ولما رأت قريش أن محمداً لا يصرفه عن دعوته هذا ولا ذاك . فكروا مرة أخرى واختاروا لقمع هذه الدعوة أساليب تتلخص فيما يأتي : 1 _ السخرية والتحقير والاستهزاء والتكذيب والتضحيك ، قصدوا بها تخذيل المسلمين وتوهين قواهم المعنوية فرموا النبي بتهم هازلة وشتائم سفيهة فكانوا ينادونه بالمجنون وَقَالُواْ يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ ويصمونه بالسحر والكذب وَعَجِبُوا أَن جَاءهُم مُّنذِرٌ مِّنْهُمْ وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ وكانوا يشيعونه ويستقبلونه بنظرات ملتهمة ناقمة وعواطف منفعلة هائجة وإن يكاد الذين كفروا ليزلقونك بأبصارهم لما سمعوا الذكر ويقولون إنه لمجنون وكان إذا جلس وحول المستضعفون من أصحابه استهزأوا بهم وقالوا : هؤلاء جلساؤه منّ الله عليهم من بيننا وقال تعالى أليس الله بأعلم بالشاكرين وكانوا كما قص الله علينا إن الذين أجرموا كانوا من الذين آمنوا يضحكون . وإذا مروا بهم يتغامزون . وإذا انقلبوا إلى أهلهم انقلبوا فكهين . وإذا رأوهم قالوا إن هؤلاء لضالون . وما أرسلوا عليهم حافظين 2 _ تشويه تعاليمه وإثارة الشبهات ، وبث الدعايات الكاذبة ونشر الإيرادات الواهية حول هذه التعاليم وحول ذاته وشخصيته والإكثار من كل ذلك بحيث لا يبقى للعامة مجال في تدبر دعوته ، فكانوا يقولون عن القرآن أساطير الأولين اكتتبها فهي تملى عليه بكرة وأصيلاً } وقال إن هذا إلا إفك افتراه وأعانه عليه قوم آخرون وكانو يقولون إنما يعلمه بشر يقولون عن الرسول صلى الله عليه وسلم ما لهذا الرسول يأكل الطعام ويمشي في الأسواق وفي القرآن نماذج كثيرة للردود على إيراداتهم بعد نقلها أو من غير نقلها . 3 _ معارضة القرآن بأساطير الأولين وتشغيل الناس بها عنه فقد ذكروا أن النضر ابن الحارث قال مرة لقريش : يا معشر قريش ! والله لقد نزل بكم أمر ما أوتيتم له بحيلة بعد . قد كان محمد فيكم غلاماً حدثاً أرضاكم فيكم ، وأصدقكم حديثاً وأعظمكم أمانة ، حتى إذا رأيتم في صدغيه الشيب وجاءكم بما جاءكم به قلتم : ساحر . لا والله ما هو بساحر . لقد رأينا السحرة ونفثهم وعقدهم ، وقلتم : كاهن . لا والله ما هو بكاهن . قد رأينا الكهنة وتخالجهم وسمعنا سجعهم وقلتم : شاعر . لا والله ما هو بشاعر ، قد رأينا الشعر وسمعنا أصنافه كلها هزجه ورجزه ، وقلتم مجنون . لا والله ما هو بمجنون لقد رأينا الجنون فما هو بخنقه ولا وسوسته ، ولا تخليطه يا معشر قريش فانظروا في شأنكم فإنه والله لقد نزل بكم أمر عظيم . ثم ذهب النضر إلى الحيرة وتعلم بها أحاديث ملوك الفرس وأحاديث رستم وأسفنديار فكان إذا جلس وسلم مجلساً للتذكير بالله والتحذير من نقمته خلفه النضر ، ويقول : والله ما محمد بأحسن حديثاً مني ثم يحدثهم عن ملوك فارس ورستم وأسفنديار ثم يقول : بماذا محمد أحسن مني حديثاً مني . وتفيد روايه ابن عباس أن النضر كان قد اشترى قينات فكان لا يسمع برجل مال إلى النبي إلا سلط عليه واحدة منها تطعمه وتسقيه وتغني له حتى لا يبقى له ميل إلى الإسلام ، وفيه نزل قوله تعالى ومن الناس من يشتري لهو الحديث ليضل عن سبيل الله . 4 _ مساومات حاولوا بها أن يلتقي الإسلام بالجاهلية في منتصف الطريق بأن يترك المشركون بعض ما هم عليه ويترك النبي بعض ما هو عليه قال تعالى ودوا لو تدهن فيدهنون فهناك رواية رواها ابن جرير والطبراني تفيد أن المشركين عرضوا على رسول الله أن يعبد آلهتهم عاماً ويعبدون ربه عاماً ورواية أخرى لعبد بن حميد تفيد أنهم قالوا : لو قبلت آلهتنا نعبد إلهك .. وروى ابن إسحاق بسنده قال : اعترض رسول الله _ وهو يطوف بالكعبة الأسود بن المطلب بن أسد بن عبد العزى والوليد بن المغيرة وأمية بن خلف والعاص بن وائل السهمي _ وكانوا ذوي أسنان في قومهم _ فقالوا يا محمد هلم فلنعبد ما تعبد وتعبد ما نعبد فنشترك نحن وأنت في الأمر فإن كان الذي تعبد خيراً مما نعبد كنا قد أخذنا بحظنا منه ، وإن كان ما نعبد خيراً مما تعبد كنت قد أخذت بحظك منه ، فأنزل الله تعالى فيهم قل يا أيها الكافرون . لا أعبد ما تعبدون وحسم الله مفاوضتهم المضحكة بهذه المفاصلة الجازمة .. ولعل اختلاف الروايات لأجل أنهم حاولوا هذه المساومة مرة بعد أخرى .