6- هل يكون النبي نبياً قبل أن يبعث؟

تحت قسم: هل كان محمد صلى الله عليه وسلم رحيما؟ الفصل الأول

قال: إن النتيجة التي توصلتُ إليها فيما سلف من كلامي، تفيد أن دراسة شخصية محمد - من أي جانب كان - يجب أن تكون مبنية على أنه نبي رسول، وهو لم يُبعث نبياً رسولاً إلا بعد الأربعين من عمره، فكيف يسوغ لي أن أتحدث عنه قبل البعثة؟ ألا أكون متناقضاً مع نفسي في هذا؟

      قلت: أَأُجيبك بمذهب المسلمين في هذا، أم بمذهب غير المسلمين؟

      قال: بل أريد مذهب المسلمين، فأنا أعرف مذاهب غيرهم.

      قلت: مذهب المسلمين في هذا، أن النبي لا يكون نبياً منذ ساعة بعثته فقط، إنما هو يولد نبياً.

      قال: كيف هذا؟! وهل يكون الطفل الوليد نبياً؟

      قلت: إن آيات القرآن الكريم تبيًن أن الله سبحانه يصطفي ويختار من البشر أنبياء ورسلاً يحوطهم بعنايته ورعايته منذ ولادتهم... بل قبل أن يكونوا أجنة في أرحام أمهاتهم... ثم إذاما وُلدوا وكبروا... وأصبحوا في سن تؤهلهم لحمل رسالته، أرسلهم إلى من يشاء من عباده... وبمثل هذا تحدثت الآيات القرآنية عن موسى عليه السلام منذ ولادته فقالت: ﴿وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ..﴾[1] حيث قصت علينا هذه الآيات وما بعدها، حياة موسى عليه السلام، وعناية الله سبحانه به منذ ولادته حتى وفاته.

وبمثل هذا تحدثت الآيات القرآنية عن يحيى عليه السلام، منذ بشارة الملائكة أباه زكريا به قبل أن يُخلق في رحم أمه، فقالت: ﴿هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِن لَّدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاء{38} فَنَادَتْهُ الْمَلآئِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَـى مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِّنَ اللّهِ وَسَيِّداً وَحَصُوراً وَنَبِيّاً مِّنَ الصَّالِحِينَ﴾[2].

      وبمثل هذا تحدثت الآيات القرآنية عن المسيح عيسى ابن مريم عليه السلام فقالت على لسان أمه مريم عندما بشرها الملَك بالحمل به بلا أب: ﴿قَالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيّاً{20} قَالَ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِّنَّا وَكَانَ أَمْراً مَّقْضِيّاً{21} فَحَمَلَتْهُ فَانتَبَذَتْ بِهِ مَكَاناً قَصِيّاً{22} فَأَجَاءهَا الْمَخَاضُ إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ قَالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنتُ نَسْياً مَّنسِيّاً﴾[3]. وقد قصَّت الآيات السابقة واللاحقة بها، ملخص الحمل به، وولادته، وما رافق ذلك من معجزات...

*               *               *

      وأردفتُ: وهذا هو دأب الأنبياء والمرسلين... ومنهم محمد r. لقد كانت عناية الله تحوطه وترعاه منذ ولادته... وتؤدبه بأدب النبيين.

      قال: وهل في آيات القرآن ما يشهد لهذه الرعاية والعناية الإلهية به قبل البعثة؟.

      قلت: أجل، ولا بد أنك تعلم أنه كان في صغره يتيماً، وفي شبابه فقيراً، وكان قبل بعثته لا يعرف الدين الذي عليه أن يتبعه... فنـزلت الآيات القرآنية فيما بعد، تبين له أنه لم يكن متروكاً لشأنه في مختلف مراحل حياته، بل كانت رعاية الله له هي التي تحفظه في كل ما ينوبه، تقول هذه الآيات: ﴿ أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوَى{6} وَوَجَدَكَ ضَالّاً فَهَدَى{7} وَوَجَدَكَ عَائِلاً فَأَغْنَى﴾[4] أي أن الله سبحانه هو الذي آواه ويسَّر له من يكفله في صغره، وهو الذي هداه إلى الدين الصحيح الذي عليه أن يتبعه، وهو الذي أغناه في فقره بالتجارة بأموال زوجته الأولى خديجة. وهكذا كان محمد قبل البعثة مثل غيره من الأنبياء، يصنعهم الله سبحانه على عينه...

*               *               *

وهنا نظر جاري (الأب نقولا) إلى ساعته وقال:

      - أرجو أن تأذنا لي بأن أقترح أمراً.

      قلت: اقترح ماشئت.

      قال: أقترح أن نكتفي هذه الليلة بما دار من حديث.. على أن نتابع مساء غدٍ عند الساعة التاسعة إن شاء الله.

      قلت: ولِمَ؟

      قال: كي لا نطيل السهر، فليالي رمضان عند المسلمين ليالي عبادة.

      قلت: ومجلسنا هذا، بما دار فيه، هو مجلس عبادة إن شاء الله. بل إن مجلساً تذكر فيه آيات القرآن الكريم، والأحاديث النبوية الشريفة، هو روضة من رياض الجنة عندنا نحن المسلمين. أما إن رغبتما بمساء الغد فلا بأس.

وأبدى الأب ستيفانو موافقته على مساء الغد، ونهض الضيفان متهيئَين للخروج، فشيعتهما إلى باب المنزل.. وخرجا مودِّعَيْن..



[1] القصص/7- وما بعدها.

[2] آل عمران /38-39.

[3] مريم /20-23.

[4] الضحى /6-7-8.