تعامُله مع أبي ذر:كان رسول الله بما أوتي من فَهْم، قد أدرك نفسية أبي ذر التي تكره الظلم، وتأخذ نفسها بالشدة والزهد، فوجَّهه إلى أن يكون نصيرًا للمحتاجين ثابتًا على مبدأ الحق، وإن خالفه الناس؛ ولأنه فَهِم تلك النفسية العازفة عن الدنيا قال له عندما طلب الإمارة يومًا: يا رسول الله، ألا تَستعملني في أي منصب، قال: فضرب بيده على مَنْكِبي، ثم قال: ((يا أبا ذرٍّ، إنك ضعيفٌ، وإنها أمانة، وإنها يوم القيامة خزي، وندامة إلا من أخَذها بحقِّها، وأدَّى الذي عليه فيه))[1]. تعامله مع أبي سفيان:كان أبو سفيان من أكثر المشركين عداءً لرسول الله ولدعوة الإسلام، وكان أحدَ القُوَّاد الذين يقودون المعارك ضد رسول الله، ولكن رسول الله كان يودُّ له الخير، ويرجو أن يهديَه الله إلى دينه الحق؛ لذا تعامَل مع نفسيته التي تحب الفخر والتي اعتادت على مظهر القوة، وقدَّم له الدليل العملي على قوَّة الإسلام، وانتشار أمره في الجزيرة العربية؛ مما كان له أثرُه الكبير في نفس أبي سفيان؛ فاستجاب لداعي الحق وأعلَن إسلامه عَقِب الفتح. ولْنَرَ في حديث العباس كيف تعامل الرسول مع أبي سفيان قائد جيش المشركين قبل إسلامه: قال العبَّاس: قلتُ: يا رسول الله، إنَّ أبا سفيان رجل يحب الفخر، فاجعل له شيئًا، قال: ((نعَم، من دخَل دار أبي سفيان فهو آمِنٌ، ومن أغلَق بابه فهو آمِن، ومن دخل المسجد فهو آمن))، فلمَّا ذهب لينصرف، قال رسول الله: ((يا عباس، احبسه بمضيق الوادي عند خَطْم الجبل، حتى تمر به جنود الله فيراها))، قال: فخرجت حتى حبسته حيث أمرني رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - ومرَّت القبائل على راياتها، كلما مرت قبيلة، قال: يا عباس، من هذه؟ فأقول: سُليم، فيقول: ما لي ولسُلَيم، ثم تمر به القبيلة، فيقول: يا عباس، من هؤلاء؟ فأقول: مُزينة، فيقول: ما لي ولِمُزينة، حتى مرَّ به رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - في كتيبته الخضراء، فيها المهاجرون والأنصار، لا يُرى منهم إلا الحَدَق من الحديد، قال: سبحان الله يا عباس! من هؤلاء؟ قال: قلت: هذا رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - في المهاجرين والأنصار، قال: ما لأحد بهؤلاء قِبَلٌ ولا طاقة، ثم قال: والله يا أبا الفضل، لقد أصبح مُلك ابن أخيك اليوم عظيمًا، قال: قلت: يا أبا سفيان، إنها النبوة، قال: فنعَم إذًا، قال: قلت: النَّجاء إلى قومك. إن في هذه القصة دروسًا وعِبَرًا وحِكَمًا في كيفية معاملة رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - للنفوس البشرية، ومن أهم هذه الدروس: عندما أصبح أبو سفيان رهينة بيد المسلمين، وأصبح رهْن إشارة النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - وهمَّ به عمر، وأجاره العباس، ثم جاء في صبيحة اليوم الثاني ليمثُلَ بين يدي رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - وكانت المفاجأة الصاعقة له بدل التوبيخ والتهديد والإذلال أن يدعى إلى الإسلام، فتأثر بهذا الموقف واهتزَّ كِيانه، فلم يملك إلا أن يقول: بأبي أنت وأمي يا محمد، ما أحلمَك وأكرمَك وأوصلَك! إنه يُفدِّي رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - بأبيه وأمِّه، ويُثني عليه الخير كله: ما أحلمَك وأكرمَك وأوصلَك![2]. وعندما قال العباس للنبي - صلَّى الله عليه وسلَّم -: إن أبا سفيان رجل يحب الفخر، فاجعل له شيئًا، قال النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((نعم، من دخل دار أبي سفيان فهو آمِنٌ))، ففي تخصيص بيت أبي سفيان شيءٌ يُشبع ما تتطلَّع إليه نفسُ أبي سفيان، وفي هذا تثبيت له على الإسلام وتقويةٌ لإيمانه، وكان هذا الأسلوب النبوي الكريم عاملاً على امتصاص الحقد من قلب أبي سفيان، وبرهن له بأنَّ المكانة التي كانت له عند قريش، لن تنتقص شيئًا في الإسلام، إن هو أخلَص له وبذل في سبيله، وهذا منهج نبويٌّ كريم، على العلماء والدعاة إلى الله أن يستوعبوه ويعملوا به في تعاملهم مع الناس[3]. ------------------------------- [1] الراوي: أبو ذر الغفاري، المحدِّث: الألباني، المصدر: غاية المرام، الصفحة أو الرقْم (174). [2] فقه السيرة النبوية؛ للغضبان، ص (564). [3] السيرة النبوية؛ د. علي الصلابي.