العجب أن يتصور الناس أن في الجهاد رحمة، ولعل تصورهم هذا صحيحًا إن كان الأمر متعلقًا بأي حضارة أو تشريع غير حضارة وتشريع الإسلام، ولعل رؤيتهم هذه تكون صادقة لو كانت مع أي زعيم أو قائد غير الرسول صلى الله عليه وسلم ؛ فرحمة الرسول صلى الله عليه وسلم في ميدان الجهاد بيِّنة ظاهرة، سواء بالمسلمين أو بغير المسلمين، أما رحمته صلى الله عليه وسلم بغير المسلمين فهذا سيكون له مكان آخر في البحث إن شاء الله، وأما رحمته صلى الله عليه وسلم بالمسلمين فهذا هو موضوع مبحثنا.. وقد يتعجب البعض من وضع مبحث الرحمة في الجهاد مع أوجه رحمته صلى الله عليه وسلم الخاصة بالعبادات، لأنهم يظنون أن العبادة هي الصلاة والصوم والزكاة والحج ونحو ذلك من شعائر وحَسْب، ولا ينظرون إلى العبادة بمفهومها الشامل الواسع الذي يضم كل صغيرة وكبيرة في الحياة.. يقول تعالى: "قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ[3]" ومن هذا المنطلق فالجهاد عبادة، وأي عبادة!! إنه من أرقى أنواع العبادات في الإسلام، ومِنْ أعلاها منزلةً ومكانةً.. وانظر إلى الحوار اللطيف الذي بين رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعاذ بن جبل رضي الله عنه ، وفيه يوضح مكانة عبادات كثيرة في الإسلام ومنها الجهاد.. يقول معاذ بن جبل رضي الله عنه : كُنْتُ مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي سَفَرٍ فَأَصْبَحْتُ يَوْمًا قَرِيبًا مِنْهُ وَنَحْنُ نَسِيرُ فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَخْبِرْنِي بِعَمَلٍ يُدْخِلُنِي الْجَنَّةَ وَيُبَاعِدُنِي عَنْ النَّارِ قَالَ: لَقَدْ سَأَلْتَنِي عَنْ عَظِيمٍ وَإِنَّهُ لَيَسِيرٌ عَلَى مَنْ يَسَّرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ: تَعْبُدُ اللَّهَ وَلَا تُشْرِكْ بِهِ شَيْئًا، وَتُقِيمُ الصَّلَاةَ، وَتُؤْتِي الزَّكَاةَ، وَتَصُومُ رَمَضَانَ، وَتَحُجُّ الْبَيْتَ، ثُمَّ قَالَ: أَلَا أَدُلُّكَ عَلَى أَبْوَابِ الْخَيْرِ؟ الصَّوْمُ جُنَّةٌ، وَالصَّدَقَةُ تُطْفِئُ، الْخَطِيئَةَ كَمَا يُطْفِئُ الْمَاءُ النَّارَ، وَصَلَاةُ الرَّجُلِ مِنْ جَوْفِ اللَّيْلِ قَالَ: ثُمَّ تَلَا "تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنْ الْمَضَاجِعِ حَتَّى بَلَغَ يَعْمَلُونَ" ثُمَّ قَالَ: أَلَا أُخْبِرُكَ بِرَأْسِ الْأَمْرِ كُلِّهِ وَعَمُودِهِ وَذِرْوَةِ سَنَامِهِ؟ قُلْتُ: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: رَأْسُ الْأَمْرِ الْإِسْلَامُ، وَعَمُودُهُ الصَّلَاةُ، وَذِرْوَةُ سَنَامِهِ الْجِهَادُ، ثُمَّ قَالَ، أَلَا أُخْبِرُكَ بِمَلَاكِ ذَلِكَ كُلِّهِ؟ قُلْتُ: بَلَى يَا نَبِيَّ اللَّهِ، فَأَخَذَ بِلِسَانِهِ قَالَ: كُفَّ عَلَيْكَ هَذَا فَقُلْتُ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ، وَإِنَّا لَمُؤَاخَذُونَ بِمَا نَتَكَلَّمُ بِهِفَقَالَ: ثَكِلَتْكَ أُمُّكَ يَا مُعَاذُ، وَهَلْ يَكُبُّ النَّاسَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ أَوْ عَلَى مَنَاخِرِهِمْ إِلَّا حَصَائِدُ أَلْسِنَتِهِمْ؟"[4]. فالجهاد ليس فقط عبادة، ولكنه ذروة سنام الإسلام، والأحاديث في فضله يصعب حصرها.. ومع أهمية الجهاد، وأهمية احتياج الأمة إليه للزود عن أراضيها وحرماتها، ولرد الظلم ودفعه، إلا أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يتعامل من المجاهدين والأمة بصفة عامة بشيء عظيم من الرحمة، فيقدِّر ظروفهم ويخفف عنهم ويرحمهم ويرفق بهم، مع أن الموقف قد يكون حَرِجًا لدرجة لا تسمح - في عُرْفِ كثير من الناس - برفق أو رحمة!! ومن أجمل ما نجده في حياته متعلِّقًا بهذه الجزئية هو عدم خروجه بنفسه صلى الله عليه وسلم في كل المعارك الإسلامية، فكان يخرج في بعضها، وهو ما عُرِفَ في السيرة بالغزوات، وكان لا يخرج في بعضها الآخر، وهو ما عُرِفَ في السيرة بالسرايا.. فلماذا لم يخرج في كل المعارك مع اشتياقه للتضحية والبذل في سبيل الله؟! يجيب عن ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم بنفسه فيقول: "والَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَوْلَا أَنَّ رِجَالًا مِنْ الْمُؤْمِنِينَ لَا تَطِيبُ أَنْفُسُهُمْ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنِّي وَلَا أَجِدُ مَا أَحْمِلُهُمْ عَلَيْهِ مَا تَخَلَّفْتُ عَنْ سَرِيَّةٍ تَغْزُو فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَوَدِدْتُ أَنِّي أُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ أُحْيَا، ثُمَّ أُقْتَلُ، ثُمَّ أُحْيَا، ثُمَّ أُقْتَلُ، ثُمَّ أُحْيَا، ثُمَّ أُقْتَلُ"[5]. فانظر إلى رحمته بالمسلمين المطالبين بالجهاد، فإنه صلى الله عليه وسلم يرفع عنهم الحرج بالخروج في كل مرة، لأنهم سيضطرون للخروج اتباعًا له، فيقرر عدم الخروج - مع رغبته فيه - لأجل رحمتهم والرفق بهم! ثم إنه يرفض أن يخرج معه ضعيف إلى القتال رحمة به، مع أن المسلمين كثيرًا ما كانوا قِلَّة، ويحتاجون إلى كل عون، لكنه كان رحيمًا بضعفاء أمته، ولا يقبل أن يَشُقَّ عليهم حتى لو رغبوا هم في ذلك، اللهم إلا إن أصرُّوا، ورأى منهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بعض القدرة على القتال.. وقد مَرَّ بنا في مبحث الحج كيف أنه أجاب بالرفض على سؤال أم المؤمنين عائشة <الخاص بالجهاد، وهذه رحمة بالنساء، ومَرَّ بنا كذلك كيف أنه لم يقبل الأطفال الصغار في الحرب رحمة بهم، وكذلك مَرَّ بنا إرجاعه لبعض الشباب لكونهم يقومون برعاية آبائهم الكبار، وهكذا.. أما موقفه مع عمرو بن الجموح رضي الله عنه وأولاده فمِمَّا يدل على سعة رحمته، ليس من رؤية واحدة، ولكن من عدة رؤى مختلفة.. لما ندب رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس إلى بدر، أراد عمرو بن الجموح رضي الله عنه الخروج معهم، فمنعوه بنوه بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم لشدة عرجه، فلما كان يوم أُحُدٍ، قال لبنيه: منعتموني الخروج إلى بدر، فلا تمنعوني الخروج إلى أُحُد؛ فقالوا: إن الله قد عذرك. فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ فقال: يا رسول الله إن بَنِيَّ يريدون أن يحبسوني عن هذا الوجه والخروج معك فيه، والله إني لأرجو أن أطأ بعرجتي هذه في الجنة! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "أما أنت فقد عذرك الله، ولا جهاد عليك"، وقال لبنيه: "لا عليكم أن لا تمنعوه لَعَلَّ الله أن يرزقه الشهادة". فأخذ سلاحه وولَّى، وقال: اللهم ارزقني الشهادة ولا تردني إلى أهلي خائبًا. فلما قتل يوم أُحُد جاءت زوجه هند بنت عمرو عمة جابر بن عبد الله؛ فحملته، وحملت أخاها عبد الله بن عمرو بن حرام فدُفِنَا في قبر واحد؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "والذي نفسي بيده لقد رأيته يطأ الجنة بعرجته"[6]. إن الرحمة هنا مُرَكَّبة ومتعددة!! إنه في البداية رحيم به فلا يريد المشقة له لعرجه، فيعفيه من أمر الجهاد ويرحمه بالمنع، وهو في ذات الوقت رحيم بعائلته أن تُفجَعَ فيه بموته، وخاصة أن أربعة من أبنائه قد خرجوا للجهاد فليبقَ هو لرعاية مصالح بيتهم، ثم عندما وجد اشتياقه للجهاد رحم شوقه هذا ورغبته، وقدَّر موقفه، وأحس بمشاعره، فقبل منه، بل وتوسَّط عند أبنائه، وهوَّن عليهم، ولما استُشهِدَ عمرو بن الجموح رضي الله عنه بشرَّهم صلى الله عليه وسلم بمصيره لئلا يجزع أبناؤه، ولكيلا يندموا على خروجه.. إنها رحمات متتالية متتابعة مع أن الأمر مختص بجهاد وقتال.. وكان صلى الله عليه وسلم يخاف على جنوده من شدة الإرهاق والتعب، وذلك رحمة بهم، ومن ذلك ما فعله في غزوة فتح مكة، وكانت في رمضان، وصام رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنون, ثم بلغه أن الناس أُرْهِقُوا من الصيام، وكان ذلك بعد العصر، فماذا فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟! يروي جابر بن عبد الله {فيقول: خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَامَ الْفَتْحِ إِلَى مَكَّةَ فِي رَمَضَانَ فَصَامَ حَتَّى بَلَغَ كُرَاعَ الْغَمِيمِ فَصَامَ النَّاسُ، ثُمَّ دَعَا بِقَدَحٍ مِنْ مَاءٍ فَرَفَعَهُ حَتَّى نَظَرَ النَّاسُ إِلَيْهِ؛ ثُمَّ شَرِبَ فَقِيلَ لَهُ بَعْدَ ذَلِكَ: إِنَّ بَعْضَ النَّاسِ قَدْ صَامَ فَقَالَ: "أُولَئِكَ الْعُصَاةُ أُولَئِكَ الْعُصَاةُ "[7]. يا لها من رحمة بالغة!! إنه صلى الله عليه وسلم لم يشأ أن يسمح بالإفطار للناس بينما يتم هو صومه، لئلا يقع الناس في حرج، فبدأ هو بنقض صيامه والإفطار على ماء، ليكون قدوة لهم في ذلك، وأفطر معه معظم المسلمين، ولكن بقيت طائفة تريد أن تتم صومها، فلما بلغه ذلك، قال: "أُولَئِكَ الْعُصَاةُ!!"لقد قال في حقهم هذه الكلمات لأنهم لا يرحمون أنفسهم، ولا يرحمون من سيقلدهم في ذلك الأمر، أو على الأقل يتحرج من إفطاره في وجود الصائمين.. إن رحمته صلى الله عليه وسلم شملت الجيش بكامله حتى أراد لهم الراحة فلا يجمع عليهم جهد الجهاد وجهد الصيام، فإذا علمت أن كل ذلك كان بعد صلاة العصر، أدركت مدى رحمته صلى الله عليه وسلم الذي لم يشأ أن يصبر هذه المدة القليلة المتبقية على المغرب، رأفة بجيشه، ورفقًا بأمته.. وكان صلى الله عليه وسلم يهتم بجراح جنوده وجيشه، ويحرص على مداواتها بيده إن استطاع، وقد رُمِيَ سعد بن معاذ رضي الله عنه في أكحله[8] فحسمه[9] النبي صلى الله عليه وسلم بيده بمشقص[10]، ثم ورمت فحسمه الثانية"[11]. وعندما تفاقم الجرح، ولم يستطع رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يفعل شيئًا، أوكل أمر علاجه إلى رُفَيْدَة<، وكانت مشهورة بإتقانها للطب والعلاج، وضرب له خيمة في المسجد، وكان يعوده فيها بنفسه صلى الله عليه وسلم [12]. وكان يحزن على أصحابه المجاهدين إن أصابهم ألَمٌ أو قتل، وكان من رحمته أنه يبكي عليهم، مع أنهم شهداء، ومع أنه رأس الدولة، وسيتأثر الناس ببكائه، ولكنها كانت رحمة في قلبه صلى الله عليه وسلم .. يروي أنس بن مالك رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم نعى زيدًاوجعفرًا وابن رواحة للناس قبل أن يأتيهم خبرهم؛ فقال: "أَخَذَ الرَّايَةَ زَيْدٌ فَأُصِيبَ، ثُمَّ أَخَذَهَا جَعْفَرٌ فَأُصِيبَ، ثُمَّ أَخَذَهَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ فَأُصِيبَ، وَإِنَّ عَيْنَيْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَتَذْرِفَانِ، ثُمَّ أَخَذَهَا خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ مِنْ غَيْرِ إِمْرَةٍ فَفُتِحَ لَهُ"[13]. وكان يحرص على راحة جنوده النفسية، وذلك باطمئنانهم على عائلاتهم أثناء خروج الجنود للقتال.. فكان يربي وينصح ويُعلِّم أمته أن ترعى أسر المجاهدين.. يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم : "مَنْ جَهَّزَ غَازِيًا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَقَدْ غَزَا، وَمَنْ خَلَفَهُ فِي أَهْلِهِ بِخَيْرٍ فَقَدْ غَزَا"[14]. بل كان يتفقد بنفسه شئون أقارب الشهداء والمجاهدين، ليشعر المجاهد أنه إذا مات فهناك من يهتم بعائلته ويرعاها، ومن ذلك ما رواه أنس رضي الله عنه من أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَكُنْ يَدْخُلُ بَيْتًا بِالْمَدِينَةِ غَيْرَ بَيْتِ أُمِّ سُلَيْمٍ إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِ فَقِيلَ لَهُ فَقَالَ: إِنِّي أَرْحَمُهَا قُتِلَ أَخُوهَا [15]مَعِي"[16]. وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدخل على أُمِّ سُلَيْم لأنها كانت خالته إما من الرَّضاع أو من النسب على خلاف بين العلماء، فتحل له الخلوة بها[17].. وهكذا رحمته صلى الله عليه وسلم تشمل المجاهد وأسرته مما يُخفِّف كثيرًا من أعباء الجهاد.. وأختم هذا المبحث بأمر عجيب، ورحمة نادرة من رحماته صلى الله عليه وسلم ، وهي رحمته بالفارِّين من أرض القتال!!! فالفرار من الزحف كبيرة من الكبائر كما يعلم الجميع، وذكره رسول الله صلى الله عليه وسلم تصريحًا عندما قال: "اجْتَنِبُوا السَّبْعَ الْمُوبِقَاتِ[18]...." وذكر منها "وَالتَّوَلِّي يَوْمَ الزَّحْفِ"[19]. ومع ذلك فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يُفرِّق بين مَن كان عادته الفرار، ومَن حدث معه هذا الأمر كشيء عارض في حياته لا يُحتَمَلُ له تكرار، فهذا النوع الأخير كان يرحمه ويرفق به، ولا يشير إلى سلبياته.. وقد حدث فرار عدد لا بأس به من المسلمين بعد موقعة أُحد، ولم تنقل كتب السنة أو السيرة أي لوم أو عتاب من رسول الله صلى الله عليه وسلم لأولئك الفارين، بل إنه حَفَّزَهم ونشَّطهم للخروج في اليوم التالي لأُحُد لمطاردة المشركين، ولم يقبل أن يأخذ معه غير أهل أُحُد في إشارة واضحة إلى أنه يثق فيهم، ويعتمد عليهم، ويعلم أن ما حدث بالأمس في أُحُد كان هفوةً عابرةً، وخطأً لن يتكرَّرَ، ومن ثَمَّ فقد أَذَّنَ مؤذِّنُ رسول الله صلى الله عليه وسلم بطلب العدو، وأن لا يخرج معنا إلا مَنْ حضر بالأمس[20]. كذلك في أعقاب غزوة مؤتة، انسحب الجيش الإسلامي بقيادة خالد بن الوليد رضي الله عنه لأن القوتين كانتا غير متساويتين مطلقًا، فجيش الرومان أكثر من ستين ضعفًا للجيش المسلم، ويروي عبد الله بن عمر {ظروف هذا الانسحاب، ورد فعل أهل المدينة له، وكذلك رد فعل الرسول صلى الله عليه وسلم فيقول: "بَعَثَنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي سَرِيَّةٍ فَحَاصَ[21] النَّاسُ حَيْصَةً وَكُنْتُ فِيمَنْ حَاصَ فَقُلْنَا: كَيْفَ نَصْنَعُ؟ وَقَدْ فَرَرْنَا مِنْ الزَّحْفِ وَبُؤْنَا بِالْغَضَبِ ثُمَّ قُلْنَا: لَوْ دَخَلْنَا الْمَدِينَةَ فَبِتْنَا ثُمَّ قُلْنَا: لَوْ عَرَضْنَا أَنْفُسَنَا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَإِنْ كَانَتْ لَهُ تَوْبَةٌ وَإِلَّا ذَهَبْنَا فَأَتَيْنَاهُ قَبْلَ صَلَاةِ الْغَدَاةِ فَخَرَجَ فَقَالَ: مَنْ الْقَوْمُ؟ قَالَ: فَقُلْنَا: نَحْنُ الْفَرَّارُونَ قَالَ: لَا بَلْ أَنْتُمْ الْعَكَّارُونَ[22]، وأنا فئتكم"[23]. لقد قدَّر رسول الله صلى الله عليه وسلم ظرفهم، وعذرهم، ورحمهم، بل إنه لم يكتفِ بذلك، بل مدحهم وأثنى عليهم!! فهل رأى التاريخ مثل ذلك من الرحمة؟! وهل رفع قائد من عزيمة جنده - حتى في حال الفرار - مثلما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟! إنه قد ثبت لنا ما قاله ربنا: "وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ[24]". ------------------------------------------------ [1]جواهر لال نهرو (الزعيم الهندي المعروف): لمحات من تاريخ العالم، دار الجيل، بيروت، ط 1997م، ص 26. [2]تقرير نشر بمجلة الجندي المسلم، الكويت، العدد 110، فبراير 2003م. [3](الأنعام:162). [4]الترمذي (2616) وقال: حسن صحيح، وابن ماجة (3973)، وأحمد (22069)، والحاكم (3548) وقال: صحيح على شرط الشيخين ووافقه الذهبي، وقال الشيخ الألباني في صحيح الجامع: صحيح. حديث رقم (5136)... [5]البخاري: كتاب الجهاد والسير، باب تَمَنِّي الشهادة (2644)، ومسلم: كتاب الجهاد، باب فضل الجهاد والخروج في سبيل الله (1876)، والنسائي (3098)، وابن ماجة (2753)، وأحمد (7157). [6]الإصابة الترجمة (5797)، وأسد الغابة3/702. [7]مسلم: كتاب الصيام، باب جواز الصوم والفطر في شهر رمضان للمسافر في غير معصية (1114)، والترمذي (710)، والنسائي (2263). [8]أكحله: عرق في وسط الذراع. [9]حسمه: كواه ليقف النزيف. [10]مشقص: سهم بطرف حاد عريض. [11]مسلم: كتاب السلام، باب لكل داء دواء واستحباب التداوي (2208)، والترمذي، وابن ماجة (3494)، وأحمد (14382). [12]الإصابة الترجمة (3200)، أسد الغابة2/239، تاريخ الطبري2/100، عيون الأثر2/103، سيرة ابن هشام4/198. [13]البخاري: كتاب المغازي، باب غزوة مؤتة من أرض الشام (4014)، والنسائي (1878)، وأحمد (1750)، والطبراني في الكبير (1460). [14]البخاري: كتاب الجهاد والسير، باب فضل من جَهَّزَ غازيًا أو خلفه بخير (2688)، ومسلم: كتاب الإمارة باب فضل إعانة الغازي في سبيل الله (1895) واللفظ له، والترمذي (1628)، والنسائي (3180)، وأبو داود (2509)، وابن ماجة (2759)، وأحمد (17080)، والدارمي (2419)، وابن حبان (4630). [15]هو حرام بن ملحان. [16]البخاري: كتاب الجهاد والسير، باب فضل من جهز غازيا أو خلفه بخير (2689)، ومسلم في فضائل الصحابة باب من فضائل أم سليم أم أنس ابن مالك (2455). [17]النووي: شرح صحيح مسلم 16/10. [18]الموبقات: المهلكات [19]البخاري: كتاب الوصايا، باب إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما (2615)، ومسلم في الإيمان باب بيان الكبائر وأكبرها (89)، أبو داود (2874)، والنسائي (3671)، وابن حبان (5561). [20]ابن سيد الناس: عيون الأثر 2/57، ابن هشام: السيرة النبوية 4/52. [21]فحاص: انحرف وانهزم. [22]العكارون: العائدون للقتال. [23]الترمذي (1716)، وأبو داود (2647)، وأحمد (5384)،واللفظ له، والشافعي (1001)، وأبو يعلى (5781)، وسعيد بن منصور في سننه (2539)، وحَسَّنه الترمذي. [24](الأنبياء: 107).