وهذا ركن ثالث مخاطب به الوالدان للالتزام به؛ ليستطيعا تحقيق ما يريدان، ألا وهو: العدل، والمساواة بين الأطفال؛ إذ لهما كبير الأثر في مسارعة الأبناء إلى البر والطاعة. ويكفي أن نعلم أن شعور الطفل بأن أحد والديه يميل إلى أخيه ويكرمه، ويدلله أكثر منه، إن مجرد هذا الشعور – لا سمح الله – سيجعل في هذا الطفل شراسة، لا يقوي الأبوان على الصمود أمامها، وحسداً لا يستطيع الوالدان كبح جماحه، فهؤلاء أخوة يوسف لما علموا من أبيهم ميل قلبه إلى يوسف، رموا أباهم بالخطأ { إِذْ قَالُوا لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَىٰ أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ } [يوسف: 12/8]. فكانت نتيجة قناعتهم هذه أن يقدموا على عمل مشين في حق الأخوة وحق الأبوة: { اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضًا يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْمًا صَالِحِينَ قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ لَا تَقْتُلُوا يُوسُفَ وَأَلْقُوهُ فِي غَيَابَتِ الْجُبِّ يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ } [يوسف: 12/9-10]. وهكذا حبكوا هذه المؤامرة على أخيهم العمل الصغير؛ الذي لم يبلغ الحلم، ولا ذنب له إلا إظهار والده حبه له أكثر من إخوته، فكان هذا الحسد وذاك الكيد؛ لذلك مهما قدم الوالدان من نصائح وتوجيهات، وترغيب وترهيب، فلن تكون له أي جدوى ما لم يلتزما بالعدل، والمساواة بين الأطفال مادياً ومعنوياً، ولا يظهرا ميلهم القلبي أمام أطفالهم، وأبنائهم. وقد وضح لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم قاعدة عظيمة في طريقة بر الأطفال، وخضوعهم لوالديهم... إنه العدل والمساواة، وإليك بيان هذا: روى الشيخان عن النعمان بن البشير رضي الله عنهما: أن أباه أتى به رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إني نحلت (أي: أعطيت) ابني هذا غلاماً كان لي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أكل ولدك نحلته مثل هذا؟" فقال: لا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أَكُلَّ وَلَدِكَ نَحَلْتَهُ مِثْلَ هَذَا؟" فَقَالَ: لَا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لا تشهدني على جور" ثم قال صلى الله عليه وسلم: "أيسرك أن يكونوا لك في البر سواء؟" قال بلى، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "فلا إذا". وفي رواية لمسلم فقال: "أَفَعَلْتَ هَذَا بِوَلَدِكَ كُلِّهِمْ؟ قَالَ لَا قَالَ: "اتَّقُوا اللَّهَ وَاعْدِلُوا فِي أَوْلَادِكُمْ" فَرَجَعَ أَبِي فَي تِلْكَ الصَّدَقَةَ. وفي رواية الدارقطني (3/42): فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "لك ولد غيره؟" قال: نعم، قال: "فأعطيتهم كما أعطيته؟" قال: لا، قال: "ليس مثلي يشهد على هذا، إن الله تعالى يحب أن تعدلوا بين أولادكم، كما يحب أن تعدلوا بين أنفسكم". وروى الإمام أحمد وأبو داود والنسائي وابن حبان من حديث النعمان بن بشير رضي الله عنه قال: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اعْدِلُوا بَيْنَ أَوْلَادِكُمْ اعْدِلُوا بَيْنَ أَبْنَائِكُمْ. وعن النعمان بن بشير رضي الله عنهما: قال: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "اعْدِلُوا بَيْنَ أَوْلَادِكُمْ في النِّحَل؛ كما تحبون أن يعدلوا بينكم في البر واللطف" رواه ابن أبي الدنيا في كتاب العيال (1/172) وقال محققه: حديث صحيح. يقول الشيخ عبد الغني النابلسي رحمه الله معلقاً على الأحاديث: "ووجه الدلالة في هذه الأحاديث: أن عدم المساواة بين الأولاد حرام، فوق أن تمييز بعض الأولاد على البعض الآخر، أمر من شأنه توليد العداوة، والحقد، والبغضاء بينهم، ويؤدي إلى قطيعة الرحم". ومن شدة يقظة السلف الصالح: أنهم كانوا يعدلون بين أبنائهم حتى في القبلة، استجابة لنداء رسول الله صلى الله عليه وسلم وتنفيذاً لأمره، وحتى إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لينبه إلى العدل في القبلة بين الصبي والبنت: فقد روى البيهقي عن أنس رضي الله عنه: أن رجلاً كان جالساً مع النبي صلى الله عليه وسلم فجاء بني له فقبله، وأجلسه في حجره، ثم جاءت بنية فأخذها، فأجلسها إلى جنبه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "فما عدلت بينهما!". ويقول طاووس: لا يجوز ذلك ولو برغيف محترق، وبه قال ابن المبارك وروي معناه عن مجاهد وعروة، فأي منهاج في العالم كله، وأي مدرسة تربوية على الكرة الأرضية تستطيع أن تنبه إلى العدل في القبلة، والجلوس في الحجر والجوار؟! إنها مشكاة النبوة. وفي كثير من الأحيان قد يقع التشاجر، والقتال بين الأبناء، أو بين الأطفال فحتى تصفو النفوس الناشئة، وتبتعد عن الكيد والحسد، فلا بد من التفريق بينهم، وإحقاق الحق، وإبطال الباطل، والعدل والمساواة بينهم. فهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يفرق بين طفلين اقتتلا، ويصحح لهما أفكارهما الخاطئة، ويدعو الكبار إلى دفع الظلم بشتى صوره... ومتى ارتفع الظلم حل العدل مكانه. روى مسلم عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: اقتتل غلامان: غلام من المهاجرين، وغلام من الأنصار، فنادى المهاجري: يا للمهاجرين! ونادى الأنصاري: يا للأنصار! فخرج النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "ما هذا؟ دعوة الجاهلية؟" قالوا: لا يا رسول الله! إلا أن غلامين اقتتلا، فكسع أحدهما الآخر، فقال: "لا بأس، ولينصر الرجل أخاه ظالماً أو مظلوماً، إن كان ظالماً فلينهه فإن هذا له نصر، وإن كان مظلوماً فلينصره". ومن العدل أن تفرق بين الأطفال إذا رأيتهم يقتتلون؛ لأنه لا بد من وجود ظالم منهم ومظلوم، ولهذا قال الترمذي: رأيت أبا عبد الله (أي: أحمد بن حنبل) مر على صبيان الكتاب يقتتلون، ففرق بينهم. وفي ختام هذا الركن، نوجه هذه البشارة إلى الوالدين العادلين، والمربين المقسطين، لنرى الأجر الأخروي يوم القيامة لهم، فضلاً عن تحقيق أهدافهم التربوية في الدنيا، وذلك بالفوز بمنابر من نور، جعلني الله وإياك منهم، ووفقني الله وإياك إلى التمسك بالعدل. روى مسلم عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه قال: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "إِنَّ الْمُقْسِطِينَ عِنْدَ اللَّهِ عَلَى مَنَابِرَ مِنْ نُورٍ، الَّذِينَ يَعْدِلُونَ فِي حُكْمِهِمْ وَأَهْلِيهِمْ وَمَا وَلُوا". وبقي سؤال هام يواجه الوالدين، وهو: متى يجوز التفضيل؟ يرى الإمام أحمد بن حنبل – رحمه الله – حرمة التفضيل بين الأولاد، ما لم يكن هناك داع، أو مقتض للتفضيل، فإنه لا مانع منه، قال في "المعنى". فإن خص بعضهم لمعنى يقتضي تخصيصه، مثل اختصاصه بحاجة، أو زمان، أو عمى، أو كثرة عائلة، أو اشتغاله بالعلم، ونحو ذلك من الفضائل، أو صرف عطية عن بعض ولده لفسقه، أو بدعته، أو لكونه يستعين بما يأخذه على معصية الله، أو ينفقه فيها، فقد روي عن أحمد ما يدل على جواز ذلك لقوله في تخصيص بعضهم بالوقوف، لا بأس به إذا كان لحاجة، وأكرهه إذا كان على سبيل الأثرة والعطية في معناها.