[قل يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم ولا تــتبعوا أهواء قوم قد ضلوا من قبل وأضلوا كثيرا وضلوا عن سواء السبـيل]
الناقض الرابع[1]: الوقوع في شيء من نواقض الإسلام ، ورؤوس تلك النواقض عشرة ، قال الشيخ سليمان بن سحمان[2] رحمه الله:
ذكر أهل العلم نواقض الإسلام ، وذكر بعضهم أنها قريب من أربعمائة ناقض ، ولكن الذي أجمع عليه العلماء هو ما ذكره شيخ الإسلام ، وعَلم الهداة الأعلام ، الشيخ محمـد بن عبد الوهاب من نواقض الإسلام ، وأنها عشرة ، فقال رحمه الله:
اعلم أن نواقض الإسلام عشرة نواقض:
الأول: الشرك في عبادة الله وحده لا شريك له ،
قال الله تعالى
[إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء]
[3]
، [إنه من يشرك بالله فقد حرم الله عليه الجنة ومأواه النار وما للظالمين من أنصار]
[4]
، ومنه الـذبح لغير الله ، كمن يذبح للجن أو للقبر.
الثاني: من جعل بينه وبين الله وسائط يدعوهم ، ويسألهم الشفاعة ، ويتوكل عليهم ، كفر إجماعا.
الثالث: من لم يكفر المشركين ، أو شك في كفـرهم ، أو صحح مذهبهم ، كفر.
الرابع: من اعتقد أن غير هدي النبي ﷺ أكمل من هديه ، أو أن حُكم غيره أحسن من حكمه ، كالذين يفضلون حكم الطواغيت على حـكمه ، فهو كافر.
الخامس: من أبغض شيئاً مما جاء الرسول ﷺ - ولو عمل به - كفر.
السادس: من استهزأ بشيء من دين الله أو ثوابه أو عقابه كفر ، والدليل
قوله تعالى
[قل أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزئون * لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم]
[5].
السابع: السحر ، ومنه الصرف والعطف ، فمن فعله أو رضي به كفر ، والدليل
قوله تعالى
[وما يعلمان من أحد حتى يقولا إنما نحن فتنة فلا تكفر]
[6].
الثامن: مظاهرة المشركين ومعاونتهم على المسلمين ، والدليل
قوله تعالى
[ومن يتولهم منكم فإنه منهم إن الله لا يهدى القوم الظالمين]
[7].
التاسع: من اعتقد أن بعض الناس يسعه الخروج عن شريعة محمد ﷺ كما وَسِع الخضر الخروج عن شريعة موسى عليه السلام فهو كافر.
العاشر: الإعراض عن دين الله ، لا يتعلمه ولا يعمل به ، والدليل
قوله تعالى
[ومن أظلم ممن ذكر بآيات ربه ثم أعرض عنها إنا من المجرمين منتقمون]
[8].
ولا فرق في جميع هذه النواقض بين الهازل والجاد والخائف إلا المكره ، وكلها من أعظم ما يكون خطرًا وأكثر ما يكون وقوعًا ، فينبغي للمسلم أن يحذرها ، ويخاف منها على نفسه ، نعوذ بالله من موجبات غضبه وأليم عقابه. انتهى[9].
قال مقيده عفا الله عنه: ومن نواقض الإسلام أيضا إنكار شيء معلوم من الدين بالضرورة ، كإنكار وجوب الصـلاة أو الزكاة أو الحج ، أو إنكار تحريم الخمر والسرقة ، أو إنكار شيء من أركان الإيمان ، ونحو ذلك.
ولعل الشيخ لم يذكر هذا الناقض لأنها لم تكن واقعة في عهده بشكل صريح ، والذي يظهر من كلام الشيخ أنه اكتفى بذكر ما هو أكثر وقوعا ، كما قال في آخر كلامه.
الناقض الخامس: الغلو فيه ﷺ ، وفيه ثمانية مباحث:
الأول: تعريف الغلو لغة وشرعا
الثاني: تأصيل في حقوق الأنبياء الشرعية
الثالث: مقدمة في الغلو
الرابع: أقسام الناس في تعظيم النبي ﷺ
الخامس: تحذير النبي ﷺ من الغلو فيه
السادس: اتباع الصحابة لنبيهم في اجتناب الغلو في الأنبياء والصالحين
السابع: بيان أهم مظاهر الغلو في الأنبياء والصالحين مما هو من الشرك بالله ، ورؤوسها ستة
الثامن: فصل في بيان مظاهر محرمة في الغلو بالنبي ﷺ مما هو دون الشرك بالله ، ورؤوسها ثلاثة عشرة
تفصيل
المبحث الأول: تعريف الغلو لغة وشرعا
الغلو في اللغة هو مجاوزة الحد ، وفي الشرع مجاوزة الحد الشرعي في باب الاعتقاد أو العبادة ، والذي يعنينا في هذا السياق هو مجاوزة الحد في تعظيم النبي ﷺ وتوقيره فوق المنزلة التي أعطاه الله إياها ، والعلة في النهي عن الغلو ألا يصل الأمر إلى حد اتخاذه شريكا مع الله ، بصرف شيء من خصائص الله له ، سواء من الصفات كصفة علم الغيب ، أو من العبادات كالدعاء أو الذبح أو النذر له ، فهذا كله محرم ومخرج من ملة الإسلام ، فإن حق الله الذي لا يشاركه فيه مشارِك هو الاعتراف له بالكمال المطلق ، والغنى الـمطلق ، والتصرف الـمطلق من جميع الوجوه ، وأنه لا يستحق العبادة والتأله أحد سواه ، فمن غلا بأحد من المخلوقين حتى جعل له نصيبًا من هذه الأشياء ؛ فقد ساوى به رب العالمين ، ووقع في الشرك الأكبر الذي لا يغفره الله إلا بالتوبة قبل الممات[10].
المبحث الثاني: خطر الغلو
الغلو في الصالحين – عموما - هو الذي أدى بكثير من الأمم إلى الوقوع في الشرك ، بدءا من قوم نوح إلى أمة محمد ﷺ ، فقد كان منشأُ الشرك في عهد نوح عليه الصلاة والسلام من تعظيم الصالحين ، ففي صحيح البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما في تفسير
قول الله تعالى
[وقالوا لا تذرن آلهتكم ولا تذرن ودًّا ولا سواعا ولا يغوث ويعوق ونسرا]
قال: أسماء رجال صالحين من قوم نوح ، فلما هلكوا [11]أوحى الشيطان إلى قومهم أن انصبوا إلى مجالِـسهم التي كانوا يجلسون أنصابا [12]، وسموها بأسمائهم ، ففعلوا ، فلم تُعبد ، حتى إذا هلك أولئك وتـنسَّخ العلم [13]عُبدت[14].
وروى ابن جرير بإسناده إلى الثوري عن موسى عن محمد بن قيس أنه قال عن يغوث ويعوق ونسرا: كانوا قومًا صالحين من بني آدم ، وكان لهم أتباع يقتدون بهم ، فلما ماتوا قال أصحابهم الذين كانوا يقتدون بهم: لو صورناهم كان أشوق لنا إلى العبادة إذا ذكرناهم ، فصوّروهم ، فلما ماتوا وجاء آخرون دبَّ إليهم إبليس ، فقال: إنما كانوا يعبدونهم وبهم يسقون المطر ، فعبدوهم[15].
وقال ابن القيم: قال غير واحد من السلف: كان هؤلاء قومًا صالحين في قوم نوح عليه السلام ، فلما ماتوا عكفوا على قبورهم ، ثم صوروا تماثيلهم ، ثم طال عليهم الأمد فعبدوهم[16].
وبعد نشوء الشرك وعبادة الأصنام في قوم نوح تــتابع الناس على ذلك وانتشر بينهم كما قال ابن عباس رضي الله عنه: صارت الأوثان التي كانت في قوم نوح في العرب بعدُ ، أما وُد فكانت لكلب بدومة الجندل [17]، وأما سواع فكانت لهذيل ، وأما يغوث فكانت لمراد ثم لبني غطيف بالجرف عند سبأ ، وأما يعوق فكانت لهمدان ، وأما نسر فكانت لحِمير لآل ذي الكلاع[18].
وقال قتادة: كانت هذه الآلهة يعبدها قوم نوح ، ثم اتخذها العرب بعد ذلك[19].
وبناء على ما تقدم من الحقائق التاريخية ، فقد قرر ابن القيم في «زاد المعاد» أن غالب شرك الأمم كان من جهة الصور والقبور[20].
فصل
ولما كان الغلو من أعظم أسباب الانحراف ، سواء كان في حق من كانوا أنبياء أو من ليسوا بأنبياء ؛ نهى الله أهل الكتاب عن ذلك
، قال تعالى
[قل يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم ولا تــتبعوا أهواء قوم قد ضلوا من قبل وأضلوا كثيرا وضلوا عن سواء السبـيل]
[21].
قال ابن كثير رحمه الله في تفسير هذه الآية: أي لا تُجاوزوا الحد في اتباع الحق ، ولا تُطروا [22]من أُمرتم بتعظيمه ، فتبالغوا فيه حتى تخرجوه عن حيز النبوة إلى مقام الإلـٰهية ، كما صنعتم في المسيح ، وهو نبـي من الأنبياء ، فجعلتمـوه إلـٰها من دون الله ، وما ذلك إلا لاقتدائكم بشيوخكم ، شيـوخ الضلال ، الذين هم سلفكم ممن ضل قديماً. انتهى.
وقال في تفسير آية النساء )يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم ولا تقولوا على الله إلا الحق(:
ينهى تعالى أهل الكتاب عن الغلو والإطراء ، وهذا كثير في النصارى ، فإنهم تجاوزوا الحد في عيسى حتى رفعوه فوق المنـزلة التي أعطاه الله إياها ، فنقلوه من حيز النبوة إلى أن اتخذوه إلـٰهاً من دون الله ، يعبدونه كما يعبدونه ، بل قد غلوا في أتباعه وأشياعه مـمن زعم أنه على دينه ، فادعوا فيهم العصمة ، واتبعوهم في كل ما قالوه سواء كان حقاً أو باطلاً ، أو ضلالاً أو رشاداً ، أو صحيحاً أو كذباً ، ولهذا
قال الله تعالى
[اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله].
ثم ساق حديث عمر رضي الله عنه ، أن رسول الله ﷺ قال:
لا تطروني كما أطرت النصارى عيسى ابن مريم ، فإنما أنا عبد ، فقولوا: عبد الله ورسوله.انتهى.
[23]
وسيأتي في المبحث الخامس سرد مزيد أحاديث نبوية في نهي النبي ﷺ عن الغلو.
وقال قتادة: كانت هذه الآلهة يعبدها قوم نوح ، ثم اتخذها العرب بعد ذلك.
وبناء على ما تقدم من الحقائق التاريخية ، فقد قرر ابن القيم في «زاد المعاد» أن غالب شرك الأمم كان من جهة الصور والقبور.
المبحث الثالث: تأصيل في حقوق الأنبياء
قال الشيخ عبد الرحمـٰن بن محمد بن قاسم [24]رحمه الله في معرض كلام له عن حقوق الأنبياء صلى الله عليهم وسلم:
فإن فضلهم وحياتهم وكرامتهم ونبوتهم ورسالتهم لا تقتضي صرف حق الله لهم ، وتنـزيلهم منـزلة الملك الخلاق في القصد والدعاء والخوف والرجاء والرغبة والرهبة ، ولا يوجب ذلك صرف الوجوه عن علام الغيوب إليهم في شيء من المطالب والمقاصد الإلـٰهية التي بيده تعالى وتقدس ، بل ذلك لله وحده لا شريك له ، لا يشرَكه فيه نبي مرسل ، ولا ملَك مقرب ولا غيرهما ، وقد قال تعالى لأكرم خلقه وأفضل رسله }ليس لك من الأمر شيء{[25].
والغلو قد لا يصل إلى الكفر ، بل يكون في دائرة البدع الغير مكفرة ، فلا يعتبر الواقع فيه مرتكب لشيء من نواقض الإيمان بالنبي ﷺ ، بل يكون قادح فيه ، منتقص لأجره ، محتمل لِــوِزرِ الغلو.
وإن مما امتاز به هذا الدين الوسطية في كل شيء ، فلا إفراط ولا تفريط ، ولا غلو ولا إجحاف ،
قال تعالى
[وكذلك جعلناكم أمة وسطاً لتكونوا شهداء على الناس].
قال ابن كثير رحمه الله: والوسط هنا المراد به الخيار والأجود ، كما يقال: قريش أوسط العرب نسباً ودارا ، أي خيرها.
ولما جعل الله هذه الأمة وسطاً ؛ خصها بأكمل الشرائع وأقوم المناهج وأوضح المذاهب ،
كما قال تعالى
[هو اجتباكم وما جعل عليكم في الدين من حرج ملة أبيكم إبراهيم هو سماكم المسلمين من قبل وفي هذا ليكون الرسول عليكم شهيدا وتكونوا شهداء على الناس]
[26].
المبحث الرابع: أقسام الناس في تعظيم النبي ﷺ
ينقسم الناس في معاملة النبي ﷺ إلى ثلاثة أقسام:
أهل الجـفاء الذين يهضمونه حقه ، ولا يقومون بحقه الواجب من الحب والموالاة له والتوقير والتبجيل.
وأهل الغلو الذين يرفعونه فوق منـزلته التي أنـزله الله إياها ، بنسبة شيء من خصائص الله له ، والتي تقدم ذكرها في صورة الغلو.
وأهل الحق الذين يحبونه ويوالونه ويقومون بحقوقه الشرعية ، ويبرءون من الغلو فيه.
فصل
وقد سلك بعض أهل البدع مسالك منحرفة في باب تعظيم النبي ﷺ ، فالرافضة الغلاة فضلوا أئمتهم المعصومين – بزعمهم - على النبي ﷺ .
والصوفية الباطنية الذين فضلوا الأولياء والأقطاب على النبي ﷺ .
يقابل هاتين الطائفتين طائفة الغلاة ، الذين غلوا في تعظيم النبي ﷺ حتى عبدوه ، وصرفوا له خالص حق الله تعالى من أفعال العباد ، من دعاء ونذر وذبح وغير ذلك ، أو وصفوه بصفات الله الخاصة به كعلم الغيب ونحو ذلك ، ويغلب هذا في عباد القبور.
ومن ألـوان الغلو ما يفعله بعض أهل البدع من تعظيم للنبي ﷺ بأنواع من التعظيم البدعي ، لم يعرفها صحابة رسول الله ﷺ ، كعمل الموالد ، أو التوسل بجاهه ، وغير ذلك مما سيأتي ذكر بعض أنواعه.
أما أهل السـنة والجماعة – جعلنا الله والقارئين منهم – فعظموا النبي ﷺ التعظيم الشرعي ، واجتنبوا طرق التعظيم البدعي والشركي.
المبحث الخامس: تحذير النبي ﷺ من الغلو فيه
وقد كان النبي ﷺ يزجر الناس ويحذرهم عن الغلو فيه في حياته وحتى سياق الموت ، وسنقتصر هنا على ذكر عشرة أحاديث:
1. عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال:
سمعت النبـي ﷺ يقول: لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم ، فإنما أنا عبد ، فقولوا: عبد الله ورسوله
[27].
والإطراء هو مجاوزة الحد في المدح[28].
قال الشيخ أحمد بن يحيى النجمي[29] رحمه الله:
والإطراء هو أن يُرفع فوق منـزلته ، ويُعطى أكثر من حقه.
وقد فرَّق الله بين حقه الخاص به والحق المشترك بينه وبين رسوله ﷺ
فقال تعالى
[ومن يطع الله والرسول ويخشى الله ويتقه فأولئك هم الفائزون].
فجعل الطاعة مشتركة بينه وبين رسوله ، وخص نفسه بالخشية والاتقاء ، لأن هاتين الخصلتين من خصائصه سبحانه وتعالى[30].
2. وعن قيس بن سعد رضي الله عنه قال:
أتيت الحِيرة ، فرأيتهم يسجدون لمرزُبان لهم فأتيت النبـي ﷺ فقلت: إني أتيت الحيرة[31] فرأيتهم يسجدون لمرزبان [32]لهم ، فأنت يا رسول الله أحق أن نسجد لك ، قال: أرأيت لو مررت بقبـري أكنت تسجد له؟ قلت: لا. قال: فلا تفعلوا ، لو كنت آمرا أحدا أن يسجد لأحد لأمرت النساء أن يسجدن لأزواجهن لما جعل الله عليهن من الحق
[33].
3. ولما قدم معاذ رضي الله عنه من الشام سجد للنبـي ﷺ فقال:
ما هذا يا معاذ؟ فقال: أتيت الشام ، فوجدتهم يسجدون لأساقفتهم [34]وبطارقتهم[35] ، فأردت أن أفعل ذلك بك. قال: فلا تفعـل ، فإني لو أمرت شيئا أن يسجد لشيء لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها
[36].
4. وعن ابن بريدة عن أبـيه قال:
جاء أعرابـي إلى النبـي ﷺ فقال: يا رسول الله ، إيذن لي فلأسجد لك. قال: لو كنت آمرا أحدا أن يسجد لأحد لأمرت المرأة تسجد لزوجها
[37].
وقد تكرر هذا الفعل عدة مرات أمام النبي ﷺ ، وكان النبي ﷺ ينكره في كل مرة أشد الإنكار[38].
5. وعن ابن عباس رضي الله عنه أن رجلا قال للنبي ﷺ :
ما شاء الله وشئت. فقال له النبي ﷺ : أجعلتني والله عدلاً؟ بل ما شاء الله وحده[39]. وفي لفظ: جعلت لله ندا؟ ما شاء الله وحده
[40].
6. وعنه قال: قال رسول الله ﷺ :
إذا حلف أحدكم فلا يقل: ما شاء الله وشئت ، ولكن ليقل: ما شاء الله ثم شئت
[41].
7. وعن طُفيل بن سَخبرة رضي الله عنها أخي عائشة لأمها
، أنه رأى فيما يرى النائم كأنه مر برهط من اليهود فقال: من أنتم؟ قالوا: نحن اليهود. قال: إنكم أنتم القوم لولا أنكم تزعمون أن عزيرا ابن الله. فقالت اليهود: وأنتم القوم لولا أنكم تقولون: ما شاء الله وشاء محمد. ثم مر برهط من النصارى فقال: من أنتم؟ قالوا: نحن النصارى. فقال: إنكم أنتم القوم لولا أنكم تقولون: المسيح ابن الله. قالوا: وأنتم القوم لولا أنكم تقولون: ما شاء الله وشاء محمد. فلما أصبح أخبر بها من أخبر ، ثم أتى النبي ﷺ فأخبره فقال: هل أخبرت بها أحدا؟ قال عفان[42]: قال: نعم ، فلما صـلوا خطبهم ، فحمد الله وأثنى عليه ، ثم قال: إن طفيلا رأى رؤيا ، فأخبر بها من أخبر منكم ، وإنكم كنتم تقولون كلمة كان يمنعني الحياء منكم أن أنهاكم عنها ، قال: لا تقولوا ما شاء الله وشاء محمد[43].
8. وعن خالد بن ذكوان قال: قالت الرُّبـيِّع بنت مُعوِّذ:
جاء النبيُّ ﷺ يدخل حـين بُنِيَ عليَّ [44]، فجلسَ على فِراشي كمجلِسكَ منّي ، فجعلتْ جُوَيْرِياتٌ[45] لنا يَضربنَ بالدُفِّ ويَندُبنَ [46]مَن قُتلَ من آبائي يومَ بدرٍ ، إذ قالت إحداهنَّ: وفينا نبيٌّ يَعلمُ ما في غَدِ. فقال: دَعي هذِهِ وقولي بالذيِ كنتِ تقولين[47]. وفي لفظ قال: أَمَّا هٰذَا فَلاَ تَقُولُوهُ ، مَا يَعْلَمُ مَا فِي غَدٍ إِلاَّ اللَّه[48]. وأخرج الطبراني في «الأوسط» من حديث عائشة أن النبي ﷺ مر بنساء من الأنصار في عرس لهنَّ يُـغَــــنِّين: وأهدى لها كبشاً تنحنح في الـمِربد[49] وزَوجُكُمُ في النادي [50]ويعلمُ ما في غدِ فقال رسولَ الله ﷺ : لا يعلم ما في غدٍ إلا الله
[51].
9. ولم يقف النبـي ﷺ عند هذا ، فقد نهى عن مدحه بما فيه من الخصال سدًّا لباب الغلو فيه ، فكيف بمن مدحه بما ليس فيه ، كمن نسب له شيئا من خصائص الربوبـية أو الألوهية؟!
فعن عبد الله بن الشخير رضي الله عنه قال:
انطلقت في وفد بني عامر إلى رسول الله ﷺ فقلنا: أنت سيدنا. فقال: السيد الله تبارك وتعالى. قلنا: وأفضلنا فضلا ، وأعظمُنا طَولا[52]. فقال: قولوا بقولكم أو بعض قولكم ، ولا يستجرينكم الشيطان
[53].
10. وعن أنس رضي الله عنه أن أناسا قالوا:
يا رسول الله ، يا خيرنا وابن خيرنا ، وسيدنا وابن سيدنا ، فقال: يا أيها الناس ، عليكم بتقواكم [54]، لا يستهوينكم الشيطان ، أنا محمد بن عبد الله ، عبد الله ورسوله ، والله ما أحب أن ترفعوني فوق منـزلتي التي أنـزلني.
[56]
ففي هذين الحديثين وغيرهما نرى كيف سد النبـي ﷺ طرق الغلو بأن نهى عن مجرد الزيادة في مدحه وإن كان المدح منصبا على ما فيه من الخصال ، فهو سيد ولد آدم وخير الناس وأفضـلهم ،
ولكن لما كان ذلك المدح يفضي إلى الغلو فيه وربما عبادته ، نهاهم عنه ، وقال لهم: لا يَستجرينَّـــكم الشيطان ، أي لا يتدرج بكم ويستزلكم إلى الغلو فيَّ.
قال الشيخ صالح آل الشيخ في «كفاية المستزيد بشرح كتاب التوحيد»:
فإن في سنة النبي عليه الصلاة والسلام من الدلائل على قاعدة سد الذرائع ما يبلغ مائة دليل أو أكثر ، وأعظم الذرائع التي يجب أن تسد ذرائع الشرك التي توصل إليه ، ومن تلك الذرائع قول القائل: أنت سيدنا وابن سيدنا ، وخيرنا وابن خيرنا ونحو ذلك[57].
11. وعن جابر رضي الله عنه قال:
اشتكى رسول الله ﷺ فصلينا وراءه وهو قاعد ، وأبو بكر يُسمِع الناس تكبيره ، فالتفت إلينا فرآنا قياما فأشار إلينا فقعدنا ، فصلينا بصلاته قعودا[58] ، فلما سلّم قال: إن كدتم آنفا لتفعلون فعل فارس والروم ؛ يقومون على ملوكهم وهم قعود ، فلا تفعـلوا ، ائتموا بأئمتكم ، إن صلى قائما فصلوا قياما ، وإن صلى قاعدا فصلُّوا قعودا.
[59]قال ابن تيمية رحمه الله: فإذا كان قد نهاهم مع قعوده – وإن كانوا قاموا في الصلاة – حتى لا يتشبهوا بمن يقومون بعظمائهم ، وبيّن أن من سَرَّه القيام له كان من أهل النار ، فكيف بما فيه من السجود له ، ومن وضع الرأس [60]وتقبيل الأيادي[61]؟
أي أعظمُنا عطاءً وعلُواً على الأعداء ، انظر شرح الحديث في «عون المعبود».
أي عليكم بمراعاة تقوى الله في أقوالكم.
واللفظ الآخر لأحمد وهو لفظ ابن حبان: (قولوا بقولكم) ، أي تكلموا بما يحضركم من القول ، ولا تتكلفوا ، كأنكم وكلاء الشيطان ورسله ، تنطقون عن لسانه. نقلا من حاشية «المسند» (21/167).
رواه أحمد (3/153 ، 241) ، واللفظ له ، والنسائي في «عمل اليوم والليلة» (248) (249) ، وابن حبان (6240) ، وصححه محققو «المسند» وقالوا: على شرط مسلم. (20/23).