وأردف الأب ستيفانو قائلاً: والآن أودُّ العودة إلى السؤال الذي جئتك لأجله.
قلت:وما سؤالك؟.
قال: إن بلادي أوفدتني إلى بلادكم رَجلَ دين، لا لأكرِّس وقتي لوعظ الناس... فعندكم من الواعظين المسلمين والنصارى ما يكفي وزيادة..
قلت: لقد أَنصفتَ، فما سبب وِفادتك؟.
قال: لقد كُلِّفت من قِبل الجهة التي أعمل فيها، بأن أكتب بحثاً عن (مظاهر الرحمة للبشر في شخصية محمد) نبيكم. وأن أدرس من خلال ذلك شخصية هذا النبي، أكانت قاسية رهيبة تتناسب مع تهمة مجيئه بالسيف ونشر دينه به؟ أم أنها كانت شخصية عطوفة رحيمة تتناقض مع هذه التهمة؟.
قلت: وما الداعي إلى مثل هذا البحث؟.
قال: إن مجتمعاتنا الغربية اليوم – بسبب ما يتردد في وسائل الإعلام – بات الشغلَ الشاغل لها سيرةُ نبيكم محمد.. ولم يجد المعنيون بهذا، وسيلةً أفضل من إعادة دراسة وتقويم سيرة محمد على ضوء الرجوع إلى النصوص الأصلية التي جاء بها، لأجل الوصول إلى الحقيقة غير المشوّهة عن محمد ودينه الذي جاء به. ثم عَرضِ هذه الحقيقة على المجتمعات الغربية، حتى يتسنى لها التخلص من كل ما لا يمتّ إلى الحقيقة بِصِلة.
وأردف قائلاً: ولما عزمتُ البدءَ بالكتابة، وجدتني أولاً بحاجة إلى مطالعة ما سبق أن كتبه الغربيون، من مستشرقين ودارسين، عن شخصية محمد... واستغرق هذا مني قرابة سنة، كانت حصيلتها النتيجة التالية:
لقد وجدتُ دارسي شخصية محمد من الغربيين ينقسمون فئتين:
- فئة كتبت عنه بروح سلبية، وهؤلاء كانوا ينطلقون من وجهة نظر عدائية، كانت تثيرها الكنيسة الغربية منذ القديم.. والغرض منها تشويه صورة محمد في نظر الغربيين، حتى يَنفِروا منه ومن دينه، فلا ينجذبون إليه، ولا يعتنقون دينه!
وكان من هؤلاء المشوِّهين قدماءُ ومُحْدَثون:
أما القدماء، فقد كشف الفيلسوف الفرنسي (رينان) أمرهم لعامة الناس حتى لا ينخدع أحد بأقوالهم.. وشهد على تحاملهم وحقدهم السافر على محمد، فقال: «لقد كتب المسيحيون تاريخاً غريباً عن محمد.. إنه تاريخ يمتلئ بالحقد والكراهية له. لقد ادّعوا أن محمداً كان يسجد لتمثال من الذهب كانت تخبئه الشياطين له! ولقد وصفه دانتي بالإلحاد في رواية (الجحيم)، وأصبح اسم محمد عنده وعند غيره، مرادفاً لكلمة كافر أو زنديق!
ولقد كان محمد في نظر كتّاب العصور الوسطى، تارة ساحراً، وتارةً أخرى فاجراً شنيعاً، ولصاً يسرق الإبل، وكاردينالاً لم يفلح في أن يصبح (بابا) فاخترع ديناً جديداً أسماه (الإسلام) لينتقم من أعدائه! وصارت سيرته رمزاً لكل الموبقات، وموضوعاً لكل الحكايات الفظيعة»[1].
وتابع: ويزداد كلام رينان وضوحاً، عندما نقرأ ما كتبه المستشرق السويسري (جون وانبورت) في كتابه (محمد والقرآن) إذ قال: «بقدر ما نرى من صفة محمد الحقيقية بعين البصيرة والتروي في المصادر التاريخية الصحيحة، بقدر ما نرى من ضعف البرهان، وسقوط الأدلة لتأييد الهجو الشديد، والطعن القبيح، الذي انهال عليه من أفواه المغرضين، والذين جهلوا حقيقة محمد ومكانته».
وعندما نقرأ ما كتبه (برنارد شو) في كتابه (محمد) الذي أحرقته السلطات البريطانية: «إن رجال الدين في القرون الوسطى، ونتيجة للجهل والتعصب، قد رسموا لدين محمد صورة قاتمة».
* * *
وتابع الأب ستيفانو قائلاً:
- وأما المُحْدَثون من هؤلاء المشوِّهين.. المُحْدَثون الذين يدَّعون أنهم درسوا حياة محمد بحسب المنهج العلمي النقدي، الذي يقول بوجوب طرحِ الدارسِ كلَّ الأهواء والميول الشخصية جانباً، قبل البدء بالدراسة.. هؤلاء يحدثنا المستشرق النمساوي (ليوبولد فايس)[2] في كتابه (الإسلام على مفترق الطرق) عن طريقتهم في دراسة الإسلام والسيرة النبوية قائلاً: «إن طريقة الاستقراء والاستنتاج التي يتبعها أكثر المستشرقين –عند دراستهم للإسلام والسيرة النبوية – تذكِّرنا بوقائع دواوين التفتيش! تلك الدواوين التي أنشأتها الكنيسة الكاثوليكية لخصومها في العصور الوسطى، أي أن تلك الطريقة لم يتفق لها أبداً أن نظرت إلى القرائن التاريخية بتجرد، لكنها كانت في كل دعوى تبدأ باستنتاجٍ متفق عليه من قبل، قد أملاه عليها تعصبها لرأيها»[3].
ثم يقول في كتابه هذا أيضاً عن هذه الفئة: «أما تحامل المستشرقين على الإسلام، فغريزة موروثة، وخاصةٌ طبيعية، تقوم على المؤثرات التي خلَّفتها الحروب الصليبية بكل مالها من ذيول في عقول الأوروبيين»[4].
وتابع الأب ستيفانو قائلاً:
- وفي هؤلاء المُحْدَثين من المشوِّهين يقول المستشرق الفرنسي (آتيين دينيه) في كتابه (محمد رسول الله) مصوِّراً الحالة المتدنية التي وصلت إليها كتابة السيرة النبوية على يد بعض المستشرقين: «إنه من المتعذر، بل من المستحيل، أن يتجرد المستشرقون عن عواطفهم وبيئتهم ونـزعاتهم المختلفة، وإنهم – لذلك – قد بلغ تحريفهم لسيرة النبي والصحابة مبلغاً يخشى على صورتها الحقيقية من شدة التحريف فيها! وبرغم ما يزعمون من اتِّباعهم لأساليب النقد البريئة، ولقوانين البحث العلمي الجاد، فإننا نجد – من خلال كتاباتهم – محمداً يتحدث بلهجة ألمانية إذا كان المؤلف ألمانياً! وبلهجة إيطالية إذا كان الكاتب إيطالياً!.. وهكذا تتغير صورة محمد بتغير صورة الكاتب! وإذا بحثنا في هذه السيرة عن الصورة الصحيحة، فإننا لا نجد لها من أثر.
إن المستشرقين يقدمون لنا صوراً خيالية هي أبعد ما تكون عن الحقيقة! إنها أبعد عن الحقيقة من أشخاص القصص التاريخية التي يؤلفها أمثال (ولتر سكوت –وإسكندر ديماس) وذلك أن هؤلاء يصورون أشخاصاً من أبناء قومهم، فليس عليهم إلا أن يحسبوا حساب اختلاف الأزمنة، أما المستشرقون فلم يمكنهم أن يلبسوا الصورة الحقيقية لأشخاص السيرة، فصوروهم حسب منطقهم الغربي، وخيالهم العصري».
ثم يقول: «ما رأي الأوروبيين في عالِم من أقصى الصين، يتناول المتناقضات التي تكثر عند مؤرخي الفرنسيين، ويمحِّصها بمنطقه الشرقي البعيد، ثم يهدم قصة (الكاردينال ريشيلو) كما نعرفها، ليعيد إلينا (ريشيلو) آخر له عقلية كاهن من كهنة بكين، وسِماته وطبعه؟!.
إن مستشرقي العصر الحاضر قد انتهوا إلى مثل هذه النتيجة فيما يتعلق بسيرة محمد، ويخيل إلينا أننا نسمع محمداً يتحدث في مؤلفاتهم، إما باللهجة الألمانية، أو الإنكليزية، أو الفرنسية، ولا نتمثله قط - بهذه العقلية والطباع التي أُلصقت به - يحدِّث عرباً باللغة العربية»[5].
وتابع الأب ستيفانو قائلاً:
- ويقول المستشرق (مونتغومري وات) في كتابه (محمد في مكة) عن هؤلاء المشوِّهين:
«وإذا حدث أن كانت بعض أراء العلماء الغربيين، غير معقولة عند المسلمين، فذلك لأن العلماء الغربيين لم يكونوا دائماً مخلصين لمبادئهم العلمية، وأن آراءهم يجب إعادة النظر فيها من وجهة النظر التاريخية الدقيقة»[6].
ويقول عنهم المستشرق (مكسيم رودنسون) في معرض تقويمه ما كتبه العلماء الغربيون المُحدَثون عن الإسلام ونبي المسلمين: «يمكن القول بصورة عامة، إن العلماء في القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، كان يزيد ضررهم على نفعهم، وذلك لتأثرهم بالأحكام الشائعة لا بالعلم»[7].
* * *
وأردف الأب ستيفانو قائلاً: أما أنا، فبعدما تعرفتُ على ما كتبه القدماء والمُحدَثون من هذه الفئة المشوِّهة، أدركت أن هؤلاء الكتَّاب كانوا على قدر كبير من الجهل بحياة وسيرة محمد الحقيقية، وأدركتُ أنهم لم يُجَشِّموا أنفسهم عناء الرجوع إلى النصوص والمصادر الأصلية لسيرة محمد[8].
وأستطيع أن أقول، وأنا مطمئن الاطمئنانَ كلَّه لما أقول: لقد ساد دراسات هؤلاء الغربيين من مستشرقين ودارسين لحياة محمد، كثير من التعسف في تفسير النصوص والأحداث، بسبب الأهواء الدينية والعنصرية، أو بسبب سوء الفهم للإسلام وأحكامه ونظمه ومقاصده[9].
وأردف: ولأجل هذا كله، لم أستطع أن أُفيد من كتابات هذه الفئة المشوِّهة، في بحثي الذي أنا بسبيله.
* * *
قلت: والفئة الأخرى؟
قال: الفئة الأخرى، كتبتْ عن شخصية محمد بروح إيجابية، وهؤلاء كانوا ينطلقون في كتاباتهم إما من وجهة نظر وُدِّية متعاطفة، وإما من وجهة نظر منصفة تَنشدُ الحقيقة[10].
وقد حاولت الإفادة مما كتبوه.. إلا أنني بعدما اطلعت على كتبهم، وجدتُني لا أستطيع الاكتفاء بما طالعت منها وقرأت، برغم تلك الصورة الزاهية لمحمد في هذه الكتب.
قلت: ولِمَ تعتقد هذا؟
قال: لقد وجدتُ هذه الفئة من الدارسين، منهم من درس محمداً العبقري، من خلال مظاهر العبقرية البشرية، وقَرَنه بمن ظهر من العباقرة في التاريخ البشري.
ومنهم من درس محمداً الفيلسوف، من خلال مبادئ الفلسفة البشرية، وقَرَنه بمن ظهر من الفلاسفة في التاريخ البشري.
ومنهم من درس محمداً المصلح الديني، من خلال سُبُل الإصلاح الديني البشرية، وقَرَنه بمن ظهر من المصلحين الدينيين في التاريخ البشري.
ومنهم من درس محمداً القائد العسكري، من خلال النظم العسكرية البشرية، وقَرَنه بمن ظهر من القواد العسكريين في التاريخ البشري.
ومنهم من درس محمداً المُشَرِّع، من خلال التشريعات والقوانين البشرية، وقَرَنه بمن ظهر من المشرعين وواضعي القوانين في التاريخ البشري.
إلى غير هذا من صفات العظمة البشرية التي كانوا يستخلصونها من سيرة محمد، وكانوا في كل صفة منها يضعون محمداً في القمة على رأس الجميع!.
قلت: وماذا في ذلك؟
قال: فيه أنهم بهذا يدرسون محمداً على أنه عظيم من عظماء البشر، يتمتع بصفات متميزة كغيره من عباقرة الرجال[11]... لكنهم يَغفلون عن مناقشة النتيجة التي كانوا يصلون إليها دائماً، وهي أن محمداً دائماً في القمة بين العظماء جميعاً! مهما كانت صفة العظمة التي يدرسونها فيه. بل هو دائماً يجمع كل صفات العظمة... بينما غيره من العظماء يتوزعون فيما بينهم هذه الصفات.. التي تجمعت فيه وحده! فلماذا؟
قلت: وهل في هذا ما يثير التساؤل؟
قال: أجل، كان الأجدر بأولئك الدارسين، عندما وصلوا جميعاً إلى نتيجة واحدة، أن يتساءلوا: لماذا محمد دون غيره، هو دائماً في القمة؟ ولماذا محمد دون غيره، تجتمع له صفات العظمة، بينما هي لا تجتمع لغيره من العظماء الذين نعرف سِيَر حياتهم؟
وأردف: كان عليهم أن يناقشوا هذا، ويصلوا إلى سرِّ هذه النتيجة.
قلت: وهل تنبهتَ أنت لِما غفلوا عنه؟
قال: أجل.
قلت: هل لك أن تحدثني بما تنبهتَ له؟
قال: لا بد لي من أن أحدثك به، حتى أصل إلى الفائدة التي أتوقعها منك في كتابة بحثي، فأصغ إلي.
--------------------------------------------------------------------------------
[1] (دراسات في التاريخ الديني) لأرنست رينان – عن كتاب (دفاع عن محمد) د. عبد الرحمن بدوي
ص 5-6.
[2] بعدما درس هذا المستشرق الإسلام وعرف حقيقته، دخل فيه وتسمى (محمد أسد).
[3] ص 15 – ط. الأولى – يقول المستشرق الفرنسي (إميل درمنغم) في كتابه (حياة محمد) متحدثاً عن الدور السلبي لبعض المستشرقين في كتابة السيرة النبوية: «من المؤسف حقاً أن غالى بعض المتخصصين – من المستشرقين – من أمثال: موير ومرجليوث ونولدكه وشبرنجر ودوزي وكيتاني ومارسين وغريم وجولدزيهر وغودفروا وغيرهم، في النقد أحياناً، فلم تزل كتبهم عامل هدم على الخصوص، ولا تزال النتائج التي انتهى إليها المستشرقون سلبية ناقصة، ولن تقوم سيرة على النفي، وليس من مقاصد كتابي أن يقوم على سلسلة من المتجادلات المتناقضة.. ومن دواعي الأسف أن كان الأب لامنس الذي هو من أفضل المستشرقين المعاصرين، من أشدهم تعصباً! ولقد شوّه كتبه الرائعة الدقيقة وأفسدها بكرهه للإسلام ولنبي الإسلام» ص8-11.
[4] ص58.
[5] ص 27-28-43-44 - بعدما درس هذا المستشرق الإسلام وعرف حقيقته، دخل فيه وتسمَّى (ناصر الدين الجزائري).
[6] ص6 وقد أنهى المؤلف كتابه هذا عام /1952م/.
[7] كتاب (تراث الإسلام) ص63.
[8] يقول د. عبد الرحمن بدوي في مقدمة كتابه (دفاع عن محمد): «خلال تتبعي للمفاهيم التي تبناها الأوربيون حول نبي الإسلام محمد، انتابني الذهول من جهلهم المطبق! وعدوانيتهم الواضحة، وأحكامهم المسبقة المتأصلة، وتحزبهم الطاغي ضد خصومهم، وهذا لا ينطبق فحسب على الشعب الجاهل الساذج ولكنه ينطبق أيضاً على أكبر علمائهم وفلاسفتهم ورجال الدين والمفكرين والمؤرخين».
[9] انظر (السيرة النبوية الصحيحة) د. أكرم العمري ص 18.
[10] كان لبعض كتَّاب هذه الفئة دور مشكور في تعريف الغرب بالصورة الصحيحة للنبي صلى الله عليه وسلم ، يقول المستشرق (مونتغومري وات) في كتابه (محمد في مكة): «منذ أن قام كارليل بدراسته عن محمد في كتابه (الأبطال وعبادة البطل) أدرك الغرب أن هناك أسباباً وجيهة للاقتناع بصدق محمد» ص 94.
[11] يقول المستشرق البريطاني (بودلي) في كتابه (الرسول - حياة محمد) متحدثاً عن موضوعات القرآن الكريم: «إنها لتعطي فكرة عن نوع العقل الذي كان يتمتع به محمد! وإنها لتجعل المرء يعجب كيف عرف كل هذا؟! ومتى فكَّر في كل هذا؟! وأين تعلم نظم الشعر المرسل الرنان؟!» ص 218.
ويقول المستشرق الأمريكي مايكل هارت في كتابه (الخالدون المئة): «إن محمداً أعظم زعيم سياسي عرفه التاريخ» ص18.
ويقول كارليل في كتابه (الأبطال وعبادة البطل) في ختام دفاعه عن النبي صلى الله عليه وسلم : «هكذا تكون العظمة، هكذا تكون البطولة، هكذا تكون العبقرية».
ويقول المستشرق (إدوارد مونتيه) في كتابه (حاضر الإسلام ومستقبله): «إن طبيعة محمد الدينية تدهش كل باحث مدقق نزيه القصد، بما يتجلى فيها من شدة الإخلاص، فقد كان محمد مصلحاً دينياً ذا عقيدة راسخة».
ويقول المستشرق (إميل درمنغم) في كتابه (حياة محمد): «إن قوة عبقرية محمد الإنشائية واتساعها، وذكاءه العظيم، ونظره الصائب إلى الحقائق، وسيادته لنفسه، وقوة إرادته، وحكمته، واستعداده للعمل، وحياته الواقعية، كل ذلك يجعل الزيف في مبدأ رسالته يستحيل القبول. فكيف يُتصور أن ينقلب كاذباً فجأة، ذلك الذي كان نجاحه يظهر له! كبرهان ساطع على تأييد الإله لدعواه، وكيف يمكن أن يُجرَّأ على تشويه رسالته في الوقت الذي كان يرى فيه أنها مقدسة مؤيدة من الإله». ثم يقول: «إن الناس حال سماعهم خطب محمد المهمة، وكتاباته! الملتئمة مع عصره، قد أحسوا بجاذبية تصلهم بالسر الخفي الذي يقودهم إليه».
ويقول الشاعر الفرنسي الشهير (لامارتين) في كتابه (تاريخ الأتراك): «إذا كانت الضوابط التي نقيس بها عبقرية الإنسان هي سمو الغاية والنتائج المذهلة لذلك، رغم قلة الوسيلة، فمن ذا الذي يجرؤ أن يقارن أيّاً من عظماء التاريخ الحديث بالنبي محمد في عبقريته؟ فهؤلاء المشاهير قد صنعوا الأسلحة، وسنّوا القوانين، وأقاموا الإمبراطوريات، فلم يجنوا إلا أمجاداً بالية لم تلبث أن تحطمت بين ظهرانيهم. لكن هذا الرجل محمداً لم يَقُد الجيوش ويسن التشريعات ويُقم الإمبراطوريات ويحكم الشعوب ويروِّض الحكام فقط، وإنما قاد الملايين من الناس فيما كان يُعد ثلث العالم حينئذ. ليس هذا فقط، بل إنه قضى على الأنصاب والأزلام والأديان والأفكار والمعتقدات الباطلة» إلى أن يقول: «هذا هو محمد الفيلسوف، الخطيب، النبي، المشرع، المحارب، قاهرالأهواء،= =مؤسس المذاهب الفكرية التي تدعو إلى عبادة حقَّة بلا أنصاب ولا أزلام، هو المؤسس لعشرين إمبراطورية في الأرض وإمبراطورية روحانية واحدة. هذا هو محمد» الجزء/11/ص276-277 ط. باريس/1854.
ويقول المستشرق (بوزورث سميث) في كتابه (محمد والمحمدية): «لقد كان محمد قائداً سياسياً وزعيماً دينياً في آنٍ واحد. لكن لم تكن لديه عجرفة رجال الدين، كما لم تكن لديه فيالق مثل القياصرة، ولم يكن لديه جيوش مجيشة أو حرس خاص أو قصر مشيد أو عائد ثابت. إذا كان لأحد أن يقول إنه حكم بالقدرة الإلهية فإنه محمد، لأنه استطاع الإمساك بزمام السلطة دون أن يملك أدواتها، ودون أن يسانده أهلها» ص92 ط. لندن/1874.
ويقول المستشرق الكندي زويمر في كتابه (الشرق وعاداته): «إن محمداً كان ولا شك من أعظم القواد المسلمين الدينيين، ويصدق عليه القول أيضاً بأنه كان مصلحاً قديراً وبليغاً فصيحاً وجريئاً مغواراً، ومفكراً عظيماً، ولا يجوز أن ننسب إليه ما ينافي هذه الصفات، وهذا قرآنه الذي جاء به، وتاريخه يشهدان بصحة هذا الادعاء».
وهذه كلها أوصاف تريد أن تنأى بمحمد صلى الله عليه وسلم عن ظاهرة الوحي الإلهي، وتريد أن تُظهر أن ما جاء به ما هو إلا مكتسبات شخصية بشرية، أما إن وردت عند بعضهم كلمة (نبي) فعلى أنها صفة مثل بقية الصفات الشخصية. أو أنها لا تتعدى مفهوم كلمة (نبي) في كتاب (العهد القديم) التي تطلق على الكثيرين من أنبياء بني إسرائيل ممن كانت نبوءاتهم رؤىً يرونها في منامهم، وتنسب إليهم كتب وأسفار من تأليفهم هم، وبالتالي فمحمد صلى الله عليه وسلم عندهم هو مَن ألَّف قرآنه. وهذا هو عين ما يقوله المستشرق إدوارد مونتيه في كتابه (حاضر الإسلام ومستقبله) ممتدحاً النبي صلى الله عليه وسلم : «كان محمد في بلاد العرب أشبه بنبي من أنبياء بني إسرائيل الذين كانوا كباراً جداً في تاريخ قومهم، ولقد جهل كثير من الناس محمداً وبخسوه حقه، وذلك لأنه من المصلحين الذين عرف الناس أطوار حياتهم بدقائقها».
ويجب الحذر من هذه الأقوال التي لا تلتفت إلى ظاهرة الوحي الإلهي.. ولعل هذا ما كانت تعنيه المستشرقة (بيانكا سكارسيا) في كتابها (العالم الإسلامي وقضاياه التاريخية) بقولها: «عَمِل الاستشراق لصالح الاستعمار بدلاً من إجراء التقارب بين الثقافتين. إن إنشاء هذا العلم لم يكن إلا من أجل تقديم أدوات للاختراق أكثر براعة، فهناك فعلاً عملية ثقافية مستترة ماكرة ومرائية، وهذا ما يفسر ريبة المسلمين حيال كل ما يقال عنهم في الغرب» ص214.