رحمة النبي صلى الله عليه وسلم في القرآن الكريم ( لقد أراد الله تعالى أن يمتن على العالم برجل يمسح آلامه ، ويخفف أحزانه ، و يرثى لخطاياه ويستميت في هدايته ، ويأخذ بناصر الضعيف ، ويقاتل دونه قتال الأم عن صغارها ويخضد شوكة القوي حتى يرده إنساناً سليم الفطرة لا يضرى ولا يطغى .. فأرسل محمد عليه الصلاة والسلام ، وسكب في قلبه من العلم والحلم . وفي خلقه من الإيناس والبر وفي طبعه من السهولة والرفق ، وفي يده من السخاوة والندى ، ما جعله أزكى عباد الله رحمة ، وأوسعهم عاطفة وأرحبهم صدراً )1 وليس من آية في القرآن تذكره صلى الله عليه وسلم إلا وتحكي خصلة من طيب شمائله ، وعبير ذكراه ...وذكر سبحانه رحمة نبيه في عدد من الآيات .وإن حصرت هذه الآيات في أقل من عدد أصابع اليد إلا أن دلا لتها ومعانيها تفوق الوصف ... لكن نشير إلى أهم ما ذُكر في معانيها ومراميها ومع ترتيب المصحف نقف عند قوله تعالى : (( فبما رحمةٍ من الله لنت لهم ولو كنت فظاً غليظ القلب لنفضوا من حولك ))1 . ( فهي رحمة الله التي نالته ونالتهم فجعلته صلى الله عليه وسلم رحيماً بهم ليناً معهم ولو كان فظاً غليظ القلب ما تآلفت حوله القلوب ولا تجمعت حوله المشاعر فالناس في حاجة إلى كنف رحيم وإلى عناية فائقة ، وإلى بشاشةٍ سمحة وإلى ودٍ يسعهم وحِلمٍ لا يضيق بجهلهم وضعفهم ونقصهم ، وفي حاجةٍ إلى قلبٍ كبير يعطيهم ولا يحتاج إلى عطائهم ويحمل هموهم ولا يعنيهم بهمه . ويجدون عنده دائماً الاهتمام والرعاية و العطف والسماحة والود والرضا .. وهكذا كان قلب رسول الله صلى الله عليه وسلم وهكذا كانت حياته مع الناس ، ما غضب لنفسه قط ، ولا ضاق صدره بضعفهم البشري .. )2 . ويقول سبحانه وتعالى في معرض ذكر إيذاء المنافقين للنبي صلى الله عليه وسلم وصحابته في سورة التوبة (( ومنهم الذين يؤذون النبي ويقولون هو أذن قل أذن خير لكم يؤمن بالله ويؤمن للمؤمنين ورحمة للذين آمنوا منكم ... ))1 . ففي هذه الآية يدافع الله عن نبيه ويرد على المنافقين ما يرمون به المصطفى صلى الله عليه وسلم من أنه سريع الاغترار بكل ما يسمع فأجاب سبحانه نعم هو كذلك كما قلتم أذن لكن في الخير وهو خير لكم يؤمن بالله ويصدق المؤمنين ، وهو رحمة ( لأنه يجري أحكام الناس على الظاهر ولا ينقب على أحوالهم ، ولا يهتك أسرارهم )2 . وقال سبحانه : (( لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم ))1 . قال ابن كثير ( يقول تعالى ممتناً على المؤمنين بما أرسل إليهم رسولاً من أنفسهم أي من جنسهم وعلى لغتهم ... (( عزيز عليه ما عنتم )) أي يعز عليه الشيء الذي يعنت أمته ويشق عليها ، ولهذا جاء في الحديث : ( بعثت بالحنيفية السمحة ) وفي الصحيح : ( أن الدين يسر ) وشريعته كلها سهلة سمحة يسيرة على من يسرها الله عليه ... (( حريص عليكم )) أي على هدايتكم2 ووصول النفع الدنيوي و الأخروي إليكم ... )3 . (( بالمؤمنين رؤوف رحيم )) ( يعني أنه صلى الله عليه وسلم رؤوف بالمطيعين رحيم بالمذنبين )4 . وكونه بالمؤمنين رؤوف رحيم لا يعني ذلك أنه لا يقسوا عليهم أحياناً فقد ( تأخذ الرحمة الحقة طابع القسوة ، وليست كذلك .. ولذلك قال الشاعر : فـاليزدجروا ومن يـك راحمــــــاً فليقس أحيانـاً على من يرحـــــم فليست الرحمة حناناً لا عقل معه أو شفقة تتنكر للعدل والنظام . كلا إنها عاطفة تراعي هذه الحقوق جميعا )5 . لذلك كان من رحمته بكم أن حثكم على الجهاد وهو ما فيه من مشقة وعسر ( وركوب الصعاب فما ذلك من هوان بكم عليه ، ولا بقسوة في قلبه وغلظة إنما هي الرحمة في صورة من صورها . ورحمة بكم عن الذل و الهوان ، والرحمة بكم من الذنب و الخطيئة ، والحرص عليكم أن يكون لكم شرف حمل الدعوة وحفظ رضوان الله و الجنة التي وعد المتقون )6 . وقد بوَّب البيهقي في شعب الإيمان ( فصل في حدب النبي صلى الله عليه وسلم على أمته ورأفته بهم ) ثم ساق الآية (( لقد جاءكم ... )) ونقل عن الفارسي قوله ( وهل وصف الله عز وجل أحداً من عباده بهذا الوصف من الشفقة والرحمة التي وصف بها حبيبه صلى الله عليه وسلم )1 وجاء مثل ذلك عن الحسين بن الفضل حيث قال [ لم يجمع الله لأحد من الأنبياء اسمين من أسماءه إلا للنبي محمد صلى الله عليه وسلم فإنه قال : (( بالمؤمنين رؤوف رحيم )) وقال : (( إن الله بالناس لرؤوف رحيم )) ]2 وقال سبحانه : (( وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين ))1 . ( يخبر تعالى أن الله جعل محمد صلى الله عليه وسلم رحمة للعالمين أي أرسله رحمة لهم كلهم فمن قَبِل هذه الرحمة وشكر هذه النعمة سعد في الدنيا والآخرة ، ومن ردها وجحدها خسر الدنيا والآخرة )2 ( فإن قيل أي رحمة حصلت لمن كفر به فالجواب ما رواه أبو جعفر بن جرير بسنده عن ابن عباس قال ( من آمن بالله واليوم الآخر كتب له الرحمة في الدنيا والآخرة ، ولمن لا يؤمن بالله ورسوله عوفي مما أصاب الأمم من الخسف والقذف . )3 ويدل عليه قوله تعالى : (( وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم ))4 . وأيضاً فإن الرحمة الحاصلة من رسول الهدى صلى الله عليه وسلم بقمع ذئاب البشر الذين أبَو إلا اعتراض هذه الرحمة المرسلة ووضع العراقيل حتى تنقطع عن الناس ، فيهلكوا في أودية الحيرة والجهالة ، فلم يكن بد من إزالة هذه العوائق و الإغلاظ لأصحابها ويوم ينقطع تعرّضهم وتحديهم تشملهم هذه الرحمة ..5 1 – خلق المسلم 210 1 – آل عمران 159 2 – في ظلال القرآن 1 / 501 1 – التوبة 61 / والآية ( نزلت في جماعة من المنافقين كانوا يؤذون رسول الله صلى الله عليه وسلم ويعيبونه ويقولون ما لا ينبغي فقال بعضهم لا تفعلوا فإنا نخاف أن يبلغه ما تقولون فيقع بنا فقال الجلاس بن سويد وهو ممن المنافقين بل نقول ما شئنا ثم نأتيه وننكر مما قلنا ونحلف فيصدقنا بما نقول ، فإنما محمد أذن أي يسمع كل ما يقال له ويقبله ... ومقصود المنافقين بقوله هو أذن أنه ليس بعيد غور بل سليم سريع الاغترار بما يسمع فأجاب الله سبحانه وتعالى عنه بقوله ( قل أذن خير لكم ) يعني هب أنه أذن لكنه أذن خير لكم كقولك : رجل صدق ، وشاهد عدل . والمعنى أنه مستمع خير وصلاح لا مستمع شرٍ وفساد . وقرئ أذن خير مرفوعين ، ومعناه يسمع منكم ويصدقكم خير لكم من أن يكذبكم ، ولا يقبل قولكم . ) ... ( يؤمن بالله ويؤمن للمؤمنين ) يعني أنه يصدق المؤمنين ويقبل قولهم ولا يقبل قول المنافقين و عدى الإيمان بالله بالياء والإيمان للمؤمنين باللام لأن الإيمان بالله هو نقيض الكفر فلا يتعدى إلا بالياء فيقال آمن بالله ، والإيمان بالمؤمنين معناه تصديق المؤمنين فيما يقولونه فلا يقال إلا باللام ومنه قوله تعالى : ( أنؤمن لك ) وقوله : ( آمنتم له ) تفسير الخازن 3 / 146 . 2 – تفسير الخازن 3 / 146 1 – التوبة 128 . 2 – انظر في حرصه صلى الله عليه وسلم على الدعوة كتاب ( الحرص على هداية الناس ) . 3 – ابن كثير 2 / 348 ، 349 4 – تفسير البغوي مع تفسير الخازن . 5 – خلق المسلم 213 6 – في ظلال القرآن 3 / 1743 1 – شعب الإيمان 4 / 63 2 – تفسير القرطبي 8 / 302 1 – الأنبياء 107 2 – تفسير ابن كثير 3 / 175 3 – المصدر السابق 3 / 177 4 – انظر فتح القدير 3 / 430 والتفسير الكبير 22 / 230 5 – انظر خلق المسلم 212