منكرو السُّنَّة المعاصرين حاطبو ليل، لا يفرقون وهم يجمعون الحطب بين أعواده وبين أجسام الحيات والثعابين، ثم أنهم – كما أشرنا من قبل – يفرضون جهلهم على حقائق الإيمان، ويجعلونه هو المقياس عندهم بين الحق والباطل، والخطأ والصواب. وقد حشدوا في معركتهم مع السُّنَّة كل ما وصلت إليه جهالاتهم وأوهامهم ظانين أن بضاعتهم الكاسدة يكون لها رواج في يوم ما عند الناس. وفي هذه الشبهة يدعون أن من الحديث الصحيح ما يخالف الواقع المشاهد، فهي إذن أحاديث كاذبة إن كان النبي قالها، أو مكذوبة عليه، وإن صح سندها عند علماء الحديث. ومما ذكروه دليلاً على هذا جملة من الأحاديث نذكر منهما اثنين توخياً للإيجاز: الحديث الأول: ما رواه الترمذي عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال فيه: "قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا قبر الميت أتاه ملكان أسودان" ثم جاء في الحديث: "فيقال للأرض التئمي عليه، فتلتئم عليه، فتختلف أضلاعه، فلا يزال معذباً حتى يبعثه الله". هذا الحديث عندهم مكذوب على رسول الله رغم صحته، وسبب الحكم عليه عندهم بالكذب أمران: مخالفة للقرآن. مخالفته للواقع المشاهد. يقول أحدهم بالحرف الواحد: إن هذا الحديث مكذوب؛ لأنه يخالف الحس والواقع فما أكثر القبور التي تفتح، بعد دفن الموتى فيها، سواء في ذلك قبور المؤمنين والكافرين، فلم يشاهد فاتحوها جدران القبر قد التصقت ببعضها، ولا أضلاع الموتى قد تداخلت، ولا أجسادهم قد تهتكت"، كما يدعون – جميعاً – أن القرآن يخلو من ذكر عذاب القبر. وهكذا اجتمعت عندهم علتان قادحتان في صحة هذا الحديث، فحكموا – فض الله فاهم – بأنه حديث باطل مكذوب؟! تفنيد هذه الشبهة ونقضها: منكرو السُّنَّة لازم مذهبهم أنهم لا يؤمنون بها، وكثيراً ما أعلنوا أنهم لا يؤمنون إلا القرآن وحده، لذلك فإننا لن نحتج عليهم بالحديث النبوي، لأنهم له رافضون ونكتفي في تفنيد ونقض شبهتهم هذه بالاحتجاج عليهم بالقرآن، الذي يعلنون أنهم لا يؤمنون إلا به، وهم به جاهلون؟ إن بين منكري السُّنَّة، وبين العلمانيين شبهاً واضحاً في المذهب. وهذا ما طبقوه في رفضهم لهذا الحديث؛ رفضوه لأن معناه لم يدرك بالبصر، ولا بواحدة من الحواس الأربع الأخرى؟ وها نحن أولاء نضع أمامهم وقائع وردت في القرآن الذي يؤمنون به وحده، هذه الوقائع مثل الواقعة التي وردت في هذا الحديث سواء بسواء. ففي سورة "الأنفال" ورد قوله تعالى: { وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُواْ الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ } (آية: 50-51). إن ضرب الملائكة وجوه وأدبار الذين كفروا عنده الوفاة، وقولهم لهم: "وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ". وقولهم لهم: "ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ" مثل التئام القبر على صاحبه، وتداخل أضلاعه بعضها في بعض. والذين كفروا يموتون وأهلهم جلوس حولهم، فهل سمع منكرو السُّنَّة أهل الذين يموتون من الكفار أنهم قالوا أنهم أحسوا بضرب الملائكة لوجوه وأدبار موتاهم؟! أو أنهم سمعوا الملائكة يقولون لموتاهم ما حكاه القرآن عنهم؟! بالطبع لم يروا ولم يسمعوا، ولو كانوا قد رأوا أو سمعوا ما بقي في الدنيا كافر واحد، ولآمن أهل كل ميت كافر، ولا نمحي الكفر من الوجود. فما رأيكم يا منكري السنة؟ هل هاتان الآيتان مكذوبتان على الله؟ مثل الحديث الذي قلتم – جهلاً أنه مكذوب على رسول الله. لن تستطيعوا – ولعدة أسباب – أن تقولوا إن هاتين الآيتين مكذوبتان على الله. وهذا يلزمكم بأن تؤمنوا بصحة هذا الحديث، وبصحة أمثاله؛ لأنكم آمنتم بنظائره من القرآن، وإلا فأنتم أهل عناد ومكر، والمكر السيء لا يحيق إلا بأهله. ونحن نساعدكم على سهولة السير في طرق الإيمان إن كنتم طلاب حق. إن الوقائع التي ذكرتها الآيتان والحديث وقائع صحيحة صادقة، وإن لم نرها بعين، ولم نسمعها بأذن لأنها من شئون الآخرة، وشئون الآخرة – الآن – غيب، يجب الإيمان بها إذا جاء بها الخبر الصادق عن الله في قرآنه، أو عن الرسول في حديثه. هذا ما لم تعلموه فأتيتم بمنكر من القول وزوراً. وها هي ذي فرصة العلم به قد أتيحت لكم، فهل أنتم مؤمنون أم على قلوب أقفالها؟ الحديث الثاني: "إذا أنزل الله بقوم عذاباً، أصاب العذاب من كان فيهم ثم بعثوا على أعمالهم" رواه الإمام البخاري عن ابن عمر رضي الله عنهم. منكروا السُّنَّة حكموا على هذا الحديث – كذلك – بأنه مكذوب على رسول الله. وهدفم كما هو معروف إثارة الريب حول كتب السنة، وفي مقدمتها صحيحا البخاري ومسلم. أما السبب في هذا الكذب عندهم، فأمران كذلك: الأول: مخالفة للقرآن؟! الثاني: مخالفته للواقع والحس المشاهد؟! قال أحدهم بالحرف الواحد: فهذا الحديث أيضاً مما يكذبه الحس، فضلاً عن تكذيب القرآن الكريم له"؟! أما مخالفته للقرآن فقد استدل عليها بأيات من الكتاب العزيز، منها: { وَهَلْ نُجَازِي إِلاَّ الْكَفُورَ } (سورة سبأ: 17). { وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلاَّ وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ } (سورة القصص: 59). { إِنَّ اللَّهَ لاَ يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ } (سورة النساء: 40). { وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى } (سورة الإسراء: 15). وخلاصة استشهادهم بهذه الآيات أنها تقرر وتؤكد العدل الإلهي. أما الحديث فإنه يقدح في العدل الإلهي عندهم؟! تفنيد هذه الشبهة ونقضها: هذه الآيات التي استشهدوا بها على تكذيب الحديث الصحيح قرأوها بأبصارهم حروفاً، وعميت عنها قلوبهم فقهاً. فبعض هذه الآيات خاص بعذاب الاستئصال في الدنيا كما حدث لعاد وثمود، وقد أشار القرآن وهو ينذر مشركي العرب إلى هذا فقال: { وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَن مِّن بَعْدِهِمْ إِلاَّ قَلِيلاً وَكُنَّا نَحْنُ الْوَارِثِينَ } (سورة القصص: 58). ثم قال: { وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلاَّ وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ } (سورة القصص: 59). ولهذه الآيات نظائر في القرآن الكريم. وبعضها خاص بالجزاء في الآخرة، ومنها قوله تعالى: { وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى } (سورة الإسراء: 15). ومن أصول الإيمان أن الله لا يظلم أحداً شيئاً لا في الدنيا، ولا في الآخرة. وهذا هو الذي أريده من هذه الآيات. ولم يخرج الحديث عن هذه المعاني التي دلت عليها هذه الآيات، ولكن منكري السنة أبصروا من الحديث جزءاً وعموا عن جزء فضلوا سواء السبيل. الجزء الذي أبصروه هو "إذا أنزل الله بقوم عذاباً أصاب العذاب من كان فيهم". والجزء الذي عموا عنه هو: "ثم بعثوا على أعمالهم". فالحديث يقرر عدالة الله كما قررتها الآيات سواء بسواء: فإذا غضب الله على قوم، وسلط عليهم عذاباً عاماً أو خاصاً فهلكوا أو ماتوا، وفيهم صالحون، فإن الجميع يستوون في المصير الدنيوي، ثم يفترقون في الآخر، فريق في النار، وفريق في الجنة. بل إن السُّنَّة النبوية ترفع هؤلاء الصالحين، الذين يموتون في الكوارث إلى درجات الشهداء. فأين نسبة الظلم إلى الله في الحديث، التي يدعيها هؤلاء الماكرون؟ هذه واحدة، أما الثانية فنقول لهم فيها بصوت عال يسمع من في القبور: إن هذا الحديث يتفق مع القرآن بدرجة 100%، ولا يوجد بين الحديث والقرآن ولا حبة خردل من خلاف. لأن القرآن يقرر ما قرره الحديث بكل قوة ووضوح فالله عز وجل يقول في سورة الأنفال ما يأتي: { وَاتَّقُواْ فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَاصَّةً} (سورة الأنفال: 25). ألم يصرح القرآن بأن الفتنة – يعني العذاب إذا نزل، لا يصيب الظالمين وحدهم، بل يصيب الظالم والعادل، والعاصي والطائع. فما رأيكم يا منكري السُّنَّة؟ هل هذه الآية – كذلك – مكذوبة على الله، كما كذب البخاري وابن عمر – في زعمكم على رسول الله في حديث إنزال العذاب؟! إن عليكم أن تؤمنوا بالآية والحديث معاً، أو تكفروا بهما معاً؛ لأنهما يدلان على معنى واحد. والإيمان بالعدل الإلهي، وبصدق الرسول لا ينفك أحدهما عن الآخر. فأين – إذن – تذهبون؟ دعوى مخالفة الحديث للحس المشاهد: منكرو السُّنَّة يدعون أن الله إذا قرر هلاك قوم، وفيهم صالحون، عزل الصالحين وأهلك المجرمين، ويدعي واحد منهم أن هذا هو الواقع المشاهد؟! فهل سمعتم بكلام أي بهلول يشبه كلام هؤلاء "البهاليل" العباقرة وباريء النسم إن هذا القول مردود على قائله بمجرد سماعه والنطق به، ولا يحتاج لدليل يبطله أكثر من خروجه من "خياشيم" الناطق به، ومع ذلك نقف أمامه وقفه قصيرة قاهرة: حادث الطائرة المصرية، التي كانت قادمة من ليبيا في أوائل السبعينات، وحطمتها إسرائيل على أرض سيناء وفيها أكثر من ثلاثمائة راكب مدني، منهم الشيوخ والشباب والرجال والنساء والأطفال. أليست هذه كارثة قد وقعت، وبعلم الله، فهل كان كل ركالها مجرمين فسقه ظالمين، وأنهم هم وحدهم المجرمون في الدنيا، لذلك جمعهم الله في مكان واحد ثم أشعل فيهم النار بعيداً بعيداً عن الصالحين؟! فهل يتهم منكرو السُّنَّة الله بالظلم على هلاك الأطفال من ركاب الطائرة والأطفال أبرياء 100%؟ ومثال ثان: الزلزال الذي ضرب مصر عام 1992م كان ضحاياه من الفقراء والشيوخ والشباب والأطفال، فهل ضحايا هذه الكارثة هم وحدهم الطالحون في مصر، وبقية المصريين الذين لم يضرهم الزلزال هم الملائكة الأطهار؟! لو أن منكري السُّنَّة احترفوا حرفة التمثيل الكوميدي لأصبحوا نجوماً وأقماراً وشموساً في دنيا التهريج والإضحاك؛ والسفاسف. ولكنهم لسوء حظهم اقتحموا مجالاً ليس لهم فيه موضع قدم فانقلبوا على أعقابهم خاسرين. ورحم الله الشاعر الذي قال: إذا أنت لم تعرف لنفسك حقها هواناً بها، كانت على الناس أهون * * *