دلائل نبوته الجزء الثالث
تحت قسم: النصر المؤزر للنبى الموقر
النوع الثالث من دلائل نبوته ﷺ أنه من أعقل الخلق باتفاق الموافق والمخالف ، ولذا كان الرجل المنصف الذي ليس له إرادة إلا اتباع الحق ؛ يبادر إلى الإيمان بالنبي ﷺ بمجرد ما يراه ويسمع كلامه ويعلم مضمون دعوته ، فيؤمن به ولا يرتاب في رسالته ، بل كان بعضهم يؤمن به بمجرد ما يراه ، ويقول: هذا ليس بوجه كذاب[1].
ولهذا لما سمع به هرقل ملك الروم ، وعلِم بما تضمنته رسالته ، وما يأمر به وما ينهى عنه ؛ أيقن أنه رسول ، وكاد أن يؤمن به ، ولكن خشِي على نفسه من فوات الرئاسة ، فآثر الدنيا على الآخرة ، فهلك عياذا بالله [2].
وعن ابن عباس رضي الله عنهما أن ضِمادًا قدم مكة ، وكان من أزدِ شنوءة ، وكان يرقي من هذه الريح [3] ، فسمع سفهاء من أهل مكة يقولون إن محمدا مجنون ، فقال: لو أني رأيت هذا الرجل ، لعل الله يشفيه على يدي.
قال: فلقيه فقال: يا محمد ، إني أرقي من هذه الريح ، وإن الله يشفي على يدي من شاء ، فهل لك؟
فقال رسول الله ﷺ :
إن الحمد لله ، نحمده ونستعينه ، من يهده الله فلا مضل له ، ومن يضلل فلا هادي له ، وأشهد أن لا إلـٰه إلا الله وحده لا شريك له ، وأن محمدا عبده ورسوله ، أما بعد.
قال: فقال: أعِد عليَّ كلماتك هؤلاء.
فأعادهن عليه رسول الله ﷺ ثلاث مرات.
فقال: لقد سمـعت قول الكهنة وقول السحرة وقول الشعراء ، فما سمعت مثل كلماتك هؤلاء ، ولقد بلغْنَ ناعوس البحر [4].
قال: فقال: هاتِ يدك أبايعك على الإسلام [5].
فائدة:
قال الشيخ عبد الرحمـٰن بن سعدي رحمه الله:
مجرد نظر المنصف إلى ما جبل الله رسوله صلى الله عليه وسلم عليه من الأخلاق، وإلى أحكام دينه وكماله، وإلى عظمة القرآن وما احتوى عليه من المعجزات؛ يضطره إلى تصديقه وإلى الخضوع لدينه وشرعه [6].
النوع الرابع من دلائل نبوته انقطاع استراق الجن للسمع قبيل بعثته ، فقد كان الكهان من العرب تأتيهم الأخبار من السماء عن طريق الشياطين التي تسترق السمع ، فلما تقارب أمر رسول الله ﷺ ودنا مبعثه حُجِبت الشياطين عن السمع ، وحيل بينها وبين المقاعد التي كانت تقعد لاستراق السمع ، وصار من يقعد لاستراق السمع يرمى بشهاب ثاقب من النجوم كما أخبر الله في سورة الجن ، فعرفت الجن أن ذلك لأمر هام من أمر العباد ،
)وأنا كنا نقعد منها مقاعد للسمع فمن يستمع الآن يجد له شهابا رصدا * وأنا لا ندري أشر أريد بمن في الأرض أم أراد بهم ربهم رشدا(
، وظنت قريش لما رأت الرمي بالنجوم أن ذلك علامة على قيام الساعة ، ثم لما بُعِث النبي ﷺ وأسلمت الجن ؛ عرفت سبب منعها من السمع وأنه لئلا يختلط الوحي بما يسترقونه ويلقونه إلى الكهان [7].
)وما تنزلت به الشياطين * وما ينبغي لهم وما يستطيعون * إنهم عن السمع لمعزولون(.
النوع الخامس من دلائل نبوته أنه كان لا يرى رؤيا في المنام إلا جاءت مطابقة للواقع مثل فلقِ الصبح [8] ، فقد رأى في المنام أنه يهاجر إلى أرض فيها نخل ، فوقع الأمر كما رأى ، وهاجر إلى المدينة [9].
ورأى أنه سـيدخل المسجد الحرام بعدما هاجر من مكة ؛ فوقع ذلك ، ودخل المسجد الحرام فاتحا ، قال تعالى )لقد صدق الله رسوله الرؤيا بالحق لتدخلن المسجد الحرام إن شاء الله آمنين(.
ورأى في ليلة عشرين من رمضان أنه ساجد في ليلة القدر في ماء وطين ، فلما كانت ليلة إحدى وعشرين من رمضان أصابهم مطر ، فابتل المسجد ، فصلى بهم رسول الله ﷺ تلك الليلة ، فلما انقضت الصلاة رأوا أثر الماء والطين على جبهة النبي ﷺ وأنفه ، تصديقا لرؤياه التي رأى أنه يسجد في ماء وطين [10].
ورؤاه الصادقة ﷺ كثيرة ، ومن أراد التوسع فعليه بكتاب التعبير من صحيح البخاري ، وكذا كتاب الرؤيا من صحيح مسلم ، باب رؤيا النبي ﷺ .
النوع السادس من دلائل نبوته أن الله خرق العادة له مرارا ، ومن ذلك تكثير الطعام ببركة دعائه ، وقد حصل هذا للنبي ﷺ مرارا ،
فعن أنس بن مالك قال: قال أبو طلحة لأم سُلَيم:
لقد سمعت صوت رسول الله ﷺ ضعيفا أعرف فيه الجوع ، فهل عندك من شيء؟
قالت: نعم ، فأخرجت أقراصا من شعير ، ثم أخرجت خمارا لها فلَفّت الخبز ببعضه ، ثم دسّـته تحت يدي ولاثتني [11] ببعضه ، ثم أرسلَتني [12] إلى رسول الله ﷺ ، قال: فذهبت به ، فوجدت رسول الله ﷺ في المسجد ومعه الناس ، فقمت عليهم ، فقال لي رسول الله ﷺ : آرسلك أبو طلحة؟
فقلت: نعم.
قال: بطعام؟
فقلت: نعم.
فقال رسول الله ﷺ لمن معه: قوموا.
فانطلق وانطلقت بين أيديهم ، حتى جئت أبا طلحة فأخبرته ، فقال أبو طلحة: يا أم سليم ، قد جاء رسول الله ﷺ بالناس ، وليس عندنا ما نطعمهم.
فقالت: الله ورسوله أعلم.
فانطلق أبو طلحة حتى لقي رسول الله ﷺ ، فأقبل رسول الله ﷺ وأبو طلحة معه ، فقال رسول الله ﷺ : هلمي يا أم سليم ما عندك.
فأتت بذلك الخبز ، فأمر به رسول الله ﷺ ، فَـفُتَّ ، وعصرت أم سليم عُـكَّةً فأدَمَـــتْهُ [13]، ثم قال رسول الله فيه ما شاء الله أن يقول [14] ، ثم قال: ائذن لعشرة ، فأذن لهم فأكلوا حتى شبعوا ثم خرجوا ، ثم قال: ائذن لعشرة ، فأذِن لهم فأكلوا حتى شبعوا ثم خرجوا ، ثم قال: ائذن لعشرة ، فأذن
لهم فأكلوا حتى شبعوا ثم خرجوا ، ثم قال: ائذن لعشرة ، فأكل القوم كلهم وشبعوا ، والقوم سبعون أو ثمانون رجلا [15].
وعن سمرة بن جـندب رضي الله عنه أن رسول الله ﷺ أتى بقصعة[16] فيها ثريد ، فتعاقبوها إلى الظهر من غدوة ، يقوم ناس ويقعد آخرون.
قال له رجل: هل كانت تُـمدُّ [17]؟
قال: فمن أي شيء تَعجَبُ؟ ما كانت تُـمدُّ إلا من هـٰهنا ، وأشار إلى السماء [18].
وقصص تكثير الطعام بين يدي رسول الله ﷺ كثيرة ، ليس المقام مقام استقصائها ، وقد جمعها الشيخ مقبل الوادعي رحمه الله في كتابه «الصحيح المسند من دلائل النبوة» في نحو من عشر قصص [19].
ومن خوارق العادات التي حصلت له ﷺ تكثير الماء القليل ببركة يده ،
فعن سالم بن أبي الجعد عن جابر رضي الله عنه ، أن الماء قل ذات يوم عند المسلمين فقال النبـي ﷺ :
اطلبوا فضلة [20] من ماء ، فجاءوا بإناء فيه ماء قليل ، فأدخل يده في الإناء ثم قال: حي على الطهور المبارك ، والبركة من الله.
فلقد رأيت الماء ينبع من بـين أصابع رسول الله ﷺ .[21]
وفي لفظ: فتوضأ الناس وشربوا ، فجعلت لا آلو ما جعلت في بطني منه ، فعـلمت أنه بركة.
قلت لجابر: كم كنتم يومئذ؟
قال: ألفا وأربع مائة [22].
وانظر حديث المسور بن مخرمة ومروان الذي رواه البخاري في كتاب الشروط[23] ، وحديث أنس الذي رواه البيهقي في «الدلائل»[24].
وقصص تكثير الماء بين يدي رسول الله ﷺ كثيرة ، ليس المقام مقام استقصائها ، وهي مذكورة في «صحيح البخاري» ، كتاب الـمناقب ، باب علامات النبوة في الإسلام ، وكذا في «صحيح مسلم» ، في كتاب الفضائل ، باب في معجزات النبي ﷺ ، وغيرها من كتب الحديث والدلائل.
ومن خوارق العادات التي جرت له ﷺ ما جعل الله من البركة والشفاء في ريقه وعرقه وما انفصل من جسده كشعره ، وهذا خاص بالنبي ﷺ دون غيره ،
فعن يزيد بن أبي عبيد قال:
رأيت أثر ضربة في ساق سلمة ، فقلت: يا أبا مسلم ، ما هذه الضربة؟
فقال: هذه ضربة أصابتني يوم خيبر.
فقال الناس: أُصيب سلمة.
فأتيت النبي ﷺ فنفث فيه ثلاث نفثات ، فما اشتكيتها حتى الساعة [25].
ومما جاء في بركة يده الشريفة
ما رواه قتادة بن النعمان أنه أصيبت عينه يوم بدر ، فسالت حدقتُهُ [26]على وجنته [27]، فأرادوا أن يقطعوها ، فسأل النبي ﷺ فقال: لا ، فدعا به ، فغَمز حدقته براحتِه ، فكان لا يُدرَى أيُّ عينيه أُصيبت[28].
وفي يوم خيبر اشتكى علي بن أبي طالب رضي الله عنه من عينه ، فبصق فيها ودعا له فعادت سليمة[29].
وقصـص استشـفاء الصحابة ببركة آثار رسول الله ﷺ كثيرة ، ليس المقام مقام استقصائها ، وهي مبثوثة في كتب السنة [30].
ومن خوارق العادات التي حصلت له ﷺ حادثة انشقاق القمر لما سأله أهل مكة أن يُريهم آية دالة على نبوته ، فانشق القمر فرقتين حتى رأوا جبل حراء بينهما ، فقال النبي ﷺ : اشهَدوا[31].
قال القاضي عياض [32]رحمه الله: آية انشقاق القمر من أمهات آيات نبينا ﷺ ومعجزاته [33].
ومن خوارق العادات التي حصلت له ﷺ أنه أخذ قبضة من تراب في غزوة حنين فرمى بها وجوه الكفار وقال: (شاهت الوجوه) ، أي قـــــبُحت ، فما بقي منهم إنسانا إلا ملأ عينيه ترابا بتلك القبضة ، فولَّوا مُدبرين ، فهزمهم الله عز وجل ، وقسم رسول الله ﷺ غنائمهم بين المسلمين [34].
ومن خوارق العادات التي حصلت له ﷺ ؛ رفْعُ بيت المقدس له وهو في مكة حتى رآه ووصفه للناس وهو ينظر إليه ، فعن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما ، أنه سمع رسول الله ﷺ يقول: لما كذَّبتني قريش قُـــمتُ في الحِـجر[35] ، فجلاَّ[36] الله لي بيت المقدس ، فطفِقت أُخبرهم عن آياته وأنا أنظر إليه [37].
ومن خوارق العادات التي حصلت له ﷺ أنه يرى من خلفه وهو يصلي بالناس إماما ،
فعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال:
أُقيمت الصلاة ، فأقبل علينا رسول الله ﷺ بوجهه فقال: أقيموا صفوفكم وتراصوا ، فإني أراكم من وراء ظهري [38].
النوع السابع من دلائل نبوته ﷺ إخباره ببعض الأمور الغائبة عن عيون الناس في حينها ، فوقعت كما أخبر ، فمن ذلك أنه نعى [39] النجاشي في اليوم الذي مات فيه وهو بالحبشة ، والنبي ﷺ بالمدينة ، وصلى عليه صلاة الغائب[40].
وفي صحيح البخاري عن أنس رضي الله عنه أن النبي ﷺ بعث جيشا لغزوة مؤته ، فاستعمل عليهم زيد بن حارثة ، وأوصاهم إن أصيب زيد فأميرهم جعفر ، وإن أصيب جعفر فأميرهم عبد الله بن رواحة ، وبينما الصحابة في المدينة مع رسول الله ﷺ إذ نعى زيدا ثم جعفرا ثم ابن رواحة وهو قاعد في المدينة ، فعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال النبي ﷺ :
أخذ الراية زيد فأصيب ، ثم أخذها جعفر فأصيب ، ثم أخذها عبد الله بن رواحة فأصيب ، وإن عيني رسول الله ﷺ لتذرفان ، ثم أخذها خالد بن الوليد من غير إمرةٍ ففُـتح له [41].
ولما نزل النبي ﷺ بدرا قبل المعركة حدَّد مواضع قتل بعض رؤوس المشركين ، فعن أنس بن مالك عن عمر بن الخطاب ، أن رسول الله ﷺ قال: إن رسول الله ﷺ كان يرينا مصارع أهل بدر بالأمس ، يقول: هذا مصرع فلان غدا إن شاء الله.
فقال عمر: فوالذي بعثه بالحق ؛ ما أخطئوا الحدود التي حدَّ رسول الله ﷺ [42].
ومنها قصة حاطب بن أبي بلتعة رضي الله عنه ، وفيها أن رسول الله ﷺ أرسل عليا والمقداد والزبير رضـــــــــي الله عنهم في إثر امرأة تحمل رسالة إلى المشركين ، فقال لهم: انطلقوا حتى تأتوا روضة «خاخ» ، فإن بها امرأة من المشركين معها كتاب إلى المشركين.
وحصل الأمر ، وأدركوها في تلك الروضة ، ومعها كتاب إلى المشركين فيه إفشاءٌ لِـــسِـــرِّ المسلمين [43].
والأمثلة على هذا النوع من الدلائل عديدة ، وقد جمع شيئا كثيرا منها الشيخ مقبل بن هادي الوادعي رحمه الله في كتابه «الصحيح المسند من دلائل النبوة».
المراجع
- انظر «دلائل النبوة» لابن كثير ، (6/264) ، من كتابه «البداية والنهاية».
- والقصة في صحيح البخاري (3007) ومسلم (2494) عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه.