1-تفنيد فِرية السيف

تحت قسم: هل كان محمد صلى الله عليه وسلم رحيما؟ الفصل الأول

جاء أول يوم من رمضان من العام الهجري /1427/، وعند الساعة التاسعة رن جرس باب منـزلي، ففتحت، واستقبلت الضيفين مرحِّباً بهما... وعرَّفني (الأب نقولا) على صاحبه قائلاً:

 

- صديقي (الأب ستيفانو) من الشعبة الثقافية في السفارة الإيطالية عندنا.

فكرَّرت الترحيب بالضيف... وطفقنا نتجاذب أطراف الحديث... ثم قمت بواجب الضيافة...التزاماً مني بتعاليم الإسلام، وانطلاقاً من قول رسول الله  صلى الله عليه وسلم  : «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليُكرم ضيفه»([1]). وفي أثناء ذلك ابتدرني الأب ستيفانو قائلاً بالعربية مَشوبةً بلكنة أجنبية: 

 - لديّ سؤال أرجو أن أجد جوابه عندك.

قلت: أبشِر، إن كان الجواب في مقدوري.

وأردفت مبتسماً: لعل سؤالك يدور حول عبارات بابا الفاتيكان الأخيرة؟.

فتبسم الأب ستيفانو وهو يقول:

- لا عليك؛ فهذه العبارات وأمثالها، تُلقى بين آونة وأخرى، بوحيٍ من بعض كبار الساسة، ليصلوا بها إلى أهداف خططهم المرسومة خِفية عن أعين الناس.. بدليل أن أصحاب هذه العبارات غالباً ما يتراجعون عنها، عندما يدركون خطرها..

واستدرك قائلاً:

- لكنْ على ذِكر كلام بابا الفاتيكان، أترى تهمة انتشار الإسلام بالسيف، حقاً أم باطلاً؟([2]).

قلت: ومن أين لي أن أعرف هذا؟

قال: من النصوص الأصلية التي تأخذون منها دينكم أنتم المسلمين.

قلت: وأين أجد هذه النصوص؟.

قال: من الثابت لدى الجميع، أن نصوصكم الأصلية موجودة في آيات (القرآن) كتابِ دِينِكم، وفي الأحاديث الصحيحة التي تروونها عن نبيكم، ثم ما صح من أخبار السيرة النبوية([3])عندكم.

قلت: أوَ ترضى أنت بالاحتكام إلى هذه النصوص؟.

قال:ولِمَ لا؟ إن جميع الأديان والمذاهب والفلسفات، لا نعرف حقيقتها إلا بالرجوع إلى نصوصها الأصلية التي يصدر عنها أصحابها، هكذا يقول العقل([4]).

قلت: لقد أَنصفتَ، ولأعرضنَّ عليك من النصوص الأصلية التي رضيتَها، ثم لك أن تحكم بما يمليه عليك عقلك وإنصافك.

قال:إني مُصغٍ.

قلت: استمع معي إلى آيات القرآن الكريم التي تعلِّم نبي المسلمين، ثم المسلمين، طريقة نشر الدعوة الإسلامية بين الناس:

- تقول الآية القرآنية مخاطبة رسول الله  صلى الله عليه وسلم  ، وكلَّ مسلم: ﴿ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ﴾([5])، أتجد هنا سيفاً أم حواراً؟

قال: لا أجد هنا إلا حواراً، بل هو حوار لطيف حسن.

قلت: وتقول الآية القرآنية مخاطبة رسول الله  صلى الله عليه وسلم  ، وكل مسلم: ﴿وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ﴾([6])، أتجد هنا سيفاً أم حواراً؟.

      قال: لا أجد هنا إلا حواراً، بل هو حوار لطيف حسن كسابقه.

قلت: وتقول الآية القرآنية: ﴿وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ﴾([7])، وأهل الكتاب كما تعلم، هم اليهود والنصارى، أتجد هنا سيفاً أم حواراً؟

قال: لا أجد هنا إلا حواراً، بل هو حوار لطيف حسن كسابقَيه.

واستدرك قائلاً: لكن هل لك أن توضح لي كيف تتم هذه المجادلة بالتي هي أحسن، على أن نبقى ضمن النصوص الأصلية.

قلت: لك هذا، ولن أخرج عن النصوص الأصلية قِيدَ أُنملة، فاستمع إلى تمام الآية السالفة ليتوضح لك ما تريد، قال تعالى: ﴿وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنـزلَ إِلَيْنَا وَأُنـزلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ﴾[8]، أي أن علينا نحن المسلمين أن نبيِّن لهم – لليهود والنصارى – حقيقة ديننا الذي يعترف بنبوَّة جميع الأنبياء الذين أرسلهم الله تعالى لهداية البشر، ويصدِّق جميع الكتب التي أنـزلها عليهم، ومنها التوراة والإنجيل اللذان أُنـزلا على موسى وعيسى عليهما السلام.

قال الأب ستيفانو: هذا حسن، لكن وردتْ في الآية التي ذكرتَها عبارةٌ أود أن توضحها لي.

قلت: ما هي؟

قال: ﴿إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ﴾ من هم هؤلاء الذين استثنتهم الآية من الحوار والمجادلة الحسنة؟

قلت: هؤلاء، هم الذين يسبُّون ويشتمون دين الإسلام ونبي الإسلام، ويعتدون على المسلمين ويظلمونهم، أينفع الحوار والمجادلة الحسنة مع هؤلاء؟.

قال: لا، فالمعتدي يجب أن يحاسَب ويعاقَب، هكذا يقول العقل، ولو تركنا المعتدي على هواه، لألحق الأذى والضرر بالأبرياء.

وأردف قائلاً: ولا أكتمك أن هذه اللفتة في الآية، فيها حفظ لكرامة المسلمين[9].

قلت: لقد أَنصفتَ.

قال: أنا أتفق معك من خلال هذه النصوص، أن الإسلام دين يدعو إلى الحوار، لكنْ...

وصَمَتَ الأب ستيفانو قليلاً. فقلت مستحثاً إياه على المتابعة:

      - لكن ماذا؟

قال: لكن إذا رفض الذين تحاورونهم الاستجابة إلى دعوتكم، ولم يُجدِ الحوار، فالسيف... أليس كذلك؟

قلت: على رِسْلك، أمَا زلنا متفقَين على الاحتكام إلى النصوص الأصلية؟

قال: بلى، ولن أعفيك من هذا الاتفاق.

قلت: إذاً استمع إلى هذه الآية القرآنية التي تعلم نبي المسلمين وكل مسلم، كيفية الحوار مع النصارى واليهود، وكيفية الرد على الرافضين منهم. تقول الآية: ﴿قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللّهِ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُولُواْ اشْهَدُواْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ﴾[10]، وكرَّرتُ: ﴿فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُولُواْ اشْهَدُواْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ﴾.

      وأردفت: أي إنْ رفَض النصارى واليهود ما تدعونهم إليه من توحيد الله وعبادته سبحانه وحده، فاتركوهم وشأنهم[11]، واثبتوا أنتم على الإسلام. أفي هذا سيف أو عنف أو إكراه؟

قال الأب ستيفانو: الحقَّ أقول: لا سيف ولا عنف ولا إكراه.

قلت: بل أوضح من هذا وأَبْـيَن، تقول الآية القرآنية مشيرةً إلى جميع البشر، من المِلل كافة: ﴿وَقُلِ الْحَقُّ مِن رَبِّكُمْ فَمَن شَاء فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاء فَلْيَكْفُرْ﴾[12].

وكرَّرتُ: ﴿مَن شَاء فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاء فَلْيَكْفُرْ﴾. ثم حساب المؤمن والكافر على الله سبحانه، وليس على البشر.

     

 وأردفت: بل أوضح من هذا وأَبْـيَن، تقول الآية القرآنية معلنة المبدأ العام في الدعوة إلى دين الإسلام: ﴿لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ﴾[13]. وانطلاقاً من هذا المبدأ العام، أتدري ماذا فعل نبي المسلمين عندما رفض الكافرون بوحدانية الله الاستجابةَ لدعوته، وامتنعوا عن القبول بعبادة الله وحده، وأصروا على عباداتهم الضالَّة؟

قال: ماذا فعل؟

قلت: لم يجرِّد عليهم سيفاً، ولم يعنف بهم، ولم يحاول إكراههم بأي وسيلة، إنما التجأ إلى ربه، يدعوه ويستخيره فيما يفعل أو يقول بشأن هؤلاء الكافرين المعاندين، فنـزلت الآيات القرآنية ترشده وتوجهه وتقول له: ﴿قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ{1} لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ{2} وَلَا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ{3} وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَّا عَبَدتُّمْ{4} وَلَا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ{5} لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ﴾[14].

وكرَّرتُ: ﴿لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ﴾.

وتقول له: ﴿وَإِن كَذَّبُوكَ فَقُل لِّي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَاْ بَرِيءٌ مِّمَّا تَعْمَلُونَ﴾[15].

وتقول له: ﴿قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصاً لَّهُ دِينِي{14} فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُم مِّن دُونِهِ﴾[16].

     

وأردفت: أهناك حرية دينية فوق هذا؟

قال الأب ستيفانو: أشهد أن هذا عين الإنصاف!

     

قلت: أعرفتَ الآن، إن كانت تهمة انتشار الإسلام بالسيف، حقاً أم باطلاً؟

قال:أجل عرفت، إنها تهمة باطلة، وأشهد أن الإسلام بريء منها[17].

--------------------------------------------------------------------------------

[1] صحيح مسلم: الحديث رقم 47.

[2] انظر في تفنيد فِرية (انتشار الإسلام بالسيف) كتاب (رمزية الصليب) للمستشرق رينيه جينو.

[3] هناك محاولتان جديرتان بالاهتمام، في تمييز صحيح أخبار السيرة النبوية، إحداهما للمحدث الشيخ ناصر الدين الألباني رحمه الله، بعنوان (صحيح السيرة النبوية) – والأخرى للدكتور أكرم العمري بعنوان (السيرة النبوية الصحيحة). ويضاف إليهما محاولات أخرى مثل (السيرة النبوية كما جاءت في الأحاديث الصحيحة) لمحمد الصوياني وغيرها..

[4] يقول المستشرق السويسري (جان سبيرو): «إنه كلما ازداد الإنسان اطلاعاً على سيرة محمد النبي، لا بِكُتب أعدائه وشانئيه، بل بتآليف معاصريه، وبالكتاب والسنَّة، أدرك أسباب إعجاب الملايين من البشر في الماضي وحتى الآن بهذا الرجل، وفهم علة تفانيهم في محبته وتعظيمه».

[5] سورة النحل /125.

[6] سورة النحل /125.

[7] العنكبوت /46.

[8] العنكبوت /46.

[9] تقول البريطانية الباحثة في الأديان (كارين أرمسترونغ) في كتابها (محمد): «وفي الغرب، غالباً ما نتخيل محمداً قائد حرب، ماضياً يلوح بسيف ليفرض الإسلام على مجتمع كاره له، بقوة السلاح. أما الحقيقة فكانت جد مختلفة، فقد كان محمد والمسلمون الأوائل يكافحون في سبيل الإبقاء على حياتهم» ص 252. وتقول «وبعد الهجرة بدأ القرآن يطور تشريعات للحرب العادلة، إذ أن الحرب تكون أحياناً ضرورية للحفاظ على القيم= =الفاضلة، ولولا استعداد بعض المتدينين من الناس لدفع الهجوم، لحطمت جميع أماكن عبادتهم» ص 254. وتقول «ويتفق مسيحيون كثيرون على مفهوم الحرب العادلة، لأنهم يعلمون أن المعركة المسلحة ضد أمثال هتلر وسيسيكو هي الطريقة الوحيدة المؤثرة، ولهذا فبدلاً من أن يكون الإسلام ديناً سلبياً يدير الخدّ للآخر، فهو دين يقاتل الطغيان والظلم» ص 259.

 

[10] آل عمران /64.

[11] تقول البريطانية الباحثة في الأديان (كاترين أرمسترونغ) في كتابها (محمد): «ففي ظل الإمبراطورية الإسلامية تمتع اليهود، مثلهم مثل المسيحيين، بحرية دينية كاملة، وعاش اليهود في المنطقة بسلام حتى إقامة دولة إسرائيل= =في قرننا الحالي – العشرين المسيحي – ولم يعانِ اليهود في ظل الإسلام ما عانوه في ظل المسيحية، أما الأساطير الأوروبية المعادية للسامية، فقد قدمت إلى الشرق الأوسط في نهاية القرن الماضي – التاسع عشر المسيحي – على يد البعثات التبشيرية المسيحية، وكانت الجماهير عادة ما تقابلها بالازدراء» ص 309-310 – ط. كتاب سطور.

[12] الكهف /29.

[13] البقرة /256.

[14] سورة الكافرون.

[15] يونس /41.

[16] الزمر /14-15/.

[17] يقول المهاتما غاندي متحدثاً عن هذه التهمة: «أردت أن أعرف صفات الرجل الذي يملك بدون نزاع قلوب ملايين البشر.. لقد أصبحتُ مقتنعاً كل الاقتناع أن السيف لم يكن الوسيلة التي من خلالها اكتسب الإسلام مكانته، بل كان ذلك من خلال بساطة الرسول مع دقته وصدقه في الوعود، وتفانيه وإخلاصه لأصدقائه وأتباعه وشجاعته مع ثقته المطلقة بربه ورسالته، هذه الصفات هي التي مهدت الطريق، وتخطت المصاعب، وليس السيف، بل بعد انتهائي من قراءة الجزء الثاني من حياة الرسول وجدت نفسي آسفاً لعدم وجود المزيد للتعرف أكثر على حياته العظيمة».

ويقول المستشرق (توماس كارليل) في كتابه (محمد المثل الأعلى): «من الشبهات التي يثيرها بعض المسيحيين: أن النبي قام بنشر الدين الإسلامي بقوة السيف، وهذا القول بعيد كل البعد عن الصواب، لأن الذين يدَّعون ذلك عليهم أن يتدبروا قليلاً، فلا بد أن يكون هناك سر في هذا السيف الذي خرج من جزيرة العرب ووصل بأيدي القادة المسلمين إلى جبال (إسبانيا) غرباً وإلى (سمرقند) شرقاً. فما هو هذا السر؟ بلا شك إن السر في ذلك يعود إلى الشريعة الإلهية التي جاء بها النبي محمد، تلك القوة العظمى التي دفعت بعبدة الأصنام والأوثان في جزيرة العرب إلى القبول والإذعان لهذا الدين الذي جاء بالقوانين الإلهية التي وضعها الحكيم العليم، والتي تضمن سعادة الإنسان ورقيه، والمسألة الأخرى التي نلفت الأنظار إليها، هي أن الإسلام عندما انتشر شرقاً وغرباً كان قد قضى على جميع العقائد والمذاهب الباطلة، لأنه كان حقيقة ثابتة نابعة من صميم الإنسان، وغيره من الطرق والمذاهب مزيف لا ينسجم مع الطبيعة الإنسانية، وهو زائل، أو في طريقه إلى الزوال».

ملاحظة: برغم دفاع كارليل عن الإسلام ونبي الإسلام، إلا أن له أقوالاً في القرآن الكريم لا تتفق والعقيدة الإسلامية.