الحق الثاني: طاعته فيما أمر ، وفيه أحد عشر مبحثا

تحت قسم: النصر المؤزر للنبى الموقر

  1. الحق الثاني: طاعته فيما أمر ، وفيه أحد عشر مبحثا

، وقوله تعالى

}يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم{.

قال ابن القيم رحمه الله في هذه الآية:

أمر تعالى بطاعته وطاعة رسوله ، وأعاد الفعل إعلاماً بأن طاعة الرسول تجب استقلالاً من غير عرضِ ما أَمر به على الكتاب ، بل إذا أَمر وجبت طاعته مطلقاً ، سواء كان ما أمر به في الكتاب أو لم يكن فيه ، فإنه أوتي الكتاب ومثله ومعه.

ولم يأمر[6] بطاعة أولي الأمر استقلالا ، بل حذف الفعل وجعل طاعتهم في ضمن طاعة الرسول ، إيذاناً بأنهم إنما يُطاعُون تبعاً لطاعة الرسول ، فمن أمر منهم بطاعة الرسول وجبت طاعته ، ومن أمر منهم بخلاف ما جاء به الرسول فلا سمع له ولا طاعة ،

كما صح عنه  أنه قال:

لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق.وقال: إنما الطاعة في المعروف.[8] انتهى

[7] .[9]

3 .وأمر عند التنازع بالرد إلى الله والرسول ، أي الكتاب والسنة ،

فقال

﴿يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلاً﴾

[10].

4 .وتواترت النصوص النبوية في الحث على اتباعه وطاعته ، والاهتداء بهديه والاستنان بسنته ، وتعظيم أمره ونهيه ،

ومن ذلك حديث أبي هريرة رضي الله عنه ، أن رسول الله ﷺ قال:

كل أمتي يدخلون الجنة إلا من أبى. قال ابن القيم رحمه الله: إن الناس أجمعوا أن الرد إلى الله سبحانه هو الرد إلى كتابه ، والرد إلى الرسول ﷺ هو الرد إليه نفسه في حياته ، وإلى سنته بعد وفاته.[11] قالوا: يا رسول الله ، ومن يأبى؟ قال: من أطاعني دخل الجنة ، ومن عصاني فقد أبى.[12] وعنه أن رسول الله ﷺ قال: من أطاعني فقد أطاع الله ، ومن عصاني فقد عصى الله.[13]  المراجع

وقال: إذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه ، وإذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم[14].

وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله ﷺ : والذي نفسي بيده ، لتدخلن الجنة كلكم إلا من أبى وشرَد على الله كشِراد[15] البعير. قال: يا رسول الله ، ومن يأبى أن يدخل الجنة؟ قال: من أطاعني دخل الجنة ، ومن عصاني فقد أبى[16].

قال ابن حبان بعده: طاعة رسول الله ﷺ هي الانقياد لسنته ، مع رفض قولِ كل من قال شيئاً في دين الله جل وعلا بخلاف سنته ، دون الاحتيال في دفع السنن بالتأويلات المضمحلة والمخترعات الداحضة.[17]

وقال ﷺ :

فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين ، تمسكوا بها ، وعضوا عليها بالنواجذ ... الحديث.

[18]

ففي هذا الحديث نرى أن النبي ﷺ أمر بالجِـد في لزوم السنة ، فِـعلَ من أمسك الشيء بين أضراسه ، التي هي في مؤخر الفم ، وعض عليه منعاً من أن يُــنتزع ، وذلك أشد ما يكون من التمسك بالشيء ، إذ كان ما يُـمسكه بأسنانه التي بمقاديم فمه أقرب تناولاً وأسهل انتزاعا.

وقد علَّم النبي ﷺ أصحابه أن يجيبوه إذا ناداهم ولو كان أحدهم في صلاة ، مما يدل على عِظـم أمـر إجـابة أمـر النبي ﷺ ،

فعن أبي سعيد بن المعــلى قال:

كنــت أصلي في المسجد ، فدعاني رسول الله ﷺ فلم أجبه ، فقلت: يا رسول الله ، إني كنت أصلي. فقال ألم يقل الله )استجيبوا لله والرسول إذا دعاكم(.

[19]

5. وقد أخبر الله تعالى أن جميع الرسل أمروا أقوامهم بطاعتهم

﴿وما أرسلنا من رسول إلا ليطاع بإذن الله﴾

[20]

  ، ومن هذا قول نوح لقومه أن اعبدوا الله واتقوه وأطيعون [21]، وهكذا قال غيره من الرسل. 

6. وطاعة الرسول سيسأل عنها الإنسان يوم القيامة

﴿ويوم يناديهم فيقول ماذا أجبتم المرسلين﴾.

[22]

فإن كان مطيعا للرسول فهذا ثوابه:

﴿ومن يطع الله والرسول فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا * ذلك الفضل من الله وكفى بالله عليما﴾ ،

[23] 

وقال تعالى

﴿ومن يطع الله ورسوله يدخله جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها وذلك الفوز العظيم﴾

[24] .

وعن أبي موسى رضي الله عنه عن النبي ﷺ قال:

إنما مثلي ومثل ما بعثني الله به كمثل رجل أتى قوماً فقال: (يا قوم ، إني رأيت الجيش بعينيَّ ، وإني أنا النذير العُريان [25] ، فالنجاء[26] ) ، فأطاعه طائفة من قومه ، فأدلجوا[27]  فانطلقوا على مهلهم فنَجَوا ، وكذَبت طائفة منهم فأصبحوا مكانهم فصبّحهم الجيش فأهلكهم واجتاحهم ، فذلك مَـثل من أطاعني فاتبع ما جئت به ، ومَـثل من عصاني وكذَّب بما جئت به من الحق[28]. 

وإن كان عاصيا لرسوله ندم وعض على يديه ،

﴿ويوم يعض الظالم على يديه يقول يا ليتني اتخذت مع الرسول سبيلا * يا ويلتـىٰ ليتني لم أتخذ فلانا خليلا * لقد أضلني عن الذكر بعد إذ جاءني وكان الشيطان للإنسان خذولا﴾.

[29]

قال ابن كثير رحـمه الله: هذه الآية أصل كبير في التأسي برسول الله ﷺ في أقواله وأفعاله وأحواله ، ولهذا أمر تبارك وتعالى الناس بالتأسي بالنبي ﷺ يوم الأحزاب في صبره ومصابرته ومرابطته ومجاهدته وانتظار الفرج من ربه عز وجل.[32]

ومن هذا قوله ﷺ :

صلوا كما رأيتموني أصلي.

[33]

وقوله ﷺ :

لتأخذوا عني مناسككم

.[34]

وقال الحســن البصري رحمه الله: ليس الإيمان بالتــــمني والتحــلي ، ولكنه ما وقر في القلوب ، وصدقته الأعمال.[35]

وعن عطاء بن يسار أن معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه باع سِقاية[59] من ذهب أو ورِق بأكثر من وزنــــها

، فقال أبو الدرداء رضي الله عنه: سمعت رسول الله ﷺ  ينهى عن مثل هذا ، إلا مثلاً بمثل. فقال له معاوية: ما أرى بمثل هذا بأساً. فقال أبو الدرداء: من يعذرني من معاوية ، أنا أخبره عن رسول الله ﷺ  ، ويخبرني عن رأيه ، لا أساكنك بأرض أنت بها. ثم قدم أبو الدرداء على عمر بن الخطاب رضي الله عنه فذكر ذلك له ، فكتب عمر بن الخطاب إلى معاوية أن لا تبيع ذلك إلا مثلا بمثل ، وزنا وزن.



المراجع

  1. سورة النساء: 80 .
  2. قال شيخ الإسلام رحمه الله: وقد أمر الله بطاعته في أكثر من ثلاثين موضعا من القرآن ، وقرن طاعته بطاعته ، وقرن بين مخالفته ومخالفته ، كما قرن بين اسمه واسمه ، فلا يذكر الله إلا ذكر معه. «مجموع الفتاوى» (19/103).
    وهكذا قال الآجري في «الشريعة» ، ص 49 .
  3. سورة الحشر: 7 ، وهذه الآية تفـيد أن الله تعالى أوجب في القرآن أخذ كل ما أتى به الرسول r جملة وتفصيلاً.
  4. سورة آل عمران: 32 .
  5. سورة الأنفال: 20 .
  6. أي الله تعالى.
  7. رواه الطبراني في «الكبير» (18/170) عن عمران بن حصين رضي الله عنه.
  8. رواه البخاري (7257) ، ومسلم (1840) عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه.
    ومن الأدلة أيضا حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما عن النبي ﷺ قال: على المرء المسلم السمع والطاعة فيما أحب وكرِه إلا أن يؤمر بمعصية ، فإن أمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة. رواه البخاري (7144) ، ومسلم (1839) ، واللفظ لمسلم.
  9. «إعلام الموقعين» ، فصل في تحريم الإفتاء في دين الله بالرأي المتضمن لمخالفة النصوص.
  10. سورة النساء: 59 .
  11. «إعلام الموقعين» ، فصل في تحريم الإفتاء في دين الله بالرأي المتضمن لمخالفة النصوص.
  12. رواه البخاري (7280).
  13. رواه البخاري (7137) ، ومسلم (1835) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
  14. رواه البخاري (7288) ، ومسلم (1337) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
  15. أي كما يشرد البعير إذا نفر وذهب عن صاحبه ، والمقصود بالشرود هنا الخروج عن طاعة الله.
  16. رواه ابن حبان (1/196 – 197) ، ورجاله رجال مسلم ، والحديث له شواهد تقويه كحديث أبي هريرة المتقدم ، وحديث أبي هريرة الذي رواه أحمد (2/361) وغيره ، وسنده على شرط الشيخين كما قال الحافظ في «الفتح» ، شرح حديث (7280).
     باختصار من حاشية الشيخ شعيب على الحديث أعلاه.
  17. المرجع السابق.
  18. رواه ابن حبان (1/179) واللفظ له ، وأبو داود (4607) ، وابن ماجه (42) ، والترمذي (2676) ، وأحمد (4/126) ، وغيرهم كثير ، والحديث صححه الألباني رحمه الله.
  19. رواه البخاري (4474).
  20.  سورة النساء: 64 . 
  21. سورة نوح: الآية 3 .
  22. سورة القصص: 65 .
  23. سورة النساء: 69 – 70 .
  24. سورة النساء: 13 .
  25. قال ابن كثير رحمه الله: أي الذي أعجله شدة ما عاين من الشر عن أن يلـبِس عليه شيئا ، بل بادر إلى إنذار قومه قبل ذلك فجاءهم عُريانا مسرعا. «تفسير القرآن العظيم» ، سورة النجم ، آية 57 . 
  26. أي: النجاة ، يحثهم عليها.
  27. الدلجة هي السير بالليل.
  28. رواه البخاري (6482) ومسلم (2283).
  29. سورة الفرقان 27 – 29 .
  30. سورة النساء: 14 .
  31. سورة الأحزاب: 21 .
  32. «تفسير القرآن العظيم» ، تفسير الآية السابقة.
  33. رواه البخاري (631) عن مالك بن الحويرث رضي الله عنه.
  34. رواه مسلم (1297) بلفظ: (لتأخذوا مناسككم) ، ورواه البيهقي في «الكبرى» (5/125) بلفظ: خذوا عني مناسككم.
  35. رواه الخطيب البغدادي في «اقتضاء العلم العمل» ، ص 42 – 43 .
  36. سورة آل عمران: 31 ، وقال ابن القيم إن هذه الآية تسمى آية المحبة. «مدارج السالكين» ، منزلة المحبة ، (3/455).
  37. «مجموع الفتاوى» (10/81)..
  38. رواه مسلم (1718) ، ونظيره الحديث الآخر: من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد. رواه البخاري (2697) ومسلم (1718) عن عائشة رضي الله عنها ، والمقصود بقوله (أمرنا هذا) يعني الدين.
  39. أخرجه ابن جرير في تفسير الآية ، وابن بطة في «الإبانة الكبرى» (1073).
  40. «تفسير القرآن العظيم» ، سورة آل عمران ، آية 31 .
  41. «مدارج السالكين» ، منزلة المحبة ، (3/455).
  42. «مدارج السالكين» ، منزلة المحبة ، (3/484 - 485).
  43. الآية الأخيرة من سورة الكهف.
  44. «حقوق النبي ﷺ » ، ص 179 .
  45. سورة الأنفال: 24 .
  46. «الفوائد» لابن القيم ، ص 140 .
  47. رواه البخاري (3093) ، ومسلم (1759).
  48. رواه أبو داود (1887) وابن ماجه (2952) وأحمد (1/45) ، وقال محققو «المسند»: صحيح لغيره. وقال الألباني:  حسن صحيح.
  49. سورة البقرة: 284 .
  50. أي الله تعالى ، أي قد فعلت وأجبت دعائكم هذا ، تخفيفا من الله على عباده ، وهذا من بركة استسلامهم للأمر الإلـٰهي أن نَسَخَ الآية الأولى بهذه الآية.
  51. رواه مسلم (125).
  52. هو الإمام العلامة صدر الدين ، أبو الحسن ، علي بن علي بن محمد ، الدمشقي ، من علماء المائة الثامنة ، تأثر بشيخ الإسلام وانتصاره على خصومه من أهل البدع ، كان يرى التقيد بالكتاب والسنة وعدم التعصب لمذهب ما ، له الكتاب المعروف «شرح العقيدة الطحاوية» وهو عمدة في عقيدة أهل السنة والجماعة ، وله أيضا رسالة طيبة في الاتباع.
    تعرض رحمه الله لمحنة في دينه بسبب تعليقة على أبيات فيها شرك ، فصبر على تلك المـحنة وسجن وعُزر بسببها ، توفي رحمه الله سنة 792 . انظر ترجمته للمشايخ د. عبد الله التركي وشعيب الأرناؤوط ، و تقع في مقدمة تحقيق كتابه «شرح العقيدة الطحاوية».
  53. «شرح الطحاوية» لابن أبي العز (1/228).
  54. رواه البخاري (4642).
  55. رواه البخاري (3952).
  56. رواه مسلم (442).
  57. الخذف هو رمي الحصا ، بأن تُجعل الحصاة بين سبابتين ويُرمى بها. انظر «النهاية».
  58. رواه البخاري (5479) ومسلم (1954).
  59. السقاية إناء يشرب فيه. انظر «النهاية».
  60. هو أبو جعفر أحمد بن محمد بن سلامة بن سلمة الأزدي الحجري المصري الطحاوي الحنفي ، مات سنة 321 . انظر «السير» (15/27).
  61. وانظر شرح ابن أبي العز لعبارة الطحاوي رحمهما الله.
  62. أي النبي ﷺ .
  63. رواه مسلم (770).
  64. رواه الترمذي (3599) وابن ماجه (3833) ، وصححه الألباني رحمه الله.
  65. هو الشيخ العلامة المفسر الفقيه عبد الرحمـٰن بن ناصر السعدي ، من فحول علماء نجد ، استوطن بلدة عنيزة من مدن القصيم ، ولد عام 1307 وتوفي عام 1376 هجري ، تتلمذ على يده عدد من الطلبة صاروا فيما بعد من علماء المسلمين ، كالشيخ عبد الله بن عبد العزيز بن عقيل ، والشيخ عبد الله بن عبد الرحمـٰن البسام ، والشيخ محمد بن صالح بن عثيمين وغيرهم ، رحمهم الله.
    انظر ترجمته في كتاب «علماء نجد خلال ثمانية قرون» ، للشيخ عبد الله بن عبد الرحمـٰن البسام رحمه الله.
  66. سورة محمد: 24 .
  67. رواه أبو داود (4833) والترمذي (2378) ، وصححه الألباني رحمه الله.
  68. نافخ الكير هو الحدَّاد.
  69. يُحذيك أي يعطيك. انظر «النهاية».
  70. رواه البخاري (5534) ومسلم (2628).