إن منكري السُّنَّة المعاصرين، يكثرون من ذكر هذه الشبهة – الآن – فقد طالعتنا كثير من الصحف الجديدة، والمجلات التي لها غرام بالسير في الممنوع، وتاريخ في ترويج الأباطيل، وكل ما ينافي الإسلام، طالعتنا هذه الصحف والمجلات بمقالات متكررة، يستخدم كاتبوها شبهة مخالفة السُّنَّة للقرآن، في الوصول إلى أغراضهم الخبيثة، وسعيهم الدءوب في إزالة ثوابت الإسلام. وفي مقدمتها سنة من أرسله الله رحمة للعالمين. ظانين أن هذه الشبهة هي الضربة القاضية للهدي النبوي، والمصدر الثاني من مصادر التشريع في الإسلام، لأن مخالفة القرآن أمر مرفوض عند المسلمين فلماذا – إذن – لا ينسفون السُّنَّة بإدعاء مخالفتها للقرآن؟ إنها فرصة ذهبية لهؤلاء المارقين الجهلة، الذين يقتفون آثار الزنادقة القدامى، حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلوه. فالزنادقة – قديماً – ادعوا هذه الدعوة، من الذين آمنوا بأفواههم ولم تؤمن قلوبهم. وساقوا بين يدي هذه الدعوى الشيطانية حديثاً قالوا فيه إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ما أتاكم عني فأعرضوه على كتاب الله، فإن وافق كتاب الله فأنا قلته، وإن خالف كتاب الله فلم أقله أنا" قال أهل العلم والبصر بالحديث النبوي: إن هذا الحديث موضوع ومكذوب على رسول الله، وأن الزنادقة والخوارج هم الذين اخترعوه من عند أنفسهم تبعاً لأهوائهم. وممن قضى عليه بالوضع الإمام عبد الرحمن بن مهدي شيخ الإمام البخاري. وبعض العلماء جاروا الخصم الذين و ضعوا هذا الحديث ليبطلوا دعواهم، فقالوا: قد عرضنا حديثكم هذا على كتاب الله فوجدناه مخالفاً للقرآن؛ لأننا لم نجد في القرآن "أن لا نقبل من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا ما وافق القرآن، بل وجدنا كتاب الله يطلق التأسي والأمر بطاعته ويحذر من مخالفة أمره على كل حال". تطبيقات: ولهم على هذه القاعدة تطبيقات كان الباعث عليها عندهم أحد أمرين: أما الجهل إن كانوا صادقين عند أنفسهم فيما يقولون وإما العناد والتجاهل، ليشتروا بآيات الله ثمناً قليلاً من مال أو شهرة أو هما معاً، ونسوق فيما يأتي نماذج من تطبيقاتهم الجاهلة. رجم الزاني المحصن: عدالة الإسلام اقتضت أن تكون جميع العقوبات الدنيوية مناسبة للجرائم المعاقب عليها، فلم يضع القرآن عقوبة شديدة على جرائم خفيفة، ولا عقوبة خفيفة على جرائم "غليظة" هذا مبدأ عام في الإسلام. وقد تكون الجرائم المعاقب عليها واحدة في حقيقتها وصفاتها ثم تختلف العقوبة الموضوعة لها مراعاة للظروف التي وقعت فيها الجريمة. وهذا نراه بكل وضوح في جريمة "الزنى" إذا وقعت من غير متزوج، وهو ما يعبر عنه الفقه بـ "غير المحصن" أو وقعت من المتزوج، وهو المعبر عنه في الفقه بـ"المحصن" وعدم الإحصان يكون غالباً في مرحلة الشباب، وهي أكثر مراحل العمر إحساساً بالغريزة "الجنسية" وإلحاحاً لإشباعها، ويكون الشباب أضعف ما يكونون قدرة على كبح جماحها ومقاومتها. وهذا ظرف مخفف للعقوبة على جريمة الزنى إذا وقعت في هذه الأحوال. لذلك جعل الإسلام عقوبتها الجلد مائة؛ جاء ذلك في قوله تعالى: { الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ } (سورة النور: 2). أما المتزوج إذا زنى، وعنده من الحلال ما يغنيه عن الزني رجلاً كان أو امرأة، فهذه الجريمة تقع منه ولا عذر له فيها، ولذلك جعل الإسلام عقوبة هذه الجريمة هي الرمي بالحجارة حتى الموت، ويطلق الفقه على هذه العقوبة مصطلح "الرجم". والعقوبة الأولى (الجلد مائة) ثابتة بالنص القرآني كما تقدم. أما العقوبة الثانية "الرجم" فطريق ثبوتها هي السُّنَّة النبوية القولية والعملية على حد سواء. السُّنَّة القولية: حديث عبادة بن الصامت: ".. البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام. والثيب بالثيب جلد مائة، والرجم". حديث ابن مسعود مرفوعاً: "لا يحل دم امريء مسلم إلا بإحدى ثلاث: الثيب الزاني، والنفس بالنفس، والتارك لدينه المفارق للجماعة". وروي أبو داود والحاكم مثله من حديث عائشة رضي الله عنها، مع بعض الاختلاف في اللفظ، لكن المعنى في الحديثين واحد. السنة العملية: الوقائع التي حدثت في عصر النبوة، وتم فيها رجم الزناة المحصنين مشهورة، وأشهرها واقعتان هما: رجم النبي صلى الله عليه وسلم ماعزا لما جاءه مقرأ بأنه زنى، ثم رجم "الغامدية" التي صلى عليها النبي صلاة الجنازة بعد رجمها، وأثنى على حسن توبتها والرجوع إلى الله. ثم نهج الخلفاء الراشدون رضي الله عنهم نهج الرسول في رجم الزناة المحصنين، واتفق على عقوبة "الرجم" علماء الأمة. ومن يرجع إلى مباحث "الحدود" في كتب الفقه يتبين له أن رجم الزناة المحصنين هو الموقف الثابت في الإسلا قولاً وعملاً. وما تزال بعض الأقطار الإسلامية تطبق هذه العقوبة، ولا ترى فيها خروجاً عن شريعة الله، وهذا هو الحق والصواب. مغالطات منكري السُّنَّة: منكرو السُّنَّة يقولون إن أحاديث ووقائع رجم الزناة المحصنين أحاديث ووقائع باطلة، لم يقلها النبي ولم يرجم زانيا، حتى وإن وردت هذه الأحاديث والوقائع في صحيحي البخاري ومسلم، وفي غيرهما من كتب الصحاح؟! هكذا يقولون بكل إصرار وجزم؛ والسبب عندهم أن هذه الأحاديث والوقائع مخالفة للقرآن، لأن القرآن حدد عقوبة الزنا بالجلد مائة، وفي الآية الثانية من سورة "النور" ولم يفرق بين الزاني المحصن وغير المحصن. وما دامت هذه الأحاديث والوقائع مخالفة للقرآن فهي إذن باطلة، ومكذوبة على النبي صلى الله عليه وسلم. تفنيد هذه الشبهة ونقضها: ونحن نواجه هذه الشبهة – هنا – شبهة مخالفة السُّنَّة للقرآن نواجهها باعتبارين: الأول: مواجهة الشبهة نفسها دون النظر إلى النماذج التطبيقية التي يذكرونها شواهد عليها. وهذه المواجهة سترجئها إلى نهاية الحديث عنها. الثاني: مواجهة الشبهة بالنظر إلى النماذج التطبيقية عندهم واحداً واحداً. وهذا ما نبدأ به الآن، فنقول. أن قولهم أن أحاديث رجم الزاني المحصن باطلة؛ لأنها جاءت مخالفة للقرآن. هذا القول لا يصدر إلا عن أحد رجلين: رجل حسن النية، ولكنه جاهل بالقرآن والسنة، معاً ورجل سيء النية، سواء صحب سوء نيته جهل أو لم يصحبه جهل فهذه الأحاديث وما صاحبها من وقائع عملية لا مخالفة بينها وبين القرآن، إلا في أوهام الجهلة، والمعاندين. تجريم الفساد: فالقرآن الكريم يجرم الفساد والإفساد في الأرض في عدة مواضع: { وَلاَ تَعْثَوْا فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ } (سورة البقرة: 60). وفي سورة الأعراف يقول: { وَلاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِهَا...} (سورة الأعراف: 56). وفي سورة القصص يقول: { وَلا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الأَرْضِ...} (سورة القصص: 77). عقوبات المفسدين: وما دام الفساد والإفساد في الحياة محرماً ومنهياً عنه كان من الحكمة وضع عقوبات دنيوية عاجلة، على أنواع من الفساد تضر بحياة الأفراد والجماعات. وفي هذا رود قوله تعالى في سورة المائدة: { إِنَّمَا جَزَؤُاْ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَاداً أَن يُقَتَّلُواْ أَوْ يُصَلَّبُواْ أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم مِن خِلافٍ أَوْ يُنفَوْا مِنَ الأَرْضِ } (آية: 33). في هذه الآية الحكيمة وضع الله أربع عقوبات لجرائم الأخلال بالأمن العام والخاص وانتهاك الحرمات. وهي الجرائم التي يصدق عليها وصف محاربة الله ورسوله، والإفساد في الأرض. الزنى محاربة وإفساد: والزنى، من أبشع الجرائم الخلقية، المسقطة للمروءة والشرف. وقد اجمعت الرسالات السماوية على تأثيمه وزجر مقترفيه. ونظرة خاطفة إلى سرد العقوبات الأربع التي وردت في آية "المائدة" تريك أن القرآن جعل العقوبة الأولى هي "التقتيل" وهو مأخوذ من الفعل: "أن يقتلوا". فالزنى من أفحش أنواع الفساد والإفساد في الأرض. والرجم الذي ورد في السُّنَّة الطاهرة عقوبة للزناة المحصنين نوع من "التقتيل" الذي ورد في آية "المائدة" عقوبة أولى على محاربة الله ورسوله والإفساد في الأرض. فالقرآن والسنة في توافق تام في تحديد هذه العقوبة. فأين – يا ترى – مخالفىة السُّنَّة للقرآن في تحديد الرجم للزناة المحصنين، كما يزعم منكرو السنة النبوية؟ بل إننا نرى دقة متناهية بين معنى الرجم ومعنى التقتيل. فالرجم هو الرمي بالحجارة حتى الموت. فأسباب الموت فيه بطيئة ومتكررة. وهذا المعنى هو الذي يفهم من "التقتيل" لأنه مصدر الفعل الثلاثي المضعف (قتل) على وزن "فعل" وهو يفيد معنى التكرار والتتابع المفهوم من لفظ "الرجم" لإن فيه تتابعاً بين القذف بالحجارة حتى الموت فأين دعاة مخالفة السنة للقرآن من هذه الدقائق والأسرا الملجمة لكل أفاك أثيم؟ لا وصية لوارث: ومن الأحاديث التي عدوها مخالفة للقرآن، قوله صلى الله عليه وسلم "لا وصية لوارث" وهذا الحديث له منزلة عظمى في التشريع الإسلامي غابت عن منكري السُّنَّة، ثم قابلوا بين هذا الحديث وبين قوله تعالى: { كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِن تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ } (سورة البقرة:180). وظهر لهم من خلال هذه المقابلة، أن الآية والحديث متعارضان: الآية تحت على الوصية عند الموت للوالدين والأقربين، والوالدان من ورثة الميت بلا جدال، وكذلك الأقربون كالإخوة ة والأخوات والأبناء، وهم أقرب فروع الميت، أما الحديث فينفي صحة الوصية للوارث، سواء كان أصلاً للميت كالأب والجد، أو فرعاً كالابن وابن الابن وهذل حملهم على القول بأن الحديث باطل لم يقله النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنه – عندهم – مخالف للقرآن. لقد حفظوا شيئاً وغابت عنهم أشياء. ولو أنهم كانوا بصراء بتاريخ التشريع لما وقعوا في هذه المخالفة التي خُدعوا بها مخالفة ظاهرية، أما عند التحقيق فلا مخالفة أبداً بين هذه الآية وبين هذا الحديث. هذه الآية نزلت قبل آيات المواريث في سورة النساء والتي بدأت بقوله تعالى: { يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ } (سورة النساء: 11). وكان المتبوع عند الناس قبل نزول آيات التوريث أن المالك حر في توزيع تركته، غير ملزم بنظام معين وربما حرم الأبناء آباءهم وأمهاتهم من منحهم شيئاً من أموالهم وهم في ساعة الاحتضار. وهذا غبن للأباء والأمهات، فنزلت الآية تذكر الأبناء بما لوالديهم عليهم من حقوق، تستوجب الإحسان إليهم وتخصيص مقدار من أموال التركة لهم، وللأقربين الأدنين ولما نزلت آيات التوريث، ووزع الله تركة الميت توزيعاً عادلاً بين أصوله وفروعه، وبين الأزواج، وحدد الله أنصباء الأباء والأمهات فيما بين الثلث والسدس وكذلك الأبناء والإخوة والأخوات. وبعد هذا التحدي الإلزامي لأنصباء الوالدين والأقربين صار من الظلم أن يجمع الوالدان والأقربون بين نصيب كل منهم من تركة المتوفي، وبين مال يستحقونه عن طريق الوصية. لذلك أذن الله لرسول الكريم أن يقول "لا وصية لوارث" تحقيقاً للعدل والإنصاف. فالوصية شرعت في ظل حرمان الوالدين والأقربين من تركة المتوفي، وبعد توزيع التركة إلزامياً على الوالدين والأقربين، لم يعد للوصية لهم سب وجيه. هذا هو فقه المسألة، وبه يزول توهم مخالفة السُّنَّة للقرآن، ومحال أن يكون بين السًّنَّة والقرآن مخالفة ظاهرة أو خفية. لكن منكري السُّنَّة يتخذون من جهلهم المركب بالقرآ والسُّنَّة، وقيم الإسلام ومبادئه السامية، يتخذون من هذا الجهل قاضياً على حقائق الإسلام. ومع هذا الجهل يتباكون بدموع "الثعالب" على حاضر الأمة ومستقبلها، ويجعلون سًّنَّة خاتم النبيين هي السبب في تخلف الأمة وضياعها { كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِن يَقُولُونَ إِلاَّ كَذِبًا } (سورة الكهف: 5). تفنيد هذه الشبهة ونقضها: قاتل الله الجهل، فإنه سبب كل بلية، وقاتل الله العناد، فإن مطية الهلاك. هذه الشبهة سواء كان الباعث عليها الجهل أو العناد، فهي شبهة واهية، لا تثبت أمام الحق. والحديث الذي قضوا فيه بمخالفته للقرآن متفق مع القرآن تمام الاتفاق، وإليك البيان. أولاً: قول تعالى: { لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ } لم يرد في مقام الحديث عن الردة والمرتدين، وإنما ورد في مقام الدعوة إلى الإيمان بوجه عام، فهو نظير قوله تعالى: { وَقُلِ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ فَمَن شَاء فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاء فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا } (سورة الكهف: 29). والمعنى أن الرسول، والدعاة معه أو من بعده، ليس من الواجب عليهم حمل الناس بالإكراه على الدخول في الدين، بل عليهم البلاغ الواضح. فمن آمن فقد اهتدى، ومن ظل على كثرة فحسابه على الله. هذا هو معنى هذه الآيات. والحديث بيان لعقوبة من كان مؤمناً فكفر. وبهذا يتبين أن للآية { لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ } مقاماً غير مقام الحديث "بدل بدل دينه فاقتلوه" إذن فالجهة – كما يقول الأزهريون – منفكة، وهذا معناه أنه لا تعارض بين الآية والحديث، ولا مخالفة في الحديث للقرآن. ثانياً: أما آية النساء، التي حكت قصة قوم آمنوا ثم كفروا، ثم آمنوا ثم كفروا، ثم ازدادوا كفراً، فلا تعارض بينها وبين الحديث كذلك. لأن هذه الآية تصف أحوال المنافقين "السرية" أو النفسية، والمنافقون – كما هو معروف – كانوا يحرصون دائماً على إظهار الإيمان. سواء كان إيماناً مصطنعاً أو شعروا بإيمان حقيقي في لحظات عابرة. إذن فإن تنقلهم بين الكفر والإيمان كان أحوالاً نفسية، لم يظهروها لغيرهم. والإسلام – في الدنيا – يجري أحكامه على ظاهر الحال، أما السرائر فأمرها موكول إلى الله قطعاً. وصفوة القول مما تقدم أننا أزلنا شبهة مخالفة هذا الحديث للقرآن بأقطع البراهين. وبقي علينا أن تثبت موافقته للقرآن رغم أنوف آباء ذر. موافقة الحديث للقرآن: هذا الحديث الذي عده هؤلاء الحمقى مخالفاً للقرآن هو في الواقع الذي لا يُدفع موافق للقرآن، ودليلنا من القرآن هو الآتي: أولاً: أن قوله صلى الله عليه وسلم "من بدل دينه فاقتلوه" هو – بلا نزاع – قضاء قضي به رسول الله، وقضاء رسول الله واجب الطاعة كقضاء الله نفسه عز وجل. بل هو قضاء الله نفسه، لأنه هو الذي قرر هذا في قوله تعالى: { وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِن أَمْرِهِم وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُبِيناً } (سورة الأحزاب: 36). أليس هذا هو كلام الله عز وجل؟ ثانياً: أن هذا القضاء النبوي "من بدل دينه فاقتلوه" حكم أتانا به الرسول، الذي لا ينطق عن الهوى، ولم يقل إلا حقاً. ونحن بصريح القرآن مأمورون بطاعة هذا الرسول في كل ما أمر به، أو نهى عنه: { وَمَآ ءَاتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُواْ...} (سورة الحشر: 7). ومن قبل هاتين الآيتين كان قوله عز وجل: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ } (سورة النساء: 59). وقد بينت هذه الآية أن للرسول طاعة خاصة كطاعة الله. والطاعة الخاصة له صلى الله عليه وسلم تكون في سنته المضافة إلى القرآن وسُّنَّة الرسول هي بالإجماع: أحاديث التي صح صدورها عنه. أفعاله في مقام التشريع والتبليغ عن الله. تقريراته وموافقاته لأعمال تقع أمامه من غيره، فلم ينه عنها هذا هو الحق. وماذا بعد الحق إلا الضلال. خطأهم في فهم المخالفة: منكرو السُّنَّة النبوية، ليس لهم في هذه السوق بضاعة رائحة، ولا سلاح يحققون به انتصاراً، لذلك تكبو كل خطوة يخطونها في هذه المسالك الوعرة. وعلى كثرة ما يكتبون لا تجد لهم صواباً واحداً يعتد به، وهذا أمر بدهي لأن العودة الأعوج لا يستقيم له ظل. ولو شاب الغراب. ففي هذه الشبهة، شبهة مخالفة السنة للقرآن، تراهم يسيئون فهم هذه المخالفة المدعاة، ويوسعون – جهلاً – من مفهومها على خلاف ما يرى علماء الأمة، وأئمة الهدى منذ عصر الإسلام الأول وإلى الأن. وهذا الفهم المعوج لمفهوم المخالفة، أوقعهم في الوحل، أو في خندق ضيق خانق للأنفاس. فموافقة، السُّنَّة للقرآن – عندهم – تكون بترديد السُّنَّة معاني القرآن بألفاظها، أو ما هو قريب من ألفاظها. فمثلاً قوله صلى الله عليه وسلم: "أد الأمانة إلى من أئتمنك" موافق للقرآن، لأن الله يقول: { إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤَدُّواْ الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} (سورة النساء: 58). وكل ما عدا هذا فهو من قبيل المخالفة للقرآن لا الموافقة فقد ضيقوا مفهوم الموافقة ووسعوا المخالفة فوقعوا في محاذير لا نهاية لها، لأن موافقة، الأحاديث للقرآن في اللفظ والمعنى معاً أمر نادر الوقوع، والتمسك به يحدث فجوات واسعة بين القرآن والسُّنَّة. وهذا ما جعل منكري السُّنَّة أضحوكة الأضاحيك عند العقلاء وأهل العناد منهم يقصدون ذلك قصداً، لأنه أعون لهم على تحقيق مآربهم ومآرب أعداء الإسلام من الإسلام نفسه. الموازنة على ثلاث درجات: علماء الحق رضي الله عنهم، جعلوا الموازنة بين السنة والقرآن على ثلاث درجات، بالنظر إلى جميع ما أطلق عليه أنه حديث، أي ما يشمل الأنواع الأربعة وهي: الحديث الصحيح. الحديث الحسن. الحديث الضعيف. الحديث الموضوع. والدرحات الثلاث هي: الأولى: ما وافق القرآن من الأحاديث الثانية: ما لم يوافق القرآن منها. الثالثة: ما لم يوافق القرآن ولم يخالفه. وأحاديث الدرجة الأولى، وهي ما وافق القرآن هي من السُّنَّة إذا صح سندها، وسلم متنها. أما ما يندرج تحت مفهوم الدرجة الثانية، وهي ما ثبتت مخالفته للقرآن، فهذه ليست من السُّنَّة، ومحال أن تكون نسبتها إلى الرسول صحيحة. فهي أحاديث مكذوب قطعاً. ثم اصطلحوا على تسميتها بالأحاديث "الموضوعة" أما أحاديث الدرجة الثالثة، وهي ما لا مخالفة فيها للقرآن ولا موافقة، فهي مثل أحاديث الدرجة الأولى إذا صح سندها، وسلم متنها، فهي من حديث الرسول. وهي أكثر أحاديث السنة في الواقع ونفس الأمر. وليس في قولهم: "ما لم يوافق القرآن ولم يخالفه" جمع بين النقيضين كما يبدو من ظاهر العبارة، لأن مرادهم منها ما سكت عنه القرآن ولم يذكره، أو هو "المسكوت عنه في القرآن" وهذا النوع لا ترى فيه موافقة، للقرآن ولا ترى فيه مخالفة له في الوقت نفسه. فمثلاً قوله صلى الله عليه وسلم "إذا سمعتم المؤذن فقولوا كما يقول" لا موافقة فيه للقرآن لأن القرآن لم يذكر هذا القول. ولي فيه مخالفة للقرآن، لأن القرآن لم يرد فيه ما ينهي المسلم عن هذا الترديد لقول المؤذن. ومثلاً آخر، قوله صلى الله عليه وسلم: "الخيل معقود في نواصيها الخير" لا مخالفة فيه ولا موافقة للقرآن، لأن القرآن سكت عنه، ولم يرد فيه نص يخالف ما قرره النبي في فضل الخيل. هذا هو الحق الأبلج الذي عليه العلماء البررة الورعون فقد أجمعوا عى أن الحديث النبوي لا يمكن أن تقع بينه وبين القرن مخالفة لأن السنة بيان أمين صادق للقرآن، ولن يخالف البيان الأمين الصادق مقاصد المبين قال عز وجل: { وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ } (سورة النحل: 44). وأحاديث الدرجة الثالثة من درجات الموازنة بين السنة والقرآن لا تكاد تحصى، لأنها دارت مع مقاصد الكتاب العزيز في كل شئون الحياة. ومنكرو السُّنَّة ما وسهوا من دائرة المخالفة، بين السُّنَّة والقرآن قضوا على أحاديث الدرجة الثالثة، وهي الأحاديث التي نطقت حيث سكت القرآن، قضوا عليها بالبطلان جميعاً لأنها عندهم مخالفة للقرآن، أو أن البطلان هو لازم مذهبهم ومن يتتبع ما يكتبونه – الآن – في الصحف والمجلات، أو الكتب التي يصدرونها، يجدهم يتهافتون حول الإسراف في رفض الأحاديث، ورفض ما بني عليه من تشريعات وأحكام فقهية تتعلق بالعبادات والمعاملات والأخلاق والسلوك وربما العقائد والأصول. نوعا الموافقة: علماء الأمة – سلفاً وخلفاً – مجمعون على موافقة كل ما صح صدوره عن رسول الله صلى الله عليه وسلم للقرآن، سواء في ذلك أقواله وأفعاله وتقريراته. ولم يشذ منهم أحد، ولكن لا على طريقة منكري السنة، التي تقدم بيانها. وقالوا: إن موافقة السنة للقرآن على نوعين: أحدهما: موافقة جلية واضحة لا تحتاج إلى طول نظر وفكر وذلك مثل الاحاديث في تأثيم الربا، وبر الوالدين، والتمسك بالكتاب والسنة فهذه تجد الموافقة بينها وبين آيات القرآن جلية واضحة كالشمس في صافية النهار. والثاني: موافقة دقيقة فيها نوع خلفاء، تحتاج إلى طول نظر وفكر. وقد ظفرنا – نحن – بقبس منخا حين أثبتنا الموافقة بين رجم الزناة المحصنين، الذي ثبت بطريق السنة، وبين مباديء القرآن الكلية في تحديد العقوبات الأربع على جرائم محاربة الله ورسوله، والسعي في الأرض فساداً في قوله عز وجل: { إِنَّمَا جَزَؤُاْ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَاداً أَن يُقَتَّلُواْ... } (سورة المائدة: 33) حيث ظهر لنا توافق الرجم مع "التقتيل" أصلان كليان: فإذا لم يسعفنا النظر في كتاب الله بوجه للموافقة بين حديث صح صدوره عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبين القرآن فإن في القرآن أصولاً كلية عامة تضفي على الحديث صفة الموافقة، وتنفي عنه وصمة المخالفة. ويكفينا هنا أن نذكر منها أصلين، وإن كانت الإشارة إليهما قد تقدمت: أولهما: قوله تعالى في سورة الأحزاب: { وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالا مُّبِينًا } (آية: 36). والثاني: في سورة الحشر: { وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا } (الحشر: 7). إن هذين الأصلين كافيان لمواجهة الشغب الذي يثيره زنادقة العصر من منكري السنة، وادعائهم أنها، أو كثير منها مخالف للقرآن. ورحم الله عمر بن الخطاب رضي الله عه، فقد قال في هؤلاء المارقين وأمثالهم: "ستأتي أقوام يجادلوكم بمتشابه القرآن، فخذوهم بالأحاديث، لأن أهل السنن أعلم بكتب الله". متى تجب موافقة السُّنَّة للقرآن؟ لا خلاف بين علماء الأمة سلفاً وخلفاً حول موافقة السنة للقرآن، وأن في القرآن أصولاً تحمل عليها السنة في كل ما ورد فيها، وأن ما ثبت خلافه للقرآن – يقيناً – مما ينسب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهو غير صحيح النسبة إليه، وقد عرفنا أن طريقة علماء الأمة من موافقة السنة للقرآن تختلف عن تصورات منكري السنة وأوهامهم الباطلة ف هذا المجال. وبقى فرع مهم ينبغي الإشارة إليه، وهو أن موافقة السُّنَّة للقرآن واجبة وجوباً قطعياً في الأحاديث والأفعال والتقريرات المتعلقة بأفعال المكلفين في العقائد والعبادات والمعاملات والأخلاق. هذا موضع إجماع بين العلماء على اختلاف تخصصاتهم في علوم الإسلام. مفسرون، ومحدثون، وأصوليون، وفقهاء، ومتكلمون قال الإمام الشاطبي في كتابه الموافقات [4/57] ما يلي "والثاني: أن لا يقع – يعني الحديث النبوي – موقع التفسير ولا فيه معنى تكليف اعتقادي أو عملي، فلا يلزم أن يكون له أصل في القرآن، لأنه أمر زائد على مواقع التكليف... فالسُّنَّة إذا خرجت عن ذلك فلا حرج، وقد جاء من ذلك في الصحيح، كحديث أبرص وأقرع وأعمى، وحديث جريج العابد، ووفاة موسى، وجمل من قصص الأنبياء عليهم السلام، والأمم قبلنا، مما لا ينبني عليه عمل، ولكن في ذلك من الاعتبار على نحو ما في قصص القرآن..." وصفوة القول: أن موافقة السُّنَّة للقرآن إنما تجب في شئون التكليف الاعتقادي والعملي. أما فيما عدا هذا فالموافقة ليست واجبة، فقد تنفرد السنة بأمور ليس لها وجود في القرآن، وقد يكون لها وجود في القرآن والسنة معاً، لكن التوافق ليس مطلوباً، وقد أشار الإمام الشاطبي – كما تقدم – إلى بعض ما انفردت به السنة، ونحن نضيف إلى ما قاله قصة الرجل الذي قتل تسعاً وتسعين نفساً ثم سأل هل له من توبة، فأفتى المسئول بأنه لا توبة له فقتله وأكمل به المائة، ثم سأل آخر: هل له من توبة، فأفتاه بأن له توبة فتاب. هذه القصة لم ترد في القرآن، ومع هذا لا يعتبر الحديث الذي قصها مخالفاً للقرآن. وقصة أصحاب الأخدود وردت في القرآن في سورة "البروج" كما وردت في أحاديث القصص النبوي، ولو كانت السنة قد انفردت بذكرها لما كانت مخالفة للقرآن مخالفة ينسحب أثرها على الحديث بالبطلان. * * *