يقضي الإنسان الراشد معظم وقته في العمل، لكن الإنسان الذي يتبع الأخلاق القرآنية يختلف عن الإنسان الغارق في الأخلاق الجاهلية في نقطة معيّنة وهي أن المؤمن مهما تكن كثافة أشغاله خلال اليوم فهو لا يهمل لأيّ سبب من الأسباب القيام بواجباته الدينية تطبيقا لقوله تعالى:"...مَا عِنْدَ اللهِ خَيْرٌ مِنَ اللَّهْوِ وَ مِنَ التِّجَارَةِ وَاللهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ" ( الجمعة، 11 ) . والمؤمن يعي جيّدا ذلك المعنى ولا يلهيه أيّ شيء عن عبادة الله أوتاخير الصلاة عن وقتها مهما كانت الأرباح المادّية. هذه الصفات التي يتحلّى بها المؤمن الملتزم بالأخلاق القرآنية وردت في القرآن الكريم في قوله تعالى: "رِجَالٌ لاَ تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلاَ بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللهِ وَإِقَامِ الصَّلاَةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالأَبْصَارُ" (النور، 37 ). تؤكّد هذه الآية أن المنافع المادية كالتجارة هي الأشياء الكبيرة التي تلهي المؤمن عن الالتزام بأوامر الله تعالى، إذ يسعى الإنسان لكسب المال وجمع الثروة وحشد القوة فيغفل عن الصلاة أو تطبيق تعاليم القرآن. إنّ إنسان الجاهلية مولع بالعمل لتحقيق أغراض دنيوية منها تحقيق حياة مرفّهة، بأن يكون غنيا وصاحب سلطة وجاه وموقع اجتماعي مرموق، أو يكون هدفه من الزواج إنجاب الأولاد للإفتخار بهم... لا شك أن كل هذه الأشياء تحقق رضا الله وهي نعم مشروعة من حقّ كلّ إنسان السعي إلى اكتسابها، لكن ما يفصل المؤمن عن إنسان الجاهلية خصوصيّة هامّة وهي أنّ تحقيق كلّ هذه الأشياء ليس لأغراض دنيوية بل سعيا لمرضاة الله، فالمؤمن ينفق أمواله وفقا لأوامر الله ويحرص حرصا كبيرا على القيام بأعماله ملتزما بتعاليم دينه وقيمه. إنّ القوم الفاسقين هدفهم هو الربح الدنيوي لا غير، ولا يفكرون في ثواب أو عقاب وهم الذين عنتهم الآية الكريمة: "قُلْ إِنْ كَانَ آبَاءُكُمْ وَأبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبََّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللهُ بِأَمْرِهِ وَاللهُ لاَ يَهْدِي القَوْمَ الفَاسِقِينَ " ( التوبة، 24 ). إنّ المؤمن الصادق يتحاشي السّقوط في مثل هذه الصفات ويسعي إلى التحلّي بالأخلاق الربانية التي ارتآها الله للمؤمنين ولا يحيد عنها مهما كانت مشاغله، فهو يعتمد الصدق في التجارة ويجتهد في أعماله ويوفي الميزان، وهو متواضع مع الناس، هدفه الأسمى كسب مرضاة الله تعالى والكسب الحلال. لقد أمر الله المؤمنين بأن لا يتعدّوا على حقوق الآخرين ولا ينقصوا في الكيل والميزان وأن يعطوا كلّ صاحب بضاعة حقّه ( سورة هود 85 ) كما وردت في بعض الآيات توصيات تأمر بأن يكون التاجر أمينا، صدوقا، لا يأكل حقوق النّاس بالباطل ويتحلّى بالأخلاق السامية. يقول تعالى: "وَأَوْفُوا الكَيْلَ إِذَا كِلْتُمْ وَزِنُوا بِالقِسْطَاسِ المُسْتَقِيمِ ذَلِْكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً" ( الإسراء، 35 ). وقول تعالى: "وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالقِسْطِ وَلاَ تُخْسِرُوا المِيزَانَ " ( الرحمن، 9 ) . بين القرآن أخلاق التجارة وتعاملات البيع والشراء، وأوّل ما يلفت الانتباه أمر الله بالكسب الحلال وتجنب الربا مثل قوله تعالى: "...وَ أَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا ..." ( البقرة، 275 ). وقد أمر الله المؤمنين بكتابة الديون المتداولة ومقادير البيع والشراء حتّى لا ينسى الإنسان ما له وما عليه فتضيع الحقوق وتحصل خلافات وخصومات، إضافة إلى الاستعانة بشاهدين عند عقد الصفقات التجارية ( البقرة، 282 ). هناك شيء مهم على المؤمن أن يلتزم به في حياته العملية، فإذا أراد أن يتخذ قرارا أو يقوم بعمل جديد فعليه بالاستشارة أي الاستفادة من خبرات وأفكار الآخرين، وهذه صفات خاصة بالمؤمنين الذين يطبقون التعاليم القرآنية. خلاصة القول أنّ القرآن اهتم بالميدان التجاري مثلما اهتم بميادين الحياة الأخرى فقدّم نموذجا جميلا، سهلا و حقيقيا لطريقة التعاملات و البيع و الشراء، وبذلك فقط يبتعد الإنسان عن الضغوطات النفسية والعصبية ويحقق الراحة والطمأنينة ويستطيع اتخاذ القرارات الصائبة ويهيّأ ظروف عمل تساعد على النجاح. كل ذلك يتحقق باتباع طريق الحق والايمان والاستعانة بالمشورة والاستفادة من خبرات الآخرين. إنّ المؤمن العاقل يخطط حياته العملية بفكر واسع فيضع خططا على المدى البعيد والقريب، ويتجاوز النتائج بوضع الحسابات الدقيقة والمربحة، كما يأخذ التدابير اللازمة لمنع حصول الضرر ويختار الحلول التي ارتآها الله لعباده في القرآن الكريم. والمؤمن يستعين بالله عند كلّ عمل يقوم به. إننا نعيش حياة متطورة لم تكن موجودة حتى في خيال الإنسان القديم، حياة فيها إمكانيات كبيرة نحمد الله الذي سخّرها لنا وعلينا أن نستعملها وفقا للأخلاق القرآنية. مثلا، ما نعيشه اليوم من تطور تكنولوجي و ما نراه من تقدم في وسائل الاتصالات والمواصلات وما تشهده الحياة العملية من تقدم كبير مثل ظهور الحاسوب والإنترنيت وهو ما مكن الأفراد القاطنين في بقاع مختلفة من الأرض من التحدث والتواصل وتبادل المعلومات والآراء وتكوين علاقات فيما بينهم. إنه لابد علينا التفكير في هذه النعم بعمق كبير لأنّ الله بعث لنا الأنبياء ليكونوا قدوة لنا، فقد كانوا يذكرون الله في السر والعلانية و يذكرون الله كثيرا كلّما قاموا بعمل فلا يعبدون و لايحمدون أحدا سواه مصداقا لقوله تعالى: "يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ وَ تَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَالجَوَابِ وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ اعْمَلُوا آلَ دَاوُدَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِي الشَّكُورُ" ( سبأ، 13 ) .