سَبِيلُ النَّجَاةُ عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ رضي الله عنه قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا النَّجَاةُ؟ قَالَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "أَمْسِكْ عَلَيْكَ لِسَانَكَ، وَلْيَسَعْكَ بَيْتُكَ وَابْكِ عَلَى خَطِيئَتِكَ". * * * كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يخشون عذاب الله – تبارك وتعالى – من كثرة ما سمعوا من رسول الله صلى الله عليه وسلم من المواعظ والعبر، حتى كان يخيل لأحدهم – من شدة الخوف – أن النار أمامه يراها بعينيه تستعر وتتلظى، وكأنه يساق إليها بكثرة ذنوبه وتقصيره في طاعة ربه. لذا كان يسأل الكثيرمنهم عن سبل النجاة من عذاب الله – عز وجل -، ويقول في الدنيا قبل أن يقول في الآخرة: أين المفر؟. يقول ذلك وهو يعلم أنه لا ملجأ من الله إلا إليه، ولا منجاة من غضبه إلا بعفوه. وهذا واحد منهم يسأل النبي صلى الله عليه وسلم عن النجاة، بأي عمل تكون، وكيف السبيل إليها، ومن أين تطلب، فيجيبه النبي صلى الله عليه وسلم في أسلوب موجز بليغ عن هذا السؤال الملح، ليعرف أن النجاة هي المطلب الذي ليس وراءه مطلب، وأن الحصول عليها سهل ميسور لمن استعان بالله – عز وجل -، وأنها محصورة في ثلاثة أصول هن من أمهات التقويم الخلقي والعلاج النفسي. فيقول صلى الله عليه وسلم: "أَمْسِكْ عَلَيْكَ لِسَانَكَ، وَلْيَسَعْكَ بَيْتُكَ وَابْكِ عَلَى خَطِيئَتِكَ". وسنقف عند هذا الحديث وقفة تأمل دون أن نبسط القول فيه، لأننا قد تكلمنا عن آفات اللسان في حديث سابق، وتكلمنا أيضاً عن وجوب لزوم البيوت عند وقوع الفتن، وكذلك تكلمنا عن التوبة وأركانها وشروط صحته في حديث آخر. * * * يؤخذ من الوصية الأولى ثلاثة أمور: أحدها: أن الأول في الذكر هو الأول في العمل؛ فإن حبس اللسان عن الكذب والغيبة والدميمة، والقذف والسب والشتم – هو أول ما ينبغي على المسلم عمله؛ فالمسلم من سلم الناس من لسانه ويده، كما جاء في الحديث الصحيح. وقد قال الله – عز وجل - : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا } (سورة الأحزاب: 70- 71). والقول السديد، هو القول الذي يسد في الخير مسده، ويصيب موضعه، ويؤجر عليه، ولا يتعرض بسببه إلى مذمة ولا حرج، ولا يجد الناس منه ما يضرهم؛ إذ لا ضرر ولا ضرار، كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح. الثاني: أن اللسان صغير الجرم كبير الجرم لا يكف عن الكلام إلا إذا أخذ صاحبه بعنانه، وجعله وراء قلبه. وأكثر الشر يقع منه، فرب كلمة نابية يقولها المرء من غير قصد فيقف منها بين إخوانه موقف الأسف والاعتذار، ويقف منها بين يدي الله موقف الهوان والصغار. "وَهَلْ يَكُبُّ النَّاسَ فِي جَهَنَّمَ عَلَى وُجُوهِهِمْ إِلَّا حَصَائِدُ أَلْسِنَتِهِمْ". لذا كان أول السبل المنجية من عذاب الدنيا والآخرة – هو إمساك اللسان عن الخطأ والخطيئة في الأقوال. الثالث: أن إمساك اللسان أمر لا يستطيعه إلا المؤمن، فهو الذي يجعل لسانه دائماً وراء قلبه، لا يتكلم الكلمة إلا إذا عقل معناها وعرف مرماها، وأدرك أبعادها من الخير والشر. ولهذا لم يقل الرسول – صلى الله عليه وسلم لعقبة بن عامر: أمسك لسانك.. بل قال: أمسك عليك لسانك. وبين العبارتين فرق دقيق. فقوله: أمسك لسانك، يدل على سهولة حبس اللسان عن الكلام الذي يضر ولا ينفع. أما العبارة الأخرى فهي تفيد اللزوم والاستمرار على ذلك، بدليل كلمة "عليك" في الحديث، فهي أسلوب إغراء بالفعل. يقول النحويون: عليك أسم فعل بمعنى: إلزم، كقوله – صلى الله عليه وسلم: "عليكم بالصدق" أي الزموا واستمروا عليه. وفي هذا الأسلوب الحكيم معنى آخر يلحظه الذكي الفطن – هو أن اللسان عنيد وسفيه ينفلت دائما من صاحبه قبل أن يعزم على الكلام، مغتنماً غضبه تارة ورضاه تارة أخرى، فيتكلم عن صاحبه قبل أن يأمره بالكلام، فيوقعه في مأزق لا يمكنه التخلص منها، وقد يؤدي به إلى الهلاك دون أن يدري، فجأة التعبير بلفظ "عليك" للتنبيه على خطره، والتحذير من شره، والعمل على تأديبه بحزن وعزم وروبة. * * * وفي الوصية الثانية يحث النبي صلى الله عليه وسلم هذا الصحابي الجليل أن يتتبع أحوال نفسه مع نفسه، وأحوال نفسه مع الناس، فإن لم يجد نفسه قادراً على حسن معاشرتهم وملاءمتهم في السراء والضراء، وتقدير ظروفهم في الشدة والرخاء، وقبول أعذارهم فيما يقع منهم من شر يصيبه، والتغاضي عن عيوبهم – فليزم بيته درءاً للفتنة، ودفعاً للمفسدة، وجلباً للمصلحة، وإراحة لنفسه المعذبة. وإذا كان المرء لا يسع الناس بخلقه الفاضل وسلوكه النبيل فليسعه بيته، فالعزلة حينئذ شر لابد منه. وذلك لأن الإنسان مدني بالطبع، كما يقول ابن خلدون، لا يستطيع أن يعيش بمعزل عن الناس، ولكن ماذا يفعل! لا سبيل له من توقى شرهم إلا اعتزالهم. على حد قول القائل: مكره أخاك لا بطل. وعلى حد قول القائل: ومن السموم الناقعات دواء. لكن هل قول النبي صلى الله عليه وسلم: "وَلْيَسَعْكَ بَيْتُكَ" معناه: الأمر بلزوم البيت ومقاطعة الناس أجمعين، وعدم الخروج للعمل معهم، أو لزيارة مريضهم وقضاء حوائج المحتاجين منهم، وعدم الخروج للصلاة معهم واتباع جنائزهم وغير ذلك من الأمور التي لابد له منها شرعاً وعقلاً وعرفاً؟ الجواب: لا، وإن كان الأمر يفيد بظاهره العموم؛ فإن العموم مخصوص بالقرآئن الشرعية. ومن لا يعرف القرائن الشرعية يقع كثيراً في الخطأ، فيُفتي بغير علم، ويهرفُ بما لا يعرف، ويغير ويبدل في الأحكام الشرعية بجهله، وهو يحسب أنه يحسن صنعاً، فيفسد بذلك دينه ودنياه، ويوقع الناس في العسر والحرج، ويضيق عليهم ما وسعه الله لهم. وربما يؤدي به الجهل بالقرائن الشرعية واللغوية والعرفية إلى هدم الدين من أساسه، والتنطع في الدين يساوي التهاون فيه، فكل منهما رذيلة، والفضيلة وسط بين رذيلتين، كما يقولون. والوسطية في الإسلام هي العدل، واليسر، والسماحة، ورفع الحرج، ودفع المشقة، والعدالة المطلقة، والمساواة التامة في الحقوق العامة، كما سيأتي بيانه بالتفصيل في حديث آخر. فهل يليق بالمسلم أن يعتزل الناس اعتزالاً تاماً بحجة الوقاية من شرهم- كما يقول بعض الصوفية – بالطبع لا؛ فالمؤمن إلف مألوف، ولا خير فيمن لا بألف ولا يؤلف، كما جاء في الحديث. والعزلة التامة رهينة يأباها الإسلام، ويرفضها الواقع، وتأباها طبيعة الإنسان. وإن كان هناك رهبانية في الإسلام فهي في جهاد النفس وجهاد العدو. فقد جاء في الحديث الذي رواه ابن حبان في صحيحه، والحاكم: "عليك بالجهاد، فإنه رهبانية أمتي". وإذا عرفت أن قوله صلى الله عليه وسلم: "وَلْيَسَعْكَ بَيْتُكَ" ليس على عمومه فاعلم أن المراد منه: لزوم البيت عند وقوع الفتن، واستبداد الهوى بالناس، وشحهم بما عندهم من الخير المادي والمعنوي، وإعجاب كل ذي رأي برأيه، وعدم جدوى النصح والإرشاد. وهو الوقت الذي يرى فيه المجرمون الآثمون أن التدين عائق عن التقدم ورجوع إلى الوراء، وجهل وتخلف، وإرهاب وسفه، إلى آخر ما وسعهم أن يقولوه في ذمة الإسلام والمسلمين. فعندئذ يكون حال الناس كحال قوم لوط مع آل لوط عليه السلام. فقد قالوا – لعنهم الله في الأولين والآخرين – كما حكى القرآن عنهم: { أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ } (سورة النمل: 56). فعندئذ يجب العمل بهذه الوصية، وبشرط أن تكون له قوة على مواجهة الباطل والتكيف مع هذا المجتمع الضال. وتتسع هذه الوصية لكل ما يتحتم لزوم البيت فيه لضرورة مُلحة، أو حاجة ماسة، كرعاية شئون أهله، والعناية بتربية أولاده، والخوف من ظالم، ونحو ذلك. وهذه الوصية تأتي مؤكدة للوصية الأولى، ووسيلة من وسائل تنفيذها؛ فإن لزوم البيت يوفر على المسلم كلاماً كثيراً كان سيطلق لسانه به لو عاشر الناس، وغشى مجالسهم، واختلط بهم كثيراً. وكان الرسول صلى الله عليه وسلم يقول أنه: إلزم بيتك حتى تتمكن من حبس لسانك عما لا ينفعك من الكلام؛ فإن من خرج من بيته كثر لغطه مع الناس، ومن كثر لغطه كثر غلطه، ومن قل كلامه حُمِدت عاقبته. وانظر – أيها الأخ المسلم – إلى البلاغة النبوية في قوله "وَلْيَسَعْكَ بَيْتُكَ" كما نظرت إليها في قوله: "أَمْسِكْ عَلَيْكَ لِسَانَكَ"، وسل نفسك لماذا لم يقل: وإلزم بيتك، بدلاً من أن يقول: "وَلْيَسَعْكَ بَيْتُكَ". وأنا أجيبك إن لم يسعفك الجواب: إن قوله: "وَلْيَسَعْكَ" أبلغ بكثير من قوله: وإلزم. وذلك من وجوه: الأول: التلطف في الوصية من حيث صرف الأمر عنه إلى البيت؛ فإن الأمر بلزوم البيت يصعب على النفس قبوله بسهولة؛ لأن الإنسان لا يستطيع أن يعيش بمفرده بعيداً عن بني جنسه ولو كان معه أهله، ولا غنى له عن الخروج منه إلى عمله، وإلى مسجده، وإلى نزهته، إلى آخر ما هنالك، فجاء هذا التعبير في غاية اللطف والمواساة. الثاني: أن المسلم قد يضيق ذرعا بالأرض الواسعة إذا كان فيها من يسئ إليه في دينه وعرضه، فعندئذ يكون بيته أوسع من هذه الأرض – حقاً – وأفضل. فإن لم يجد في بيته ما يؤنسه أو ما يكفيه، فليهاجر إلى أرض أخرى يجد فيها الأمن والسعة. قال تعالى: { وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً } (سورة النساء: 100)، وهو حث على الهجرة ودعوة إليها. والمعنى: من يخرج من أرض الفتنة والظلم والفقر مهاجراً في طلب رزقه أو في نصرة دينه بالجهاد ونشر العلم ونحو ذلك – يجد في الأرض مراغماً أي مهجراً واسعاً خصباً، ويحصل منه على ما يُرغِمُ به أعداؤه وحساده، ويجد سعة في العلم والمال، والراحة النفسية، والمتعة الجسدية المباحة. ولماذا لا يهاجر الإنسان من أرض البلاء والشدة وأمامه أرض واسعة فلاها. وقد هاجر من قبله من هو خير منه، من مكة – وهي أعز البلاد إليه – إلى المدينة، وهجرة طلب لا هجرة هرب. وهاجر أصحابه إليها من قبله ومن بعده. وكان التابعون يضربون في الأرض شرقاً وغرباً معلمين ومتعلمين يطلبون الرزق في مواطنه، عملاً بقوله تعالى { هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ } (سورة الملك: 15). ويقول الله عز وجل: { قُلْ يَا عِبَادِي الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَأَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةٌ إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ } (سورة الزمر: 10). وقد ختم الله هذه الآية هذا الوعد الكريم لأن المهاجر من أرضه إلى أرض أخرى يحتاج إلى الصبر الدءوب على ترك الوطن ومفارقة الأهل، ومعاناة الغربة وما فيها من مذلة وإيحاش، وتعب ومشقة. وسيأتي الكلام عن الغربة وما فيها من منافع ومضار في حديث آخر إن شاء الله تعالى. * * * بقى لنا أن نتكلم عن الوصية الثالثة والأخيرة، وهي قوله صلى الله عليه وسلم: "وَابْكِ عَلَى خَطِيئَتِكَ" فنقول: إن البكاء على الخطيئة تعبير صادق عن الندم على اقتراف المعاصي، والتقصير في الطاعات. والندم توبة كما جاء في الحديث، بمعنى: أنه ركن من أهم أركانها، كقوله – صلى الله عليه وسلم: "الحج عرفة"، أي الوقوف بعرفة ركن من أهم أركانه. وقد مضى الكلام عن التوبة مستوفياً في حديث سابق كما أشرنا في أول هذا الحديث. ونزيدك هنا شيئاً على ما ذكرناه هناك فنقول: البكاء من خشية الله يرقق القلب، ويكفكف من غلواء النفس، ويطرد الشيطان، ويكبح جماح الهوى، ويزيد المسلم خشوعاً وخضوعاً، وتمسكناً، وتواضعاً لله – عز وجل – ويقيه من عذاب النار. والمسلم الحق من يذكر الله خالياً حتى تفيض عيناه بالبكاء، فإنه بذلك يكون من السبعة الذين يُظلهم الله بظله يوم لا ظل إلا ظله. فإن لم تُسعفه عيناه بالبكاء تباكى، أي: استدعى البكاء بشتى الطرق. ومن أهم هذه الطرق: محاسبة النفس، وذكر الموت، والتخلص من الطمع في الدنيا بتذكر ذهاب أكثر العمر، وبالاتعاظ بما يراه حوله من عبر، ويتذكر من مضى من الملوك والأغنياء والمتكالبين على الدنيا. وعليه – أيضاً – بالجلوس في حلقات العلم؛ فإن العلم يورث الخشية. قال تعالى: { إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ } (سورة فاطر: 28). وعليه بالجلوس مع الصالحين في الأوقات التي لا تكون فيها مجالس العلم؛ فإن الجلوس مع الصالحين يُذكر بالله، ويقي من وساوس الشيطان، فالشيطان كالذئب، والذئب لا يأكل من الغنم إلا القاصية. وليكثر من قراءة القرآن والاستماع إليه؛ فإن للقرآن تأثيراً عميقاً في النفوس الزكية والقلوب المؤمنة. وقد وردت في البكاء من خشية الله آيان وأحاديث كثيرة: فمن الآيات قوله تعالى: { وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلًا قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لَا تُؤْمِنُوا إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ سُجَّدًا وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولًا وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا } (سورة الإسراء: 106-109). ويقول الله – عز وجل -: { أُولَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرَائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا } (سورة مريم: 58). ومن الأحاديث المروية في فضل البكاء من خشية الله: 1- ما رواه البيهقيي عن أبي هريرة – رضي الله عنه – قال: لما نزلت { أَفَمِنْ هَذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ وَتَضْحَكُونَ وَلَا تَبْكُونَ } (سورة النجم:59-60)، بكى أصحاب الصفة حتى جرت دموعهم على خدودهم. فلما سمع رسول الله – صلى الله عليه وسلم – حسهم بكى معهم فبكينا ببكائه. فقال رسول الله – صلى الله عليه وسلم: "لَا يَلِجُ النَّارَ مَن بَكَى مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ ، وَلا يَدخل الحنة مُصِر عَلَى مَعصَية، وَلَوْ لَمْ تُذْنِبُوا لَجَاءَ اللَّهُ بِقُوم يُذْنِبُون فَيَغْفِرَ لَهُمْ". 2- روى الحاكم بإسناد صحيح عن أنس – رضي الله عنه – أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "مَنْ ذَكَرَ اللَّهَ فَفَاضَتْ عَيْنَاهُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ حَتَّى يُصِيبَ الْأَرْضَ مِنْ دُمُوعِهِ لَمْ يُعَذَّبْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ". 3- وروى الترمذي عن ابن عباس – رضي الله عنهما – قَالَ "سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ عَيْنَانِ لَا تَمَسُّهُمَا النَّارُ عَيْنٌ بَكَتْ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَعَيْنٌ بَاتَتْ تَحْرُسُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ". 4- وروى الطبراني بسند رجاله ثقات عن معاوية بن حيدة – رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ثَلَاثة لَا تَرى أَعينهم النار: عَيْنٍ حَرَست فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَعَيْنٍ بَكت مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ، وَعَيْنٍ كَفَّتُ عَنْ مَحَارِمِ اللَّهِ". 5- وروى الحاكم عن ابن أبي مليكة قال: جلسنا إلى عبد الله بن عمرو – رضي الله عنهما – في الحجر فقال: ابْكُوا فَإِنْ لَمْ تَجدوا بُكَاءٌ فَتَبَاكَوْا، وَلو تَعلموا العلم لصلى أحدكم حتى يتكسر ظهره، ولبكى حتى ينقطع صوته". * * * وخلاصة القول في هذه الوصية أن المسلم الحق من طلب النجاة لنفسه بما وسعه الطلب، ويستعين على ذلك بسؤال العلماء عن سبله الموصلة إليه كما فعل عقبة بن عامر – رضي الله عنه وأرضاه. فإن العلماء هم الأطباء – لديهم معرفة بتشخيص الداء ووصف الدواء، ومعهم من نور الله ما يدعون به الناس إلى الله على بصيرة، وإليهم تستريح النفوس المؤمنة، وبهم تكون القدوة. تحيا بهم كل أرض ينزلون بها كأنهم في بقاع الأرض أمطار والمسلم الحق من إذا تكلم غنم، وإذا سك سلم. وهو الذي لا يتكلم الكلمة إلا إذا عرف معناها ومرماها. وهو الذي يلزم بيته لرعاية أهلة والعناية بتربية أولاده، والاستعانة بذلك على كبح جماح لسانه من أن يزل أو يضل، ووقاية نفسه من الفتن، مع مراعاة حق الله عليه في صلة الأرحام، والتعاون مع إخوانه على البر والتقوى، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والجهاد في سبيل الله بقدر طاقته البشرية. والمسلم الحق من يحاسب نفسه فيستعظم زلتها، ويراقب تصرفاتها في سره وعلانيتها، ويعصيها في كثير من مطالبها عقوبة لها، وتنزيهاً لساحتها عن خوضها في الباطل أو دخولها فيما لا يعنيها، والاستغفار من ذنوبها فور وقوعها، وعدم الاستخفاف بأي ذنب مهما كان صغيراً؛ فإنه لا صغيرة مع الإصرار، ولا كبيرة مع الاستغفار. نسأل الله الهداية والتوفيق. * * *