عَنْ عِيَاضِ بْنِ حِمَارٍ– رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ – أَنَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "إِنَّ اللَّهَ أَوْحَى إِلَيَّ أَنْ تَوَاضَعُوا حَتَّى لَا يَبْغِيَ أَحَدٌ عَلَى أَحَدٍ وَلَا يَفْخَرَ أَحَدٌ عَلَى أَحَدٍ". هذه وصية جامعة لخصال الخير كلها، أوحى الله بها إلى نبيه عليه الصلاة والسلام، وعمق جذورها في قلبه، وأجراها على لسانه في كثير من خطبه ومواعظه، وجعلها مفتاح شخصيته وديدنه في عباداته ومعاملاته، وفي شأنه كله مع الله، ومع نفسه، ومع الناس، فكانت – بحمد الله – من أفضل الوصايا التي تحلى بها المقربون من عباده، فسلكوا بها سبيل الوصول إلى أعلى درجات القرب والحب والرضا. ولهذا جعلها الله أول وصف وآخر وصف من أوصافهم في الذكر، فقال في سورة الفرقان: { وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا } إلى أن قال جل وعلا: { وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا } (آية: 63-74). فهم أولاً يمشون على الأرض هينين لينين، لا يتعالون على أحد، ولا يفخرون بحسب ولا نسب، ولا مال ولا جاه ولا سلطان. وإذا خاطبهم جاهل غضوب لا خلق له ولا دين – لم يسلبهم أحلامهم، ولم يقلل من تواضعهم، ولم يجعلهم يقابلون الإساءة بمثلها، ولكن تراهم يعفون ويصفحون ويغفرون، ويقولون قولاً فيه سلام لأنفسهم ولغيرهم. وهم يضرعون إلى الله – عز وجل – أن يهب لهم من أزواجهم وذرياتهم من تقر بهم أعينهم من الصالحين الأبرار، ويسألون الله من أعماق قلوبهم أن يجعلهم أئمة للمتقين الذين يظهرون الافتقار إليه في جميع أمورهم؛ تواضعاً لجلاله، وخضوعاً لعظمته، وامتثالاً لأمره. وكل صفة بعده تبع له؛ لأن التواضع ترجمة صادقة للعبودية الخالصة لله – عز وجل – فهو دليل قاطع على معرفة الإنسان بنفسه ومعرفة منزلته من خالقه. وقد قالوا – ونعم ما قالوا - : من عرف نفسه عرف ربه. أقول: ومن عرف ربه فقد شهد له بالجلال والجمال والكمال، وشهد على نفسه بالعبودية الخالصة مع تمام الافتقار إليه وإسلام القلب له؛ تحقيقاً لقوله جل وعلا: { قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ } (سورة الأنعام: 162-163). فهاتان الآيتان يتجلى فيهما الكمالان: كمال الرب في أحديثه، وكمال العبد في عبوديته. وروح العبودية في تواضع العبد لخالقه ومولاه، بحيث لا يرى لنفسه فضلاً في طاعة ولا حقاً في ثواب، ولسان حاله يقول: يا رب، إن تثبني فبمحض فضلك، وإن تعذبني فبمحض عدلك. والتواضع مع النفس: ألا يرى لها فضلاً على غيرها من الأنفس. فإن حدثته أن له فضلاً على فلان في كذا وكذا – فليقل لها: إن فلاناً يفضلني بما ليس عندي. وقد قسم الله النعم الدنيوية على عباده بنسبة مئوية، مبنية على العدل المطلق، بحيث يتساوى كل الناس فيها على الجملة. وليقرأ على نفسه الأمارة بالسوء قول الله تبارك وتعالى: { نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحْمَةُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} (سورة الزخرف: 32). والقسمة تقتضي العدل والمساواة كما هو معروف من اللغة والشرع، فما من مرفوع في جهة إلا وهو مخفوض في جهة، ورحمة الله – عز وجل – هي مطمع الأبرار، فهي خير لهم مما جمع الجامعون. ما استكمل المرء من حاجاته طرفا إلا وأدركه النقصان من طرف والواقع يؤيد ذلك. وحين تسمو النفوس إلى سلم الكمال في العبودية تتجرد من حظوظ الدنيا، فلا تعبأ بما أقبل عليها من النعم وما أدبر عنها، ويكون مبلغ همها في رضا الله عز وجل. والتواضع مع النفس أن يعرف المرء لها مكانتها وقدرها في طاعة ربها على ضوء قوله تعالى: { يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ } (سورة الحجرات: 13). والمتواضع لا يقول: أنا تقي؛ لأنه لا يدري هل قبل الله منه العمل أم ضرب به وجهه. ولو شعر في ساعة أنه على هدى وتقى فليحمد الله عز وجل أولاً، ثم يقول لنفسه: وأين أنت من الذين سبقت لهم من الله الحسنى، وماتوا على الإسلام الخالص، وتركوا وراءهم آثاراً تشهد لهم برسوخ العلم وصلاح العمل. ومن نظر في عيوبه استعظم زلة نفسه. والتواضع مع الناس هو المقصود في هذه الوصية؛ بدليل قوله عليه الصلاة والسلام: "حَتَّى لَا يَبْغِيَ أَحَدٌ عَلَى أَحَدٍ وَلَا يَفْخَرَ أَحَدٌ عَلَى أَحَدٍ". فالحرف "حتى" هنا للتعليل، أي: لئلا يؤدي عدم التواضع إلى البغي على الناس بغير حق، والفخر بما لا ينبغي التفاخر به. وهذا الحرف يصلح أن يكون للغاية أي: تواضعوا ثم تواضعوا ثم تواضعوا إلى الحد الذي يشعر فيه أحدكم أنه لا يفكر في البغي فضلاً عن كونه يواقعه، ولا يطيع نفسه إن دعته إلى المفاخرة، ولكن يردها إلى أصلها، ويذكرها بمصيرها، ويقرأ عليها من الآيات ما يدفعها عن حب المفاخرة، ويبعدها عن البغي تماماً، فعندئذ يكون متواضعاً حقاً. وحرف أن في قوله: "أَنْ تَوَاضَعُوا" تفسيرية، وتواضعوا: فعل أمر يقتضي الوجوب حتماً؛ فالتواضع خلق فاضل، وقد اجتمعت فيه شعب الإيمان كلها. وشعب الإيمان "بِضْعٌ وَسَبْعُونَ شُعْبَةً: أَعْلَاهَا لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ ، وَأَدْنَاهَا إِمَاطَةُ الْأَذَى عَنِ الطَّرِيقِ" كما جاء في الحديث. ولن يكون العبد موحداً إلا إذا كان متواضعاً لله عز وجل إذ كيف يشهد له بالوحدانية ثم يشاركه في أخص خصائصه، وهو الكبرياء. إن العبد لو شعر بذرة من التكبر ما استحق دخول الجنة، كما سيأتي بيانه قريباً. وإماطة الأذى عن الطريق، التي هي أدنى الشعب في الحقيقة، هي أدناها في الذكر، وأعلاها بعد كلمة التوحيد والصدق والحياء والإخلاص؛ لأن الذي يميط الأذى عن طريق الناس هو شخص متواضع، بل هو غاية في التواضع. إنه إنسان يحمل معاني الإنسانية، وهي المشاركة الإيجابية، والتعاون البناء، والحب المتبادل، فالإنسان أخو الإنسان: لا يحقره ولا يخذله، ولا يحزنه، ولا يقصر في حقه، ولا يتخلى عنه مادام قادراً على عونه وقضاء حوائجه. فالمؤمنون كالجسد الواحد كالجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الأعضاء بالسهر والحمى. وهذا لا يتم إلا إذا تواضع الناس بعضهم لبعض، وتلاشت بينهم الفروق العرقية، وأحس كل واحد بهذه الأخوة الإيمانية تنبع من ضميره الحي، وقلبه اليقظ، وإيمانه الكامل بأن الفضل كل الفضل للتقوى والعمل الصالح، وأن الناس سواسية كأسنان المشط، وأنه من بطأ به عمله لم يسرع به نسبه. هذه هي النظرة الأولى في هذه الوصية الجامعة لشعب الإيمان كلها. وبنظرة أخرى فيها شيء من العمق الفكري نجد أنفسنا أمام التواضع المطلوب الذي لا يعتريه شيء من دواعي الكبر على كل حال، فكيف يكون المرء متواضعاً حقاً لله أولاً ثم للناس ثانياً؟ ومتى يكون قادراً على كبح جماح نفسه في الوقت الذي تكون فيه أسباب الكبر والغرور والعجب والرياء متوفرة فيه؟. إلى آخر ما هنالك من أسئلة تفرض نفسها على كل من أراد أن ينجو بنفسه من هذه الآفات، التي تُذهب الإيمان كله أو بعضه. سننظر في هذا كله ولا نطيل. أما التواضع المطلوب فهو التواضع الذي لا يؤدي إلى منقصة ولا مذلة، ولا يقدح في شرف الإنسان ولو بطريق غير مباشر، ولا يحمله على التكلف البغيض. يقول النَّبِيِّ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ –:"طوبى لمن تواضع في غير منقصة، وذل في نفسه من غير مسألة، وأنفق مالاً جمعه في غير معصية، ورحم أهل الذل والمسكنة، وخالط أهل الفقه والحكمة. طوبى لمن طاب كسبه، وصلحت سريرته، وكرمت علانيته، وعزل عن الناس شره. طوبى لمن عمل بعلمه، وأنفق الفضل من ماله، وأمسك الفضل من قوله". فالعالم – مثلاً – يخدم ولا يخدم، ولكنه ينبغي أن يكون للناس معيناً في حدود منزلته بينهم، بحيث إذا قام بعمل نافع لواحد من الناس لا تهون منزلته عندهم؛ فإن منزلته إذا هانت عند الناس لا يسمعون له ولا يصغون إليه، ولا ينتفعون بعلمه. والرجل إذا كان من وجهاء الناس لم يكن من التواضع أن يجلس على الأرض في عرض الطريق تواضعاً، بل يجلس في مكان لا يلام على الجلوس فيه، وعلى ذلك فقس، ورحم الله أمرأ عرف قدر نفسه، فأنزلها منزلتها اللائقة بها، من غير أدنى تكبر ولا غرور. فالتواضع: ألا يرى الإنسان لنفسه فضلاً على غيره، كما أشرنا من قبل، ولكن مع ذلك ينبغي أن يأخذ وضعه، وأن يلزم منزلته التي وضعه الله فيها، وأن يؤدي وظيفته في حدود ما أمر الله به، وإن تطلب منه ذلك أن يكون عظيماً في مظهره، وأنيقاً في زينته، رقيقاً في مشاعره، يتكلم بما يناسب الوجهاء من الناس مع الاحتفاظ بتواضعه ما أمكن. روى أن عمر بن الخطاب زار معاوية بن أبي سفيان في الشام، وكان والياً عليها، فاستقبله معاوية بالخيل المسومة، ذان السروج المطعمة بالزينة، ومعه الحرس عن يمينه وشماله، وأمامه وخلفه، في موكب لا يكون إلا للملوك، فأبى عمر أن يكلمه، فقال له عمرو بن العاص: يا أمير المؤمنين، أتعبت الرجل يكلمك ولا تكلمه، قال: يا معاوية، ما هذا الذي أرى، فقال: يا أمير المؤمنين، إنني في بلاد لا يسمع أهلها ولا يطيعون الوالي إلا إذا كان بهذه الأبهة، فسكت عمر ثم قال: حيلة لبيب، أو خدعة أريب، فأنت وذاك، لا آمر ولا أنهاك. فقد عذره في هذا ووكله لنيته. وكان معاوية من أحكم الناس وأشدهم تواضعاً، ولا ندري هل كان يفعل ذلك سياسة، أم كان هذا جبلة فيه.