الفصل الخامس: رحمته صلى الله عليه وسلم بالأسرىالأسرى في الاصطلاح: "هم المقاتلون من الكفار إذا ظَفَرَ المسلمون بأَسْرِهِم أحياء"[1]. وهذا التعريف يخص حالة الحرب فقط، لكن بتتبّع استعمالات الفقهاء لهذا اللفظ يتبيّن أنهم يطلقونه على كل من يُظفَر بهم من المقاتلين ومَنْ في حُكمِهم، ويُؤخَذون أثناء الحرب أو في نهايتها، أو من غير حرب فعلية، ما دام العَدَاءُ قائمًا والحرب محتملة، ويُطلق الفقهاء لفظ الأسير أيضًا على من يَظْفَرُ به المسلمون من الحربيّين إذا دخلوا دار الإسلام بغير أمان، وعلى من يَظفرون به من المرتدّين عند مقاتلتهم لنا، كما يطلقون لفظ الأسير على المسلم الذي ظَفر به العدو[2]. وسوف نتناول – إن شاء الله – هذا الفصل من خلال المباحث الآتية: المبحث الأول: وضع الأسرى في العالم قبل وأثناء ظهور الإسلام. المبحث الثاني: مبدأ العفو عن الأسرى عند رسول الله صلى الله عليه وسلم . المبحث الثالث: تعامل رسول الله صلى الله عليه وسلم مع الأسرى في حال الاحتفاظ بهم.المبحث الأول: وَضْعُ الأسرى في العالم قبل وأثناء ظهور الإسلام [3]كان الأسرى قديمًا يذبحون أو يقدمون قرابين للآلهة، ثم رؤى بعد ذلك الانتفاع بهم، فحل الاسترقاق محل القتل، وصار الأسرى يستعبدون ويتخذون للبيع والشراء ، ومن أمثلة الأمم التي عاملت الأسرى بقسوة لا هوادة فيها الفرس والإغريق، فقد كانوا ينكلون بأسراهم ويعرضونهم للتعذيب والصلب والقتل[4].هذا حالهم ولكن الإسلام شئ آخر!! نظرًا لقِدَمِ الحرب واشتعالها بين بني البشر كثيرًا، كان لابُدَّ أن يصبح أحد الأطراف غالبًا والآخر مغلوبًا، وهذا الغالب يستولي على ما للمغلوب، بل وعلى المغلوب نفسه إن استطاع ذلك، وأولاده أيضًا، وهو ما يُسَمَّى بالأَسْرِ والسَّبْي. وفي هذه الحالة يصبح الأسير فاقدًا لحرّيته، يتبع آسِرَه، ولا يملك من أمر نفسه شيئًا؛ لذا يتوقف مدى العناية التي يحصل عليها الأسير على ضميرِ ودِينِ وأخلاقِ آسِرِه. وقد تعدّدت وتنوّعت أساليب التعامل مع الأسرى من ديانة إلى أخرى، ومن مجتمع إلى آخر، ومن زمن إلى آخر. المطلب الأول: تعامل اليهود مع أسرى الحرب: يعتقد اليهود أنهم أرقى الشعوب، وأنهم يتميَّزون عن سائر الأجناس، كما يعتقدون أنَّ تميُّزهم هذا إنما هو نعمة من الربّ قد وهبها لهم، وقد جاء في سِفْرِ التثنية من التوراة المحرَّفة: "أنتم أولاد الربّ إلهكم؛ لأنكم شعب مُقَدَّس للرب إلهك، وقد اختارك الربّ لكي تكون له شعبًا خاصًّا فوق جميع الشعوب على وجه الأرض"[5]. وانطلاقًا من هذه النظرة يعتقد اليهود أن الوسيلة المُثْلَى لتحقيق وعد الربّ لهم باسترقاق شعوب الأرض هي الحرب، ومن هنا كانت حروب اليهود ضد غيرهم حروبًا تدميرية، والهدف منها الإبادة للبشر أو استعبادهم وإذلالهم، ويستشهدون لذلك بنصوص في كتبهم: "فتضرب سكان تلك المدينة بحدّ السيف، وتحرِّمها – التحريم بمعنى القتل – بكل ما فيها مع بهائمها بحد السيف.. تجمع كل أمتعتها إلى وسط ساحتها، وتحرق بالنار المدينةَ وكل أمتعتها كاملة للربّ إلهك؛ فتكون تلاًّ إلى الأبد لا تُبنَى بَعْدُ"[6]. وحتى إذا عقد اليهود الصلح مع أعدائهم، فإنهم بهذا الصلح يستعبدون عدوّهم ويستبيحون أرضه، ولا يكون لهم من هذا الصلح إلا اسمه فقط لا حقيقته، وقد جاء في سِفْرِ التثنية:"حين تقترب من مدينة لكي تحاربها استدعها للصلح؛ فإِنْ أجابتْك على الصلح، وفتحت لك، فكل الشعب الموجود فيها يكون لك للتسخير، ويُستعبد لك.. وإنْ لم تُسالمك بل عَملتْ معك حربًا، فحاصرْها، وإذا دفعها الربّ إلهك إلى يدك؛ فاضرب جميع ذكورها بحد السيف..."[7]. وكما يكون اليهود في حروبهم وحوشًا وسيلتهم التسخير وغايتهم التدمير؛ فإنهم كذلك في أعقاب الحروب لا يخضعون لقاعدةٍ في الأسر والسبي: "إذا خرجت لمحاربة أعدائك، ودفعهم الربّ إلهك إلى يدك، وسبيت منهم سبيًا، ورأيت في السبي امرأة جميلة الصورة، والتصقت بها، واتخذتها لك زوجة؛ فحين تُدخِلُها إلى بيتك تحلق رأسها، وتقلم أظافرها، وتنزع ثياب سبيها عنها"[8]. وهكذا كان اليهود يتعاملون مع أسراهم، مما يُنْبِيء عن نفسية ملأها الحقد على الغير، واستبدَّ بها حُبُّ الإفساد في الأرض، فكان هذا هو منهجها في التعامل مع أسرى الحرب. ----------------------[1] الماوردي: الأحكام السلطانية ص167.[2] ابن تيمية: مجموع الفتاوى 28/355، وابن رشد: بداية المجتهد 1/506.[3] جورج برنارد شو(الأديب الإنجليزي الشهير) :في مقال له تحت عنوان الإسلام الحقيقي‏ 1936[4] د. عبد اللطيف عامر، أحكام الأسرى والسبايا في الحروب الإسلامية ص91.[5] العهد القديم، سفر التثنية، إصحاح 14.[6] العهد القديم، سفر التثنية، إصحاح 13.[7] العهد القديم، سفر التثنية، إصحاح20.[8] العهد القديم، سفر التثنية، إصحاح 20، وراجع أيضًا الدكتور عبد اللطيف عامر: أحكام الأسرى والسبايا في الحروب الإسلامية ص 38 ، 39.