الإيمان بالكتب

تحت قسم: الإيمان بالكتب


إنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ، نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إلـٰه إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ.

أما بعد، فإن خير الكلام كلام الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.

قال تعالى

﴿لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنـزلنا معهم الكتاب والميزان﴾

الأول‏:‏ الإيمان بأنها أُنـزلت من عند الله حقاً‏، كما قال تعالى في وصف المؤمنين ﴿آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله﴾.

وإنزال الكتب كان من طريق الوحي، فقد أوحى الله بالكتب إلى المـلك المختص بإنزال الوحي من السماء إلى الأنبياء، وهو جبريل، ثم بلَّغ جبريل كل نبي كتابَه الخاص به.

الثاني مما يتضمنه الإيمان بالكتب: الإيمان بما علمنا اسمه منها، وهي ستة، صحف إبراهيم وموسى، والتوراة التي أُنـزلت على موسى عليه السلام، والإنجيل الذي أُنـزل على عيسى عليه السلام، والزبور الذي أُوتيه داود عليه السلام، والقرآن الذي أنـزل على محمد (صلى الله عليه وسلم)، وبعض العلماء يقول إن صحف موسى هي التوراة، فيكون عدد الكتب خمسة.

وأما مالم يأت ذكر اسمه من تلك الكتب فنؤمن به إجمالاً‏.

الثالث مما يتضمنه الإيمان بالكتب: الإيمان بالكتب الأصلية التي أنزلها الله على أنبيائه، وليس بما تحرف منها، فنؤمن مثلا بالتوراة التي أنزلها الله على موسى عليه السلام، ونؤمن بالإنجيل الذي أنزله الله على المسيح عيسى ابن مريم عليه السلام، فتلك هي التوراة وذلك هو الإنجيل، وليست الكتب المنتشرة الآن في أيدي اليهود والنصارى هي التوراة والإنجيل الأصلــيَّــيْــن اللذَين أنزلهما الله على موسى وعيسى، وإن سَـمَّـوها بذلك، بل الذي بيد أهل الكتاب إنما هي إملاءات من أناس كتبوا ما سمعوه عمن قبلهم، وفيها صواب وخطأ، ثم نسبها من بعدهم إلى التوراة والإنجيل الأصليين، فتتابعت القرون على هذا الاعتقاد، فضلوا وأضلوا.


ولما تعرضت كتب الأنبياء للضياع ولم تحفظ، أرسل الله نبيه محمدا (صلى الله عليه وسلم) بالقرآن، وحفِظه من التحريف والضياع

كما قال تعالى

﴿إنا نحن نزلنا الذِّكر وإنا له لحافظون﴾

والذِّكر هو القرآن.

عباد الله، الرابع مما يتضمنه الإيمان بالكتب:‏ تصديق ما صحَّ من أخبارها، كأخبار القرآن، والأخبار التي لم تُبدل أو تُحرف من الكتب السابقة‏، وأما ما لم يشهد القرآن والسنة بصدقه ولا كذبه فلا نصدقه ولا نكذبه، عملا بقول النبي (صلى الله عليه وسلم): ما حدّثكم أهل الكتاب فلا تصدقوهم ولا تكذبوهم، وقولوا (آمنا بالله ورسله)، فإن كان باطلا لم تصدقوه، وإن كان حقا لم تكذبوه.[2]

الخامس مما يتضمنه الإيمان بالكتب: العمل بأحكام ما لم يُنسخ منها،

عملا بقول الله تعالى

﴿يريد الله ليبين لكم ويهديكم سنن الذين من قبلكم ويتوب عليكم﴾

وقوله تعالى

﴿أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده﴾

ومن الأحكام الغير منسوخة مثلا أحكام القصاص، قال تعالى عن التوراة ﴿وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس والعين بالعين والأنف بالأنف والأذن بالأذن والسن بالسن والجروح قصاص﴾، فهذا الحكم معمول به أيضا في شرعنا، لأن شرعنا لم يأت بخلافه ولم ينسخه.

السادس مما يتضمنه الإيمان بالكتب: الإيمان بأنــها تدعو إلى عقيدة واحدة وهي التوحيد بأنواعه الثلاثة، توحيد الربوبية وتوحيد الألوهية وتوحيد الأسماء والصفات.

السابع مما يتضمنه الإيمان بالكتب: الإيمان بأن القرآن حاكمٌ ومهيمنٌ على جميع الكتب السابقة، فهي منسوخة به على وجه الإجمال،

قال تعالى

﴿‏وَأَنـزلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ﴾

‏ والنسخ يتطرق للشرائع، المتضمنة للعبادات والمعاملات، أما العقائد فإن النسخ لا يتطرق إليها، بل العقائد ثابتة في الشرائع كلها، وهي الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشره. 

قال ابن تيمية رحمه الله: وهكذا القرآن؛ فإنه قرر ما في الكتب المتقدمة من الخبر عن الله وعن اليوم الآخر، وزاد ذلك بيانا وتفصيلا، وبَيَّـن الأدلة والبراهين على ذلك، وقَـــرَّر نبوة الأنبياء كلهم، ورسالة المرسلين، وقرَّر الشرائعَ الكلية التي بُعثت بها الرسل كلهم، وجادل المكذبين بالكتب والرسل بأنواع الحجج والبراهين، وبَيَّـن عقوبات الله لهم ونصره لأهل الكتب المتبعين لها، وبَيَّـن ما حُرِّف منها وبُدِّل، وما فَعله أهلُ الكتابِ في الكتب المتقدمة، وبَيَّـن أيضا ما كتموه مما أمر الله ببيانه، وكلَّ ما جاءت به النبوات بأحسن الشرائع والمناهج التي نـزل بها القرآن، فصارت له الهيمنة على ما بين يديه من الكتب من وجوه متعددة، فهو شاهد بصدقها وشاهد بكذب ما حُرِّف منها، وهو حاكم بإقرار ما أقره الله، ونَسْخِ ما نسخه الله، فهو شاهد في الخبريات، حاكم في الأمريات. انتهى كلامه رحمه الله.[3]

وقال أيضا: وأما القرآن فإنه مُستَقلٌّ بنفسه، لم يُـحْوِجْ أصحابه إلى كتابٍ آخر، بل اشتمل على جميع ما في الكتب من المحاسن، وعلى زيادات كثيرة لا توجد في الكتب، فلهذا كان مصدقا لما بين يديه من الكتاب ومهيمنا عليه،

يقرر ما فيها من الحق ويُـــبْــطل ما حُرِّف منها، ويَنسخ ما نسخه الله، فيُقرر الدين الحق، وهو جمهور ما فيها[4]، ويُبطل الدين المبدَّل الذي لم يكن فيها، والقليل[5] الذي نُسِخ فيها، فإن المنسوخ قليل جدا بالنسبة إلى المُحكم المقرر. انتهى.[6]

ومما اتفقت عليه الكتب السماوية الإيمان بأصول العقيدة، وهي الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وبالقدر خيره وشره.

ومما اتفقت عليه الكتب السماوية وجوب الـــتَّعبدِ للهِ تعالى بعبادات معينة، كالصلاة والزكاة والصوم والحج، ولكن تلك العبادات تختلف عن بعضها في كيفية أدائها بحسب الناس الذين بُعِث إليهم ذلك النبي، فالتوراة مثلا أمرت بالصلاة، وكذلك الإنجيل والقرآن، لكن كيفية الصلاة وتوقيتها يختلف بين هذه الشرائع الثلاث، ولكنها في النهاية تشترك في كونها عبادة لله وحده، ينبغي أن تؤدى على نحو ما، بينته تلك الشريعة لأتباعها.

وكذلك الأمر يقال بالنسبة لعبادة الصوم وغيرها من العبادات.

ومما اتفقت عليه الكتب السماوية الأمر بحفظ الضروريات الخمس، وهي الدين والعقل والمال والعرض والنفس.

ومما اتفقت عليه الكتب السماوية الأمر بالعدلِ والقِسطِ، قال تعالى ﴿لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنـزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط﴾.

ومما اتفقت عليه الكتب السماوية الأمر بمحاسن الأخلاق والنهي عن قبيحها، فأمرت مثلا ببر الوالدين وصلة الأرحام وإكرام الضيف والعطف على الفقراء والمساكين والقول الحسن ونحو ذلك، كما أنها تنهى عن القبائح، كالظلم والعدوان وعقوق الوالدين وانتهاك الأعراض والغيبة والكذب والسَّرقة وغير ذلك.

وبعد، فهذه مقدمة نافعة في باب الإيمان بالكتب، بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا واستغفر الله لي ولكم من كل ذنب فاستغفروه، إنه كان للتوابين غفورا.


الخطبة الثانية

الحمد لله وكفى، وسلام على عباده الذين اصطفى، أما بعد، فاعلموا رحمكم الله أن الله تعالى بيَّـن في كتابه أن أعظم الكتب هما القرآن والتوراة، وكثيرا ما يجيء ذكـــــرهما في القرآن مقترنين، لأنهما أفضل الكتب، وشريعتيهما أكمل الشرائع.[7]