عَنْ عَبْدُ اللَّهِ بِنْ مَسعود رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "اتَّبِعُوا وَلَا تَبْتَدِعُوا؛ فَقَدْ كُفِيتُمْ". هذه الوصية ترجمة لقوله تعالى: { وَمَآ آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُواْ وَاتَّقُواْ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ } (سورة الحشر: 7). أي ما جاءكم به الرسول من ربه، فالزموه، فالأخذ في الآية معناه: اللزوم مع الفهم والإخلاص في الامتثال. وما نهاكم عن قوله وفعله، فاحذروه وكفوا عنه؛ فهو من تتمة الامتثال، فالطاعة تتمثل في الاتباع التام في هذه وذاك. وهذا هو معنى قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "اتَّبِعُوا وَلَا تَبْتَدِعُوا" أي سيروا على النهج الذي وسمه لكم الله عز وجل في كتابه وعلى لسان رسوله عليه الصلاة والسلام، واقتدوا به في عباداتكم وعاداتكم، ولا تزيدوا في دينه ما ليس منه؛ فقد جاءكم بالهدى، ووقفكم على المحجة البيضاء كنهارها، ووضع لكم المعالم لتنتهوا إليها، وحد لكم الحدود التي يجب أن تقفوا عندها ولا تتجاوزوها. وقد أكمل الله لكم الدين، فكان منهجاً لمناحي الحياة كلها، فأغناكم به عن تشريعات البشر وقوانينهم التي ابتكروها بعقولهم القاصرة ونظرهم المحدود. والاتباع دليل على محبة الله ورسوله، وبرهان على صحة الإيمان وسلامة اليقين. قال تعالى: { قُل إِن كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِر لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ } (سورة آل عمران: 31). وأما الابتداع في الدين فهو اعتداء عليه وانتهاك لحرماته، واتهام له بالنقص في تشريعاته، بل هو تفويض لشعائره وهدم لبنيانه. ولكن ما هي البدعة في نظر الإسلام؟ هذا ما سنحاول الإجابة عنه في الفقرات التالية. البدعة في اللغة: هي كل محدث على غير مثال سبق. فيكون كل ما حدث بعد رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من أمور الدين والدنيا – على هذا التعريف اللغوي – بدعة. وبذلك يسوغ تقسيمها إلى: بدعة حسنة وبدعة سيئة. ولكن إذا نظرنا إليها من حيث ما أُحدث بعد رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الدين فقط، وعرفناها بأنها: كل حدث لا أصل له في الدين، فلا يسوغ – في نظري – تقسيمها إلى حسنة وسيئة. والمحتجون بقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَنْ سَنَّ سُنَّةً حَسَنَةً، فَلَهُ أَجْرُهَا وَأَجْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا إِلَى يَوْمَ القِيَامَةِ، وَمَنْ سَنَّ سُنَّةً سَيِّئَةً فَعَلَيْهِ وِزْرُهَا وَوِزْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا إِلى يَوْمَ الْقِيَامَةِ" – المحتجون بهذا الحديث على تقسيم البدعة إلى حسنة وسيئة، لم يفهموا الحديث الفهم الصحيح على ما أظن؛ إذ المراد به – والله أعلم – من ابتدع طريقة في فعل المعروف وامتثال الأوامر، فله الأجر المذكور، ومن اخترع طريقة في فعل المنكر وارتكاب المعاصي فتبعه الناس في ذلك، فعليه الوزر المذكور. ولقد جاء الدين الإسلامي تاماً كاملاً، لا ينبغي لأحد أن يزيد فيه شيئاً، أو ينقص منه شيئاً، كما أشرنا. قال تعالى: { الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا } (سورة المائدة: 3). وقد حذر النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من الابتداع في الدين بالذات. فقال: "مَنْ أَحْدَثَ فِي دِينِنَا هَذَّا مَا لَيِسْ مِنْهُ، فَهُوَ رد". أي، مردود عليه. وعن أبي نجيح العرباض بن سارية السلمي رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قال: وعظنا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ موعظة وجلت منها القلوب، وذرفت منها العيون، فقلنا: يا رسول الله، كأنها موعظة مودع، فأوصنا!! قال: "أُوصِيكُمْ بِتَقْوَى اللَّهِ عَز وجل وَالسَّمْعِ وَالطَّاعَةِ وَإِنْ تَأمرَ عَلَيكُم عَبْدٌ وَإِنَّهُ مَنْ يَعِشْ مِنْكُمْ فَسَيَرَى اخْتِلَافًا كَثِيرًا، فَعَلَيْكُم بِسُنَّتِي، وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ الْمَهْدِيِّينَ، عَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ وَإِيَّاكُمْ وَمُحْدَثَاتِ الْأُمُورِ، فَإِنَّ كُلُّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ ". وَعَنْ جَابِر رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: كَانَ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في خطبته: أَمَّا بَعْدُ. فَإِنَّ أَصْدَّق الْحَدِيثِ كِتَابُ اللَّهِ، وَإِنَّ أَفْضَل الْهُدَى هُدَى مُحَمَّدٍ، وَشَرُّ الْأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا، وَكُلُّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَكُلُّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ، وَكُلُّ ضَلَالَةٍ فِي النَّارِ". قال الإمام الشافعي رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ في الأم: كُل شيء خَالف أَمْر رَسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَقَط، وَلَا يَكُون مَعَهُ رَأي وَلَا قِياس؛ فَإِنَّ الله تَعَالَى قَطَعَ العُذْر بِقَول رَسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَلَيْس لِأَحد مَعَهُ أَمْر وَلَا نَهي غَيِر مَا أَمَرَ هُوَ بِهِ. أ. هـ. وخلاصة القول: أن البدعة هي كل ما لا أصل له في الدين يرجع إليه، وأما ما كان له أصل من الشرع يدل عليه فليس ببدعة شرعاً، وإن كانت تسمى بدعة في اللغة. وقد عرفها الشاطبي في أول كتاب الاعتصام تعريفاً أراه جامعاً مانعاً فقال: "هي طريقة في الدين مخترعة تضاهي الطريقة الشرعية، يقصد بالسلوك عليها المبالغة في التعبد لله سبحانه". فيخرج بهذا التعريف جميع بدع العادات. وبدع العادات ثلاث أصناف: صنف يوافق الدين ولا يخالفه في شيء، كأخذ الزينة المباحة والسكنى في المنازل الفخمة، والتنزه في الحقوق والحدائق، ونحو ذلك مما هو معروف. وصنف يكره فعله شرعاً، كالمبالغة في زخرفة المساجد والمصاحف وغير ذلك مما نصَّ عليه الفقهاء في كتبهم. وصنف محرم، وهو ما يخالف الدين، كالتشبه باليهود والنصارى في أعيادهم وملابسهم التي نهى الإسلام عنها. والمسلم الذي يحذر الآخرة ويرجو رحمة ربه – عليه أن يلتزم بما جاء في الكتاب والسنة وما ورد عن السلف الصالح من أصحاب النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والتابعين لهم بإحسان، بوصفهم أعلم الناس بأصول الدين وقواعده. وعليه أن يعرف الفرق بين بدع العبادات وبدع العادات؛ حتى لا يخلط بينهما فيقع في المحذور؛ فإن الخلط بينهما قد يترتب عليه تحريم الحلال وإباحة المحظور. وقد قال الله عز وجل: { وَلَّا تَقُولُواْ لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِّتَفْتَرُواْ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لاَ يُفْلِحُونَ } (سورةالنحل: 116). نسأل الله لنا ولكم الفلاح في الدنيا والآخرة.