}إنا فتحنا لك فتحاً مبيناً * ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر ويتم نعمته عليك ويهديك صراطاً مستقيما * وينصرك الله نصراً عزيزاً{.
63.[1] ومن دلائل عظم قدره ﷺ أنه أول من تنشق عنه الأرض يوم القيامة ، وأول من يُفيق.
64. ومن دلائل عظم قدره ﷺ أنه صاحب الشفاعة العظمى لبدء الحساب يوم القيامة ، وهو أمر خصَّه الله تعالى به وشرفه به ، إذ جعله الله شفيع الخلائق لبدء حسابهم كلهم ، مؤمنهم وكافرهم ، حيث أن الناس يطول بهم الموقف يوم القيامة ، فيذهبون إلى الأنبياء ليشفعوا لهم عند الله لبدء الحساب ، ليرى كلٌّ سبيله ، إما إلى الجنة أو إلى النار ، فيعتذر عنها آدم عليه السلام ، ثم يذهبون
إلى أولي العزم من الأنبياء ، نوح وإبراهيم وموسى وعيسى عليهم السلام ، فيعتذروا عنها ، ثم يذهبون إلى خاتـمهم محمد ﷺ فيقول: (أنا لها) ، فيسجد تحت العرش ما شاء الله أن يسجد ، ويفتح الله عليه من المحامد وحسن الثناء على الله ما لم يفتحه على أحد قبله ، ثم يقال له: (يا محمد ، ارفع رأسك ، وقل يسمع لك ، وسل تعط ، واشفع تشفع) ، فيشفع لأهل الموقف عند الله في بدء الحساب ، فيقبل الله شفاعته ، فيبدأ الحساب وفصل القضاء.
وهذه الشفاعة هي المقام المحمود الوارد ذكره في
قوله تعالى
)عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا(
[2]
، وهو المقام الذي يحمده فيه الأولون والآخِرون يوم القيامة ، ويغبِطونه به ، إذ تكون له المنة على جميع الخلق ، وقد حث النبي ﷺ أمته على الدعاء له بأن يبعثه الله هذا المقام المحمود ،
فعن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما ، أن رسول الله ﷺ قال:
من قال حين يسمع النداء: (اللهم رب هذه الدعوة التامة والصلاة القائمة ، آتِ محمدا الوسيلة والفضيلة ، وابعثه مقاما محمودا الذي وعدته) ؛ حلت له شفاعتي يوم القيامة
[3].
ولعظم شأن هذه الشفاعة ؛ سماها أهل العلم بالشفاعة العظمى[4].
ومما يدل أيضا على اختصاصه ﷺ بهذه الشفاعة
حديث جابر رضي الله عنه أن النبي ﷺ قال:
أعطيت خمسا لم يعطهن أحد قبلي ؛ نُصِرت بالرعب مسيرة شهر ، وجُــــعِــــلت لي الأرض مسجدا وطهورا ، فأيُّــــما رجل أدركته الصلاة فليُصل ، وأُحِــــلت لي الغنائم ولم تُــحَـــل لأحد قبلي ، وأُعطيت الشفاعة ، وكان النبي يُـــــبعث إلى قومه خاصة وبعثت إلى الناس عامة.
[5]
قال شيخ الاسلام ابن تيمية رحمه الله: وقد اتفق المسلمون على أنه ﷺ أعظم الخلق جاهاً عند الله ، ولا جاه لمخلوق عند الله أعظم من جاهه ، ولا شفاعة أعظم من شفاعته[6].
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله ﷺ :
أنا سيد ولد آدم يوم القيامة ، وأول من ينشق عنه القبر ، وأول شافع ، وأول مُـشَفّع
[7].[8]
65. ومن دلائل عظم قدره ﷺ أن له يوم القيامة ثلاث شفاعات خاصة غير العظمى ، وهما كالتالي ؛ الأولى: شفاعته لعصاة المؤمنين من أهل الكبائر ممن استحقوا دخول النار ألاّ يدخلوها ،
وهي التي عناها النبي ﷺ في قوله:
لكل نبي دعوة مستجابة يدعو بها ، وأريد أن أختبئ دعوتي شفاعة لأمتي في الآخرة.
[9]
وفي رواية لمسلم:
لكل نبي دعوة مستجابة ، فتعَجَّل كلُّ نبي دعوته ، وإني اختبأت دعوتي شفاعة لأمتي يوم القيامة ، فهي نائلة ، إن شاء الله ، من مات من أمتي لم يشرك بالله شيئا
[10].
وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال:
قال رسول الله ﷺ : شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي.
[11]
الثانية شفاعته ﷺ للمؤمنين في دخول الجنة [12]،
فإن المؤمنين إذا أتوا الجنة وجدوا أبوابها مغلقة ، فعندئذ يطرق النبي ﷺ باب الجنة ، فيقول خازن الجنة: من أنت؟ فيقول: محمد. فيقول: بك أمرت ألا أفتح لأحد قبلك
[13].
وعن أنس رضي الله عنه قال:
قال رسول الله ﷺ : أنا أول الناس يشفع في الجنة ، وأنا أكثر الأنبياء تبعا
[14].
وعنه أن النبي ﷺ قال:
... ، فآخذ بحلْقة باب الجنة فأُقَـعْــقِعُها[15] ، فيقال: من هذا؟ فيقال: محمد ، فيفتحون لي ويرحبون ، فيقولون: مرحبا.
[16]
وفي هذا إظهار لشرفه وفضله ، لما كان صاحب الشـفاعة العظمى ليريح الناس من كربات المحشر ، والشفاعة الثانية لنيل الفرح والسرور بدخول الجنة.
وثالثها شفاعته ﷺ في تخفيف العذاب عن عمه أبي طالب ،
فعن العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه أنه قال للنبي ﷺ :
ما أغنيت عن عمك؟ فوالله كان يَحوطُك [17]ويغضب لك. قال: هو في ضحضاحٍ [18]من نار ، ولولا أنا لكان في الدرك الأسفل من النار.
[19]
بل قد جاء النص صريحا في أن أبا طالب هو أهون أهل النار عذابا ، فعن ابن عباس رضي الله عنهما ، أن رسول الله ﷺ قال: أهون أهل النار عذابا أبو طالب ، وهو منتعل بنعلين يغلي منهما دماغه[20].
وهذا النفع في تخفيف العذاب عنه حتى صار من أهون الناس عذابا في النار يعتبر دليلا على عِظم قدر الشفيع وهو النبي ﷺ ، فلولا شفاعته لكان حاله كحال غيره من الكفار ، فليس أحد من الكفار في منزلة أهون من النار إلا أبا طالب بنص الحديث.
فالحاصل أن هذه الشفاعات الأربع (العظمى والثلاث المتقدمة) هي الشفاعات التي ستحصل للنبي ﷺ يوم القيامة ، كلها خاصة به ﷺ ، وهناك شفاعة خامسة ، ولكنها مشتركة بينه وبين المؤمنين والملائكة ، وهي الشفاعة للمؤمنين الذي استحقوا دخول النار في الخروج منها[21].
66. ومن دلائل عظم قدره ﷺ أن الله جعل لواء الحمد بيده ﷺ يوم القيامة ، الذي ينضوي تحته جميع الأنبياء ،
فعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله ﷺ :
أنا سيد ولد آدم يوم القيامة ولا فخر ، وبيدي لواء الحمد ولا فخر ، وما من نبي يومئذ - آدم فمن سواه - إلا تحت لوائي ، وأنا أول من تنشق عنه الأرض ولا فخر.
[22]
فهذه الخصيصة وما قبله من الخصائص تدل على علو مرتبته ﷺ وعلو منـزلته في الآخرة.
67. ومن دلائل عِظَم قدر النبي ﷺ أن له حوضا خاصا به يوم القيامة في أرض المحشر ، وهو غير نهر الكوثر الذي بالجنة ، وهو في هذا مشترك مع إخوانه الأنبياء ، فإن لكل نبي حوضا
كما قال ﷺ :
إن لكل نبي حوضا ، وإنهم يتباهون أيُّهم أكثر واردةً[23] ، وإني أرجو أن أكون أكثرهم واردة.
[24]
وحوض النبي ﷺ يَصُبُّ فيه مِيزابان[25] من نَـهَر الكوثر الذي بالــجنة ، وطول الحوض مسيرة شهر ، فيه من الأباريق كعدد نجوم السماء ، ماؤه أشد بياضا من اللبن ، ورائحته أطيب من المسك ، ومذاقه أحلى من العسل ، من يشرب منه شربة فإنه لا يظمأ بعدها أبدا ، يصب فيه ميزابان من الجنة ، أحدهما من ذهب ، والآخر من فضة ، عرضه مثل طوله ، كما بين صنعاء والمدينة[26].
قلت: وما أشد حاجة الناس للشرب منه في ذلك اليوم الشديد الحر ، الذي يقف فيه الناس طويلا ، فمن أراد أن يشرب من حوض النبي ﷺ يوم القيامة فليُكثر الشرب من شريعته في الدنيا.
68. ومن دلائل عظم قدره ﷺ أنه أكثر الأنبياء تبعاً ،
فعن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله ﷺ :
أنا أول الناس يشفع في الجنة ، وأنا أكثر الأنبياء تبعاً. وفي رواية: أنا أول شفيع في الجنة ، لم يُصدَّق نبي من الأنبياء ما صُدِّقت ، وإنَّ من الأنبياء نبيا ما يُصدِّقه من أمته إلا رجل واحد.
[27][28]
قال النووي رحمه الله في شرح حديث (فأرجو أن أكون أكثرهم تابعا يوم القيامة[29]):
وَقَوْله ﷺ : (فَأَرْجُو أَنْ أَكُون أَكْثَـــرُهمْ تَابِعًا) عَلَم مِنْ أَعْلام النُّبُوَّة ، فَإِنَّهُ أَخْبَرَ عَلَيْهِ السَّلام بِهَذَا فِي زَمَن قِلَّة الْمُسْلِمِينَ ، ثُمَّ مَنَّ اللَّه تَعَالَى وَفَتَحَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ الْبِلاد وَبَارَكَ فِيهِمْ ، حَتَّى انتهى الأمْر وَاتَّسَعَ الْإِسْلام فِي الْمُسْلِمِينَ إِلَى هَذِهِ الْغَايَة الْمَعْرُوفَة ، وَلِلَّهِ الْحَمْد عَلَى هَذِهِ النِّعْمَة وَسَائِر نِعَمه الَّتِي لا تُحْصَى ، وَاَللَّه أَعْلَم. انتهى[30].
قال مقيده عفا الله عنه: وهذا أمر مشاهد ، فإن أتباع النبي ﷺ في ازدياد ، فلا يمر يوم إلا ودخل داخل في دين الإسلام ، والحمد لله على نعمة الهداية.
69. ومن دلائل عظم قدره ﷺ أنه أعظم الناس أجرا يوم القيامة ، لأن أتباعه في ازدياد ، ولأن له أجر عملهم إلى يوم القيامة ،
وفي الحديث:
من سَنَّ في الإسلام سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها من بعده من غير أن يُـــنقِص من أجورهم شيء.
[31]
70. ومن دلائل عظم قدره ﷺ أن الله تعالى غفـر له ما تقــدم من ذنبه وما تأخر في حال حياته ،
قال الله تعالى
}إنا فتحنا لك فتحاً مبيناً * ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر ويتم نعمته عليك ويهديك صراطاً مستقيما * وينصرك الله نصراً عزيزاً{.
قال العز بن عبد السلام رحمه الله: ومنها[32] أن الله تعالى أخبره بأنه غَفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، ولم يُنقل أنه أخبر أحداً من الأنبياء بمثل ذلك ، بل الظاهر أنه لم يُخبرهم ، لأن كل واحد منهم إذا طُلبت منهم الشفاعة في الموقف ذكر خطيئته التي أصابها وقال: (نفسي نفسي) ، ولو عَلم كل واحد منهم بغفران خطيئته لم يَوْجل منها في ذلك المقام ، وإذا استشفعت الخلائق بالنبي ﷺ في ذلك المقام قال: أنا لها[33].
وقال الحافظ ابن كثير رحمه الله في تفسير الآية: هذا من خصائصه صلوات الله وسلامه عليه التي لا يشاركه فيها غيره.
71. ومن دلائل عِظم قدره ﷺ أن الله يبعثه يوم القيامة وأمته على تل ، ويكسوه الله حُـــــلَّـــــةً خضراء ،
فعن كعب بن مالك رضي الله عنه أن رسول الله ﷺ قال:
يبعث الناس يوم القيامة ، فأكون أنا وأمتي على تلٍّ ، ويكسوني ربي تبارك وتعالى حلة خضراء ، ثم يؤذن لي فأقول ما شاء الله أن أقول ، فذاك المقام المحمود.
[34]
72. ومن دلائل عظم قدره ﷺ أنه أول من يـجوز[35] على الصراط ، وهذه الأمور مما خُـصّ بها النبي ﷺ عن باقي الأنبياء السابقين ،
ففي حديث أبي هريرة رضي الله عنه الطويل:
فيُضرب الصراط بين ظهراني جهنم ، فأكون أول من يجوز من الرسل بأمته.
[36]