ذكر حكم رسول الله في منع الرجل من بيع ما ليس عنده في السنن والمسند من حديث حكيم بن حزام قال قلت يا رسول الله يأتيني الرجل يسألني البيع ما ليس عندي فأبيعه منه ثم أبتاعه من السوق فقال لا تبع ما ليس عندك قال حديث حسن وفي السنن نحوه من حديث ابن عمرو رضي الله عنه ولفظه لا يحل سلف وبيع ولا شرطان بيع ولا ربح ما لم يضمن ولا بيع ما ليس عندك قال الترمذي حديث حسن صحيح فاتفق لفظ الحديثين على نهيه عن بيع ما ليس عنده فهذا هو المحفوظ من لفظه وهو نوعا من الغرر فإنه إذا باعه شيئا معينا وليس في ملكه ثم مضى ليشتريه أو له كان مترددا بين الحصول وعدمه فكان غررا يشبه القمار فنهي عنه وقد ظن بعض الناس أنه إنما نهى عنه لكونه معدوما فقال لا يصح بيع المعدوم وروى في حديثا أنه نهى عن بيع المعدوم وهذا الحديث لا يعرف في شيء من كتب الحديث ولا أصل والظاهر أنه مروي بالمعنى من هذا الحديث وغلط من ظن أن معناهما واحد وأن المنهي عنه في حديث حكيم وابن عمرو رضي الله عنه لا يلزم أن يكون معدوما وإن كان معدوم خاص فهو كبيع حبل الحبلة وهو معدوم يتضمن غررا وترددا في حصوله والمعدوم ثلاثة أقسام معدوم موصوف في الذمة فهذا يجوز بيعه اتفاقا وإن كان أبو شرط في هذا النوع أن يكون وقت العقد في الوجود من حيث الجملة وهذا هو السلم ذكره إن شاء الله تعالى والثاني معدوم تبع للموجود وإن كان أكثر منه وهو نوعان نوع متفق عليه ونوع مختلف فالمتفق عليه بيع الثمار بعد بدو صلاح ثمرة واحدة منها فاتفق الناس على جواز ذلك الصنف الذي بدا صلاح واحدة منه وإن كانت بقية أجزاء الثمار معدومة وقت ولكن جاز بيعها تبعا للموجود وقد يكون المعدوم متصلا بالموجود وقد يكون أخر منفصلة عن الوجود لم تخلق بعد والنوع المختلف فيه كبيع المقاثيء والمباطخ إذا طابت فهذا فيه قولان أحدهما أنه بيعها جملة ويأخذها المشتري شيئا بعد شيء جرت به العادة ويجري مجرى بيع الثمرة بعد بدو صلاحها وهذا هو الصحيح من الذي استقر عليه عمل الأمة ولا غنى لهم عنه ولم يأت بالمنع منه كتاب ولا ولا إجماع ولا أثر ولا قياس صحيح وهو مذهب مالك وأهل المدينة وأحد القولين في أحمد وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية والذين قالوا لا يباع إلا لقطة لقطة لا ينضبط قولهم شرعا ولا عرفا ويتعذر العمل غالبا وإن أمكن ففي غاية العسر ويؤدي إلى التنازع والإختلاف الشديد فإن المشتري أخذ الصغار والكبار ولا سيما إذا كان صغاره أطيب من كباره والبائع لا يؤثر وليس في ذلك عرف منضبط وقد تكون المقثأة كثيرة فلا يستوعب المشتري اللقطة حتى يحدث فيها لقطة أخرى ويختلط المبيع بغيره ويتعذر تمييزه ويتعذر أو على صاحب المقثأة أن يحضر لها كل وقت من يشتري ما تجدد فيها ويفرده بعقد وما هكذا فإن الشريعة لا تأتي به فهذا غير مقدور ولا مشروع ولو ألزم الناس به أموالهم وتعطلت مصالحهم ثم إنه يتضمن التفريق بين متماثلين من كل الوجوه فإن الصلاح في المقاثيء بمنزلة بدو الصلاح في الثمار وتلاحق أجزائها كتلاحق أجزاء وجعل ما لم يخلق منها تبعا لما خلق في الصورتين واحد فالتفريق بينهما تفريق متماثلين ولما رأى هؤلاء ما في بيعها لقطة لقطة من الفساد والتعذر قالوا طريق رفع ذلك بأن أصلها معها ويقال إذا كان بيعها جملة مفسدة عندكم وهو بيع معدوم وغرر فإن هذا يرتفع ببيع العروق التي لا قيمة لها وإن كان لها قيمة فيسيرة جدا بالنسبة إلى المبذول وليس للمشتري في العروق ولا يدفع فيها الجملة من المال وما الذي حصل ببيع العروق معها من لهما حتى شرط وإذا لم يكن بيع أصول الثمار شرطا في صحة بيع الثمرة كالتين والتوت وهي مقصودة فكيف يكون بيع أصول المقاثيء شرطا في صحة وهي غير مقصودة والمقصود أن هذا المعدوم يجوز بيعه تبعا للموجود ولا تأثير وهذا كالمنافع المعقود عليها في الإجارة فإنها معدومة وهي مورد العقد لا يمكن أن تحدث دفعة واحدة والشرائع مبناها على رعاية مصالح العباد وعدم عليهم فيما لا بد لهم منه ولا تتم مصالحهم في معاشهم إلا به فصل الثالث معدوم لا يدرى يحصل أو لا يحصل ولا ثقة لبائعه بحصوله بل يكون المشتري منه خطر فهذا الذي منع الشارع بيعه لا لكونه معدوما بل لكونه غررا فمنه صورة النهي تضمنها حديث حكيم بن حزام وابن عمر رضي الله عنهما فإن البائع إذا باع ما ليس ملكه ولا له قدرة على تسليمه ليذهب ويحصله ويسلمه إلى المشتري كان ذلك شبيها والمخاطرة من غير حاجة بهما إلى هذا العقد ولا تتوقف مصلحتهما عليه وكذلك حبل الحبلة وهو بيع حمل ما تحمل ناقته ولا يختص هذا النهي بحمل الحمل بل لو ما تحمل ناقته أو بقرته أو أمته كان من بيوع الجاهلية التي يعتادونها وقد ظن أن بيع السلم مخصوص من النهي عن بيع ما ليس عنده وليس هو كما ظنوه السلم يرد على أمر مضمون في الذمة ثابت فيها مقدور على تسليمه عند محله ولا في ذلك ولا خطر بل هو جعل المال في ذمة المسلم إليه يجب عليه أداؤه عند محله يشبه تأجيل الثمن في ذمة المشتري فهذا شغل لذمة المشتري بالثمن المضمون وهذا لذمة البائع بالمبيع المضمون فهذا لون وبيع ما ليس عنده لون ورأيت لشيخنا في الحديث فصلا مفيدا وهذه سياقته قال للناس في هذا الحديث أقوال قيل المراد بذلك أن يبيع السلعة المعينة التي هي الغير فيبيعها ثم يتملكها ويسلمها إلى المشتري والمعنى لا تبع ما ليس عندك من ونقل هذا التفسير عن الشافعي فإنه يجوز السلم الحال وقد لا يكون عند إليه ما باعه فحمله على بيع الأعيان ليكون بيع ما في الذمة غير داخل تحته كان حالا أو مؤجلا وقال آخرون هذا ضعيف جدا فإن حكيم بن حزام ما كان يبيع شيئا معينا هو ملك لغيره ينطلق فيشتريه منه ولا كان الذين يأتونه يقولون نطلب عبد فلان ولا دار فلان الذي يفعله الناس أن يأتيه الطالب فيقول أريد طعاما كذا وكذا أو ثوبا كذا أو غير ذلك فيقول نعم أعطيك فيبيعه منه ثم يذهب فيحصله من عند غيره إذا لم عنده هذا هو الذي يفعله من يفعله من الناس ولهذا قال يأتيني فيطلب مني المبيع عندي لم يقل يطلب مني ما هو مملوك لغيري فالطالب طلب الجنس لم يطلب شيئا معينا جرت به عادة الطالب لما يؤكل ويلبس ويركب إنما يطلب جنس ذلك ليس له غرض في ملك بعينه دون ما سواه مما هو مثله أو خير منه صار الإمام أحمد وطائفة إلى القول الثاني فقالوا الحديث على عمومه يقتضي عن بيع ما في الذمة إذا لم يكن عنده وهو يتناول النهي عن السلم إذا لم يكن لكن جاءت الأحاديث بجواز السلم المؤجل فبقي هذا في السلم الحال والقول الثالث وهو أظهر الأقوال إن الحديث لم يرد به النهي عن السلم المؤجل ولا مطلقا وإنما أريد به أن يبيع ما في الذمة مما ليس هو مملوكا له ولا يقدر على ويربح فيه قبل أن يملكه ويضمنه ويقدر على تسليمه فهو نهي عن السلم الحال لم يكن عند المستسلف ما باعه فليزم ذمته بشيء حال ويربح فيه وليس هو قادرا إعطائه وإذا ذهب يشتريه فقد يحصل وقد لا يحصل فهو من نوع الغرر والمخاطرة وإذا السلم حالا وجب عليه تسليمه في الحال وليس بقادر على ذلك ويربح فيه على أن ويضمنه وربما أحاله على الذي ابتاع منه فلا يكون قد عمل شيئا بل أكل المال وعلى هذا فإذا كان السلم الحال والمسلم إليه قادرا على الإعطاء فهو جائز كما قال الشافعي إذا جاز المؤجل فالحال أولى بالجواز ومما يبين أن هذا مراد النبي أن السائل إنما سأله عن بيع شيء مطلق في الذمة كما لكن إذا لم يجز بيع ذلك فبيع المعين الذي لم يملكه أولى بالمنع وإذا كان إنما عن بيع شيء في الذمة فإنما سأله عن بيعه حالا فإنه قال أبيعه ثم أذهب فأبتاعه له لا تبع ما ليس عندك فلو كان السلف الحال لا يجوز مطلقا لقال له ابتداء لا هذا سواء كان عنده أو ليس عنده فإن صاحب هذا القول يقول بيع ما في الذمة حالا يجوز ولو كان عنده ما يسلمه بل إذا كان عنده فإنه لا يبيع إلا لا يبيع شيئا في الذمة فلما لم ينه النبي عن ذلك مطلقا بل قال لا تبع ما ليس علم أنه فرق بين ما هو عنده ويملكه ويقدر على تسليمه وما ليس كذلك وإن كان في الذمة ومن تدبر هذا تبين له أن القول الثالث هو الصواب فإن قيل إن بيع المؤجل جائز وهو بيع المفاليس لأن البائع احتاج أن يبيع إلى أجل وليس عنده ما يبيعه فأما الحال فيمكنه أن يحضر المبيع فيراه فلا حاجة إلى بيع موصوف في الذمة أو عين غائبة موصوفة لا يبيع شيئا مطلقا قيل لا نسلم أن السلم على خلاف الأصل بل المبيع كتأجيل الثمن كلاهما من مصالح العالم والناس لهم في مبيع الغائب ثلاثة أقوال منهم من يجوزه مطلقا ولا يجوزه معينا كالشافعي في المشهور عنه ومنهم من يجوزه معينا موصوفا ولا يجوزه مطلقا وأبي حنيفة والأظهر جواز هذا وهذا ويقال للشافعي مثل ما قال هو لغيره إذا بيع المطلق الموصوف في الذمة فالمعين الموصوف أولى بالجواز فإن المطلق فيه من والخطر والجهل أكثر مما في المعين فإذا جاز بيع حنطة مطلقة بالصفة فجواز معينة بالصفة أولى بل لو جاز بيع المعين بالصفة فللمشتري الخيار إذا رآه جاز كما نقل عن الصحابة وهو مذهب أبي حنيفة وأحمد في إحدى الروايتين وقد جوز وغيره من أصحاب أحمد السلم الحال بلفظ البيع والتحقيق أنه لا فرق بين لفظ ولفظ فالإعتبار في العقود بحقائقها ومقاصدها لا ألفاظها ونفس بيع الأعيان الحاضرة التي يتأخر قبضها يسمى سلفا إذا عجل له كما في المسند عن النبي أنه نهى أن يسلم في الحائط بعينه إلا أن يكون قد بدا صلاحه فإذا بدا صلاحه وقال أسلمت إليك عشرة أوسق من تمر هذا الحائط جاز كما يجوز أن يقول ابتعت عشرة أوسق من هذه ولكن الثمن يتأخر قبضه إلى كمال صلاحه فإذا عجل له الثمن قيل له سلف لأن هو الذي تقدم والسالف المتقدم قال الله تعالى ( فجعلناهم سلفا ومثلا ) الزخرف 56 والعرب تسمي أول الرواحل السالفة ومنه قول النبي ألحق بسلفنا عثمان بن مظعون وقول الصديق رضي الله عنه لأقاتلنهم حتى تنفرد سالفتي وهي ولفظ السلف يتناول القرض والسلم لأن المقرض أيضا أسلف القرض أي قدمه ومنه هذا لا يحل سلف وبيع ومنه الحديث الآخر أن النبي استسلف بكرا وقضى جملا والذي يبيع ما ليس عنده لا يقصد إلا الربح وهو تاجر فيستلف بسعر ثم يذهب بمثل ذلك الثمن فإنه يكون قد أتعب نفسه لغيره بلا فائدة وإنما يفعل هذا من لغيره فيقول أعطني فأنا أشتري لك هذه السلعة فيكون أمينا أما أنه يبيعها معين يقبضه ثم يذهب فيشتريها بمثل ذلك من غير فائدة في الحال فهذا لا يفعله عاقل نعم إذا كان هناك تاجر فقد يكون إلى الثمن فيستسلفه وينتفع به مدة إلى أن يحصل تلك السلعة فهذا يقع في المؤجل وهو الذي يسمى بيع المفاليس فإنه يكون محتاجا إلى الثمن وهو مفلس عنده في الحال ما يبيعه ولكن له ما ينتظره من مغل أو غيره فيبيعه في الذمة يفعل مع الحاجة ولا يفعل بدونها إلا أن يقصد أن يتجر بالثمن في الحال أو يرى يحصل به من الربح أكثر مما يفوت بالسلم فإن المستسلف يبيع السلعة في الحال ما تساوي نقدا والمسلف يرى أن يشتريها إلى أجل بأرخص مما يكون عند حصولها فلو علم أنها عند طرد الأصل تباع بمثل رأس مال السلم لم يسلم فيها فيذهب نفع بلا فائدة وإذا قصد الأجر أقرضه ذلك قرضا ولا يجعل ذلك سلما إلا إذا ظن أنه الحال أرخص منه وقت حلول الأجل فالسلم المؤجل في الغالب لا يكون إلا مع حاجة إلى الثمن وأما الحال فإن كان عنده فقد يكون محتاجا إلى الثمن فيبيع ما معينا تارة وموصوفا أخرى وأما إذا لم يكن عنده فإنه لا يفعله إلا إذا قصد والربح فيبيعه بسعر ويشتريه بأرخص منه ثم هذا الذي قدره قد يحصل كما قدره وقد لا يحصل له تلك السلعة التي يسلف فيها إلا أغلى مما أسلف فيندم وإن حصلت بسعر أرخص من ذلك قدم السلف إذ كان يمكنه أن هو بذلك الثمن فصار هذا من نوع الميسر والقمار والمخاطرة كبيع العبد الآبق الشارد يباع بدون ثمنه فإن حصل ندم البائع وإن لم يحصل ندم المشتري وكذلك حبل الحبلة وبيع الملاقيح والمضامين ونحو ذلك مما قد يحصل وقد لا يحصل فبائع ليس عنده من جنس بائع الغرر الذي قد يحصل وقد لا يحصل وهو من جنس القمار والميسر والمخاطرة مخاطرتان مخاطرة التجارة أن يشتري السلعة بقصد أن يبيعها ويربح ويتوكل على الله في ذلك والخطر الثاني الذي يتضمن أكل المال بالباطل فهذا الذي حرمه الله تعالى ورسوله مثل بيع والمنابذة وحبل الحبلة والملاقيح والمضامين وبيع الثمار قبل بدو صلاحها هذا النوع يكون أحدهما قد قمر الآخر وظلمه ويتظلم أحدهما من الآخر بخلاف الذي قد اشترى السلعة ثم بعد هذا نقص سعرها فهذا من الله سبحانه ليس لأحد حيلة ولا يتظلم مثل هذا من البائع وبيع ما ليس عنده من قسم القمار والميسر قصد أن يربح على هذا لما باعه ما ليس عنده والمشتري لا يعلم أنه يبيعه ثم من غيره وأكثر الناس لو علموا ذلك لم يشتروا منه بل يذهبون ويشترون من حيث هو وليست هذه المخاطرة مخاطرة التجار بل مخاطرة المستعجل بالبيع قبل القدرة التسليم فإذا اشترى التاجر السلعة وصارت عنده ملكا وقبضا فحينئذ دخل في خطر التجارة وباع التجارة كما أحله الله بقوله ( لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون عن تراض منكم ) النساء 29 والله أعلم