عَن سَعِيدُ بْنُ أَبِي بُرْدَةَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: بَعَثَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَدَّهُ أَبَا مُوسَى وَمُعَاذًا إِلَى الْيَمَنِ فَقَالَ: "يَسِّرَا وَلَا تُعَسِّرَا، وَبَشِّرَا وَلَا تُنَفِّرَا وَتَطَاوَعَا، فَقَالَ أَبُو مُوسَى يَا نَبِيَّ اللَّهِ إِنَّ أَرْضَنَا بِهَا شَرَابٌ مِنْ الشَّعِيرِ الْمِزْرُ وَشَرَابٌ مِنْ الْعَسَلِ الْبِتْعُ، فَقَالَ: "كُلُّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ، فَانْطَلَقَا فَقَالَ مُعَاذٌ لِأَبِي مُوسَى: كَيْفَ تَقْرَأُ الْقُرْآنَ؟ قَالَ: قَائِمًا وَقَاعِدًا وَعَلَى رَاحِلَتِي، وَأَتَفَوَّقُهُ تَفَوُّقًا قَالَ: أَمَّا أَنَا فَأَنَامُ وَأَقُومُ، فَأَحْتَسِبُ نَوْمَتِي كَمَا أَحْتَسِبُ قَوْمَتِي وَضَرَبَ فُسْطَاطًا فَجَعَلَا يَتَزَاوَرَانِ فَزَارَ مُعَاذٌ أَبَا مُوسَى، فَإِذَا رَجُلٌ مُوثَقٌ، فَقَالَ مَا هَذَا؟ فَقَالَ أَبُو مُوسَى يَهُودِيٌّ أَسْلَمَ ثُمَّ ارْتَدَّ، فَقَالَ مُعَاذٌ لَأَضْرِبَنَّ عُنُقَهُ". * * * بعث النبي صلى الله عليه وسلم أبا موسى الأشعري – عبد الله بن قيس جد سعيد بن أبي بُردة راوي الحديث – ومعاذ بن جبل واليين في مقاطعتين من أرض اليمن، وأوصاهما – كعادته عند بعث الولادة والحكام والقضاة والمفتون. كل وصية تؤكد أختها وتقويها. ونحن لا نقف طويلاً أمام هذه الوصايا، لأننا أشبعنا القول في يسر الإسلام وسماحته عند شرحنا لأحاديث التيسير التي مضى ذكرها. * * * قوله صلى الله عليه وسلم: "يَسِّرَا وَلَا تُعَسِّرَا". معناه: الزما اليسر في الأحكام، وفي الأوامر والنواهي والفتاوى، وتقسيم الأرزاق والصدقات، والإمامة بالناس في الصلوات، والجلوس مع الناس، والسير بهم في مواطن القتال، وغير ذلك مما يتطلب اليسر. وحذرهما من التعسير توكيداً للأخذ بالتيسير، فإن النهي عن الضد مؤكد للأمر بضده، فهو من الطباق المحمود الذي يزيد الأذن إمتاعاً والعقل إقناعاً، ويثير في النفوس والعواطف الكامنة، ويشعر السامع بجدية الأمر وأهميته. ولعل النبي صلى الله عليه وسلم أوصاهما بهاتين الوصيتين لعلمه أنهما كانا يحبان أن تؤدي حقوق الله – تعالى – على النحو الأكمل، وذلك ليس في وسع كل الناس، ولعلمه أنهما كانا يحبان الإطالة في الصلاة، وكان الوالي يؤم الناس، وفي الناس الضعيف والسقيم وذو الحاجة، وقد حذر النبي صلى الله عليه وسلم معاذاً من قبل من إطالة الصلاة بالناس، وقال له: "أفتان أنت يا معاذ؟" كما سبق بيانه في حديث "مَنْ أَمَّ بِالنَّاسِ فَلْيُخَفِّفْ". وكان أبو موسى رجلاً يحب قراءة القرآن، وقد خصه الله بصوت جميل. وكان معاذ بن جبل يحب – أيضاً – قراءة القرآن، وله فيه دوى كدوى النحل، فأوصاهما الرسول صلى الله عليه وسلم باليسر في جميع الأمور، ولو كان ذلك غير موافق لرغبتهما في بعض الأحيان. * * * وقوله صلى الله عليه وسلم: "وَبَشِّرَا وَلَا تُنَفِّرَا" أي رغبا الناس في ثواب الله – تعالى – وحذراهم من عذابه بألفاظ غير منفرة، بمعنى أن كلا منهما يعظ ويذكر متبعاً في ذلك أسلوب القرآن وأسلوب النبي – عليه الصلاة والسلام – من غير تكلف ولا اعتساف، فلا يقنطهم من رحمة الله، ولا يقسو عليهم في العتاب، ولا ينذرهم بالويل والثبور وعظائم الأمور إن هم خالفوا أمر الله في شيء، ولكن يجعل للناس مخارج يخرجون منها عن المعاصي إلى الطاعات بأيسر طريق، عملاً بقوله تعالى في سورة النحل: { ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ } (سورة النحل: 125). والحكمة هي: القصد في الأمور، وإصابة الهدف من غير تكلف، ووضع كل شيء في موضعه من غير تعسف. والموعظة الحسنة هي: القول البليغ الذي يرقق القلوب، ويجمع الناس على الله، ويجعلهم منه على خوف ورجاء. والمجادلة بالحسنى تكون: بإقامة الحجة والبرهان من غير شدة ولا عنف، ويكون القصد منها إحقاق الحق وإبطال الباطل وهداية الضالين. والتبشير والتحذير من غير تنفير هو سبيل النبي صلى الله عليه وسلم في دعوته، وسبيل المؤمنين معه، والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين. قال تعالى في سورة يوسف – عليه السلام - : { قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ } (سورة يوسف: 108). والبصيرة: هي تشخيص الداء ووصف الدواء. وتشخيص الداء مقدم – بالطبع – على وصف الدواء، وكل منهما يقوم على حجة ويحتاج إلى خبرة. وأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم هم نجوم الهدى، بهم تكون القدوة، وبهم يهتدي السائرون إلى الله عز وجل؛ لأنهم جسدوا لنا أخلاق النبي صلى الله عليه وسلم بقدر طاقتهم البشرية، وأبرزوا لنا أهم أوصافه السامية، ومثله العليا. * * * وقوله صلى الله عليه وسلم: "وَتَطَاوَعَا" معناه: تلاينا، واتفقا، وليطع كل منكما أخاه في العمل بما يرضي الله تعالى؛ فإن التعاون على البر والتقوى لا يتم بينكما إلا إذا لأن كل منكما لأخيه، وترك النزاع واللجاجة، والجدل العقيم. وكأن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يعلم أن بكل منهما حدة، خلقها الحرص الشديد على دين الله تعالى، فهي حدة محمودة إذا لم يشبها شيء من الاعتزاز بالرأي، واللدد في الخصومة. وهذه الوصية تؤكد الوصايا الأربعة، وتجمع بينها في إطار واحد، وهو الاتفاق التام على ما ينفع المسلمين في دينهم ودنياهم. وهذا الاتفاق إنما يُبنى على إنكار الذات ونبذ الأثرة، والتخلي عن التعسير والتنفير، فإذا اتفقا على شيء خف عليهما ثقله، وهان عليهما فعله إن كان في فعله خير، وسهل عليهم تركه إن كان في فعله شر. * * * وقد قال أبو موسى – رضي الله عنه – بعد سماع هذه الوصايا من رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا نبي الله: "إِنَّ أَرْضَنَا" – يعني اليمن فهو منها – "بِهَا شَرَابٌ مِنْ الشَّعِيرِ الْمِزْرُ"، يعني يسمى بهذا الاسم، وهو ما نسميه البيرة، "وَشَرَابٌ مِنْ الْعَسَلِ الْبِتْعُ" يسأل عن حكم شربهما فإن كانا حلالا يسرا لهم فيهما، وإن كان حراماً فلا يُسر حينئذ، بل الشدة كل الشدة على من يتعاطى واحداً منهما. فقال – عليه الصلاة والسلام – : "كُلُّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ". وهي قاعدة عامة في كل مسكر ومن عظمة الرسول صلى الله عليه وسلم تقعيد القواعد التي تندرج تحته فروع كثيرة في كلمات قليلة، فهو – صلى الله عليه وسلم – في البلاغة لا يداني، وقد خصه الله بجوامع الكلم. نعم، كل مسكر حرام، أي شيء كان. * * * قال الراوي: "فانطلقا": أي إلى اليمن، فقال معاذ لأبي موسى "كَيْفَ تَقْرَأُ الْقُرْآنَ؟". إنه يسأله عن روحه وريحانه، وقرة عينه ونور فؤاده، وقد كان كل منهما يحب تلاوة القرآن على نحو لا يعبر عنه قلم ولا لسان، شهد لهما بذلك الكثير من رواة الأحاديث وأصحاب السير. قال أبو موسى مجيباً عن هذا السؤال: "أقرأه قَائِمًا وَقَاعِدًا وَعَلَى رَاحِلَتِي"، أي على كل حال تسمح لي بقراءته. قال: "وَأَتَفَوَّقُهُ تَفَوُّقًا" أي: ألازم قراءته ليلاً ونهاراً شيئاً بعد شيء، وحينا بعد حين، مأخوذ من فواق الناقة، وهو أن تحلب ثم تترك ساعة حتى تدر، ثم تحلب، وهكذا دائماً. قال معاذ: "أَمَّا أَنَا فَأَنَامُ وَأَقُومُ فَأَحْتَسِبُ نَوْمَتِي كَمَا أَحْتَسِبُ قَوْمَتِي". أي أنا لا أفعل مثل فعلك فأقسو على نفسي بل أترفق بها، فأنام إذا غلبني النوم، فذلك من حق الجسد علي، وكيف أقرأ القرآن والنوم يغلبني، وأقوم حيث أنشط للقيام فأقرأ القرآن في صلواتي وخلواتي، وأحتسب أجري علىالله في نومتي وقومتي معاً. فإن النوم من أجل الراحة والنشاط لما بعده من العباد عبادة. وهذا – والله – هو القصد المطلوب شرعاً في العبادة وغيرها، وهو التيسير بعينه. ولست أدري أيهما أحسن حالاً ومقالاً من صاحبه، وهذا الذي جعل القرآن ورده في كل وقت وعلى كل حال مرضية، أم ذاك الذي كان يأخذ نفسه بما تستطيع، فلا يقسو عليها، ولا يلين لها وثوقاً بالله، واعتماداً على فضله وكرمه، وطمعاً في واسع رحمته. ولست أدري أيهما أعلم من الآخر بالله – نعم لست أدري – ولكن الله يدري، فهما خلاصة الخلاصة من أصحابه – صلى الله عليه وسلم – الكرام البررة بعد أبي بكر وعمر وعثمان وعلي. وينتهي هذا الحديث الشريف بقول الراوي: "فَضَرَبَ فُسْطَاطًا" أي أقام كل واحد له خيمة له ولعسكره وعماله، وقد كانت مقاطعة كل منهما قريبة من الأخرى، "فَكَانَا يَتَزَاوَرَانِ" لما بينهما من حب ووفاق في الشخصية، واتفاق على الطاعة، ولما بينهما من ود للقرآن قد جمع بينهما في بوثقة واحدة على أعظم مائدة سماوية عرفتها الدنيا. قال الراوي: "فَزَارَ مُعَاذٌ أَبَا مُوسَى، فَإِذَا رَجُلٌ مُوثَقٌ" أي مقيد بالحبال فقال: "ما هذا؟" أي ما الذي فعلته بهذا الرجل؟ وما الذي فعل؟ حتى تقيده بالأغلال؟ "فقال أبو موسى: يهودي أسلم ثم ارتد". أي ارتد عن الإسلام وأبى أن يتوب عن ردته، فأنا قد أوثقته لأقتله حداً على ردته. وفي رواية أخرى للبخاري: "قال له معاذ: يا عبد الله بن قيس، أيم هذا؟" أي أي شيء هذا الذي أراه. "قال: هذا رجل كفر بعد أسلامه، قال: لا أنزل حتى يقتل، قال: إنما جيء به لذل فأنزل، قال: ما أنزل حتى يُقتل، فأمر به فقتل". رضي الله عن معاذ وصاحبه أبي موسى وجميع أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وجمعنا بهم في جنات النعيم. * * *